شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رمضان.. أيام زمان
تدور عجلة الزمن فتنهي في دورتها اثني عشر شهراً لنستقبل شهر رمضان المبارك، شهر الخيرات والبركات. ولقد كان لهذا الشهر المبارك صولة وجولة في نفوس أكابرنا حدثونا عنه حديثاً كله بر وتقوى وتجرد. فقد كان أغنياء الحارة في كل بلد من بلدان هذا القطر المقدس يجندون أنفسهم وإمكانياتهم لعمل الخير، الخير بكل معانيه فكان كل كبير في الحارة يتحسس بنفسه حاجات جيرانه وأبناء حارته ويسعى بجاهه وماله ليسد كل مطالب أصحاب الحاجة من الأقارب والمعارف والجيران - فيهيئون الغذاء والكساء والرخاء للمعيلين والفقراء - فكانت الزنابيل تملأ بالأرزاق - ليطرق حاملها الأبواب المعنية فيوصلها إلى أهل الدار هدية رمضان المبارك، وكثيراً ما كان أهل الدار لا يعرفون عن المرسل شيئاً وربما كان ألصق جار بهم. ولم يكن هذا سعيهم فحسب بل كانوا يتحرون أصحاب الديون العاجزين فيسددون ديونهم ويتابعون المحكوم عليهم بالحبس والغرامة فيتوسلون بجاههم ومالهم لإطلاق سراحهم وإدخال السرور على عوائلهم وأطفالهم.
وكان الحكام يتجاوبون كل التجاوب مع هذه العواطف فلا يردون سعي ساعٍ أو يخيبون أمل آمل بل كانوا يشاركونه بالتسامح والمال والتوسط لدى من هم أعلا مقاماً منهم - وكانت عاطفة الخير تطغى على الكثيرين فيقف عند بابه كل يوم قبل موعد الإفطار بوقت كافٍ ليرجو عدداً من جيرانه أن يشاركوه طعام الإفطار ولا يرضى حتى يجتمع إلى مائدته نفر ألزم بهم نفسه كل يوم - وكانت هذه المشاركة بهذه الروح العالية الكريمة تُنسي الفقير فقره والمهموم همه والمعيل ثقل عياله فيعم الابتهاج ويكثر التزاور وتذوب الفوارق ويعيش المواطنون وقد سمت نفوسهم وتقاربت أرواحهم، ولم يرض أحد منهم أن يبقى بينه وبين خدين له ورفيق سوء تفاهم أو انقطاع مودة فيسعى المخطىء والمصيب إلى دار رفيقه لتصفى نفسه ويعيد أسباب المودة المنقطعة ويودع كل منهم الآخر فيقول رمضان كريم، ويشكر المتخلف السابق على فضل السبق.
وكان التجار حين يعرضون بضائعهم التي تستوجبها تقاليد هذا الشهر يتوخون أن يستطيع صاحب العيال المقل فيأخذ كفايته مما هو في حاجة إليه بكل وسائل التساهل والتسامح، وهكذا كان هذا الشهر المبارك شهراً ميمون البركات عام الخيرات يهلل له الكبير والصغير ويرفل في خيراته الغني والفقير، فلياليه كلها محافل وساعاته كلها ساعات مرح وبشر وحبور، المساجد ملأى بالمصلين والبيوت ملأى بالزائرين، تضج الحارات بالأطفال من كل سن يلعبون ويمرحون لا تهدأ الحركة من بعد صلاة التراويح حتى صلاة الفجر في فرح ومرح وابتهال.
وما نحن فيه اليوم:
ونحن وإن لم ندرك كل ما رواه لنا الأكابر فقد أدركنا شبحه الماثل في كل رمضان استقبلناه في صدر الشباب، فإن جائحة الحروب المتتالية حدت من مواقف البذل والتضحية ولكنها لم تمح الآثار تماماً.
واليوم وقد طغت المادة على كل شيء فإن آثار هذا الشهر المبارك قد بدت باهتة خفيفة الظلال لا تكاد تلمس، فالفقير والمعيل تثقل همومه وتكبر حاجته وتقل قدرته فلا يكاد يحس بروحانية ولا ينتظم له حساب. والغني المترف تثقله التخمة فلا ينفك في نهاره من الاستعداد بأصناف الطعام وفي ليله من تخمة الطعام من كثرة ما يأكل. والتاجر يجمع كل طاقاته لينتهز فرصة مطالب هذا الشهر فيشتد ويقسو ليربح أكثر - لقد تناسى الناس أنهم يعيشون على هذه الأرض أمداً محدوداً وتناسوا أنهم في حاجة إلى ما يقدمون من حسنات يوم لا ينفع مال ولا بنون - نسي أنه جاء إلى هذه الدنيا قطعة تافهة لا يملك من أمره شيئاً فسخر الله له من عني بأمره وأكمل رجولته ثم اسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
يخيل إلي أننا نبتعد عن الله كلما فتحت لنا الدنيا أبواب كنوزها وفجرت لنا الأرض ينابيعها - إنه مطلوب من كل منا في هذا الشهر المبارك، أن يسأل نفسه: لماذا أنا أعيش؟ ما هي رسالتي في الحياة؟ أحقاً جئت لآكل وأشرب وأجمع المال ثم أموت جيفة كما يموت الحيوان؟! لا.. إن الإنسانية تتنافى مع هذا، فرسالة الإنسانية في هذه الحياة هي البناء والتضحية وفعل الخير للخير..
إن الذي يكد ليجمع المال ويكدسه ظناً منه أنه يبني مجد أبنائه قد خاب في ظنه فمجد الإنسانية في الجهد والكسب والعطاء والبذل أن الذي يفعل هذا محروم من جهده وكده، فكما هو مطلوب منك أن تترك لولدك من المال ما يستطيع أن يجعل منه وسيلة لكده وجهده.. مطلوب منك أن تقدم لآخرتك مما كسبت يداك فهو خير ثمرة تجنيها من هذا المال - هذا إذا كان المال حلالاً صافياً - أما إذا اختلط فيه الأمر فقد يكون فعل الخير فيه تكفير لسيئاته وتخفيف عنك من عذابه. إنه مطلوب منك أيها المواطن أن تعيش مع الله في هذا الشهر المبارك فتعيش رحيماً عطوفاً باذلاً معيناً. لا تتردد، فما تبذله في هذا الشهر المبارك سيضاعف أجره وتعوض مادته إنه فرصة القادر، إنه نور الإيمان يشع في قلوب المؤمنين القادرين.. رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (سورة آل عمران، آية: 8) فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (سورة الحج، آية: 46) - إن هذا الشهر المبارك هو فرصة القادرين ومفتاح سعادة المعذبين الحائرين فلنجهد ألا تضيع علينا هذه الفرصة العزيزة الغالية فقد تكون ساعات العمر المحدودة قاب قوسين ولات ساعة مندم.
رمضان.. الشهر المبارك.. وما بعده:
عهدي بهذا الشهر المبارك يمتاز بين شهور العام بروح الطيبة والسماح والقناعة والتعاون التي تسود بين الناس، فإنك أينما ذهبت خاصة في ساعات النهار تكاد تحس بهذه المعاني وتلمسها لدى التاجر والبياع والحامل والعامل - تحس أنهم جميعاً يشاركونك في العبء ويتحملون معك مسؤولية الحياة؛ فالتاجر لا يغالي وأنت لا تساوم والبياع والعامل والحامل لا يطمعون ولا يعاندون ويتم التفاهم في هدوء ورضى.
وعهدي بالناس من كل الطبقات يتوجهون بكليتهم في هذا الشهر المبارك إلى الله فيحرصون على حضور الصلوات الخمس في المساجد ويسمعون دروس الوعظ والإرشاد فيزيد صفاء نفوسهم وتسمو أرواحهم حتى لتكاد تنعدم العلاقة بينها وبين المادة التي تحجب العيون وتثقل النفوس.
وعهدي بالحكام يحاسبون أنفسهم ويلجأون إلى الله خائفين تائبين ضارعين يسألونه التوفيق والهداية.
وعهدي بالعلماء والمرشدين يطلقون ألسنتهم ويفتحون قلوبهم فيخلصون الوعظ والإرشاد ويتفانون في الهداية والتذكير، وبهذا التفاني من ناحيتهم وبذلك الإقبال من ناحية الجمهور تضىء معالم رمضان وتتسابق فضائله في الظهور فنحيا حياة مثالية نود لو لم تنته وتجري على الألسنة في براءة وطهر هذه الأمنية يا ليتك يا رمضان ثلاثون في ثلاثين. كنا نود أن يكون هذا المظهر الرائع الذي اختص به هذا الشهر المبارك يستمر تأثيره حتى نهاية السنة في كل شهورها ولكن مع الأسف الشديد قد بدأ يضمحل هذا المظهر وتخبو جذوته في هذه السنين الأخيرة - وافتقدنا روح الطيبة والسماحة والقناعة والتعاون بين الطبقات وافتقدنا توجههم نحو الله فلم يعودوا يعمرون المساجد كما كانوا يعمرونها ولم تعد للنصح والنصائح والوعظ والوعاظ تلك الجاذبية والقوة التي كانوا يقودون بها الناس إلى التوجه إلى الله والسمو بأنفسهم وأرواحهم.
فهل نحن مصرون على انصرافنا إلى المادة هذا الانصراف المجنون؟
اللَّهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا. ومن سيئات أعمالنا.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :612  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 60 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.