(( كلمة المحتفى به الدكتور يوسف عيسى ))
|
ثم تحدث الأستاذ الدكتور يوسف عز الدين عيسى فقال: |
- الحمد لله الذي أتاح لي هذه الفرصة.. التي جمعتني هنا في هذه البلاد العريقة المباركة بصفوة القوم.. وهذه سعادة ما بعدها سعادة، سأظل طول حياتي سعيداً بها مدى الحياة. ويشرفني أن أجتمع مع سيادتكم هذه الليلة، ويشرفني أن أتحدث إليكم، وأشكركم جزيل الشكر على إتاحة هذه الفرصة الذهبية لي وأتعشم وأرجو من الله أن أكون أهلاً لبعض ما قيل من هذه الكلمات الجميلة. |
- عندما أنظر إلى حياة إنسان مثلي.. يخيل إليَّ كأنني ألتفت إلى الخلف في شارع طويل يكاد يكتنفه الظلام في النهاية. وأول شيء أذكره في حياتي، وهذه ربما تهم أي طبيب نفساني أن يعرفها، لأنه في بعض الأحيان يسأل ما هو أول شيء تذكره في حياتك.. أول شيء أذكره في حياتي.. خادمة تحملني على كتفها، ولا بد أنني كنت صغير السن جداً.. وتدور حول منضدة وتغني، وما زلت أذكر الأغنية، وأعتقد أن سني في ذلك الوقت لم يكن يتجاوز نحو عامين، وأذكر الأغنية وهي: اللوب اللوب اللوب.. الهوا شق التوب.. اللوب اللوب اللباليب الهوا شق الجلاليب... |
- وبعد ذلك تقفز الذاكرة إلى الكُتَّاب.. كُتَّاب القرية. أنا نشأت في قرية شبه معزولة لدرجة أنني كنت أتصور أن حدود العالم تنتهي عند حدود قريتي، ولا أدري ما وراءها، لدرجة أنني عندما ذهبت إلى مدينة الزقازيق وهي عاصمة محافظة الشرقية انبهرت بهذه المدينة التي لم أكن أتصورها. ودخلت الكتاب.. تعلمت فيه، وكان صاحب الكُتَّاب ذا فضل عليّ كبير، لأن المدارس في ذلك الوقت كانت تمتحن المتقدم إليها ولا بد أن يجتاز الامتحان قبل دخوله المدرسة. ونجحت في هذا الامتحان، وكان ترتيبي الأول بين المتقدمين، وكان الفضل في هذا للشيخ محمد راشد صاحب الكُتَّاب الذي علمني، وهو أول من علمني. |
- وبعد ذلك ظهرت بعض بوادر عجيبة كانت كامنة في نفسي، وهي تكاد تكون ظاهرة مَرَضِية، وهي حبي الشديد للكِتاب. منذ بدأت أقرأ في الكُتَّاب كنت أحب الكتب حبا غير عادي، لدرجة أني كنت أطلب من والدي أن يحضر لي كتباً.. أي كتب، وعندما كنت أسير في القرية كنت أتأبط كتاباً وحيثما أجلس أقرأ في هذا الكتاب، وظلت هذه الصفة ملتصقة بحياتي إلى يومنا هذا. وكنت وأنا في سن الثانية عشرة من عمري أذهب من قريتي إلى مدينة الزقازيق سيراً على الأقدام مسافة لا تقل عن حوالي (7) كيلومترات، لأقرأ في مكتبة البلدية في أيام الإِجازات، وأعود بين الحقول في الظلام والذئاب تعوي على الجانبين، وأسير بين هذه الحقول وحيداً في كثير من الأحيان، لا يوجد إنسان غيري يسير، وأرتعد خوفاً، وأقرر عدم الرجوع إلى هذا التهور مرةً أخرى والذهاب إلى مكتبة البلدية والعودة في الظلام، ولكن بمجرد طلوع النهار أنسى هذا، ويتغلب حبي للكتاب على خوفي من الذئاب وأعاود هذا مرةً بعد أخرى. هذه أشياء أذكرها وكأنها حدثت منذ أجيال بعيدة. |
- وعندما انتهيت من الدراسة الابتدائية، وكنا في ذلك الوقت نمتحن إلى جانب الامتحانات التحريرية - امتحانات شفوية ليختبرونا في سلامة النطق وليست الكتابة فقط.. فكنا نمتحن امتحانات تحريرية في الابتدائية وامتحانات شفوية، وكذلك في الشهادة التالية - كانت تسمى في ذلك الوقت الكفاءة - ثم في البكالوريا التي هي الثانوية العامة الآن. |
- وما زلت أذكر أنني في المحفوظات لم أكن أميل إلى حفظ الأشياء المقررة التي في كتاب المدرسة، بل أبحث عن أشياء خارج الكتاب وأحفظها، لأنني أعتقد بيني وبين نفسي في ذلك الوقت أن الأساتذة الذين سيقومون بامتحاني الشفوي سوف يسمعون مراراً وتكراراً نفس القطع فيشعرون بالملل. فأريد أن أكسر هذا الملل بحفظ أشياء لم يسمعوها من جميع التلاميذ، وأذكر أن ما قلته في الابتدائية قصيدة لعائشة التيمورية ترثي بها ابنتها التي توفيت وهي عروس، وما زلت أحفظ تلك القصيدة منذ ذلك الوقت حتى الآن، ومطلعها: |
إنْ سَالَ من غربِ العيونِ بحورُ |
فالدهرُ باغٍ والزمانُ غَدورُ |
ولكل عين حقُ مدرار الدِّما |
ولكل قلب لوعةٌ وثبورُ |
سُتِـر السَّنـا وتحجَّبـت شمـسُ الضُّحى |
وتغيبت بعد الشروق بدورُ |
ومضـى الـذي أهـوى وجرَّعني الأسـى |
وغدت بقلبي لوعَةٌ وثبورُ |
|
- إلى أن جـاء البيت الذي تقول فيه: |
جاء الطبيب ضُحىً وبشَّر بالشِفا |
إن الطبيبَ بطبِّهِ مَغْرورُ |
|
|
- عند ذلك لم أتمكن من تكملة القصيدة ودمعت عيناي واختنقت بالبكاء، ففزع الممتحن وقال: ما بك يا بني.. ما بك؟ قلت له: تأثرت، فطلبوا مني أن أذهب لأستريح وأعطوني الدرجة النهائية في هذا الامتحان. |
- ثم أذكر في الكفاءة أنني حفظت قطعة نثرية لأحمد شوقي الشاعر، قرأتها في مجلة الهلال، وحفظتها وما زلت أحفظها حتى هذه اللحظة، وكانت كالفاكهة لأن أحمد شوقي أمير الشعراء وعندما يكتب قطعة نثرية.. فهذا شيء جديد، فحفظتها وأعجبت الممتحنين ولفت أنظارهم جداً، لدرجة أنهم لم يسألوني في النحو. في تلك الأيام استشرى في البلد استخدام المخدرات، فكتب شوقي هذه القطعة: |
- "أرى نشئاً ذوي شطاطه، وذهب نشاطه، ورثَّ نياطُه، واقترب احتضارُه واعتباطه، مساكين صرعى الكوكايين، وارحمتاه لصبائهم، ويا ويح آبائهم، ابتلوا بالسم القاتل، والمس الخابل، والسل الآكل. تعرفهم بأنوفهم المجيِّرة وأبصارهم المتحيرة وألوانهم المتغيرة، وبطرفٍ النصفِ منتبه، إلى غير مرمى متجه، وحديثٍ يقطعه النسيان، ويصله الهذيان.. وبيدٍ نحوَ الجيب تختلج، وتكاد من نفسها تلج، كيد اللص إن حركها اختلست، وإن أسكنها التبست، يموت أحدهم مرات، يعاني فيها السكرات، نزعُهُ جَزَعْ، واحتضاره نزعْ، ويستفيق فلا يرتدع. ذبابةٌ في الأنف لا تشبع، يحمل طعامُها على الإِصبع، إذا أخذها الجوعُ طنَّت، وإذا ألحَّ عليها جُنَّت، فإذا غضبُ الساعةِ قد بلغ نهايته، وإذا جبروتُها قد جاوز غايته، أعصابٌ شَنِجَة، أطراف مختلجة، دنيا مظلمة، ونفسٌ متألمة إلى اليأس مستسلمة، فيا أهل المريض لا تعنفوه ولكن أسعفوه؛ حُولُوا بقوة بين العاشق والمعشوق، واحفروا هوةً بين الأنف والنشوق". |
- كانت هذه هي قطعة المحفوظات، وبعد هذا جاءت البكالوريا، فكانت قطعة المحفوظات التي حفظتها خارج نطاق المقرر المدرسي أيضاً، قصيدة جميلة جداً، لأمير الشعراء، يعالج فيها انتحار الأطفال الراسبين في الامتحان، والقصيدة هي: |
ناشئٌ في الوردِ من أيامِه |
حَسْبُه الله أبا لوردِ عَثَر؟ |
كل يومٍ خبرٌ عن حَدَثٍ |
سئِمَ العيشَ ومن يسأَم يَذَرْ |
عَافَ بالدُنيا بناءاً بَعْدَمَا |
خَطَبَ الدُنيا وأَهَدىْ ومَهَرْ |
حَلَّ يومَ العُرْسِ منها نَفْسَهُ |
رَحِمَ اللهُ العروسَ المُحْتَضَرْ |
فيم تَجْنُونَ على آبَائِكم |
أَلَمَ الثُكْلِ شَدِيداً في الكِبَرْ |
وتَعُقُّونَ بلاداً لم تَزَلْ |
بين إِشْفَاقٍ عليكم وحَذَرْ |
فَمُصَابُ المُلْكِ في أَبْنَائِهِ |
كمصاب الأَرْضِ في الزَرْعِ النَضِرْ |
ليس يَدْرِي أحدٌ منكم بما |
كان يُعْطَى لو تأنَّى وَصَبْر |
كم غُلاَم خامل في دَرْسِه |
صَارَ بَحْرَ العِلْمِ أُسْتَاذَ العُصُرْ |
ومُجِدٍّ فيه أَضْحَى خَامِلاً |
ليس فِيمَنْ غَابَ أو فيمن حَضَرْ |
ورَفيع لم يُسَوِّدْهُ أَبٌ |
من أَبُ الشَمْسِ ومن جَدُّ القَمَرْ |
فَلَكٌ يَجْري ودُنْيا لم يَدُمْ |
عِنْدَها النَحْسُ ولا السَعْد استمرْ |
قَاتِلُ النَفْسِ ولو كانت لَهُ |
أَغَضَب اللهَ ولم يُرْضِ البَشَرْ |
|
|
- وانتهيت من الدراسة الثانوية، وكانت الصحف في تلك الأيام تركز على العلماء والأدباء والمفكرين، فاستهواني من الشخصيات التي كنت أقرأ عنها أو أقرأ لها في الصحف شخصية العالم الكبير المرحوم الدكتور علي مصطفى مشرَّفة، هذا الرجل نشأت بيني وبينه صلة روحية قبل أن أراه، فأردت أن أدخل الكلية التي يُعلِّمُ فيها - وكان هو أستاذاً في كلية العلوم في ذلك الوقت - وكان في استطاعتي أن أدخل أية كلية، ولكني صممت على الذهاب إلى هذه الكلية التي فيها هذا الرجل، لأنه المثل الأعلى الذي أحتذيه، وكنت في الوقت ذاته أحب الأدب. وأذكر حادثاً حدث عندما كنت في السنة الثانية في مدرسة الزقاريق الثانوية، إذ جاء وزير المعارف العمومية لزيارة المدرسة، فنقلوني من الفصل الذي أنا فيه إلى الفصل الذي سيزوره الوزير، لأقرأ له موضوع الإِنشاء.. وقرأت موضوع الإِنشاء فجاء وصافحني أمام التلاميذ. وكنت أحب الأدب جداً، ولكني جذبتني شخصية الدكتور مشرفة فأحببت أن أذهب إلى كلية العلوم التي يدرس بها، بجامعة القاهرة، وهي الجامعة الوحيدة وكانت تسمى الجامعة المصرية. |
- وكنت في الإِجازة الصيفية أرسل بعض الخطابات من قريتي إلى أصدقائي الذين في القاهرة، فأفاجأ بأن تلك الخطابات يتداولها أصحابي فيما بينهم ليقرؤوها، وتصلني منهم خطابات يطلبون مني أن أكتب المزيد من تلك الخطابات، وكان للكلية مجلة تسمى "هي"، وكانت هذه المجلة تنشر أشعاراً وقصصاً وأشياء من هذا النوع، فقال لي بعض أصدقائي: لماذا لا تكتب لنا مسرحية ننشرها لك في العدد القادم الذي ينتظر مروره بعد أسبوع، لا سيما وأنت، تكتب مسرحيات كثيرة في حفلات الكلية، والطلبة يقبلون عليها؟ فذهبت ليلتها وجلست أفكر لأكتب هذه المسرحية، فجلست أفكر كي أصطاد فكرة.. فلمعت في ذهني فكرة أعجبتني فكتبتها، ووضعت عنوانا لها:"عَجَلَة الأيام" وكانت تبدأ برجل وزوجته جالسين في شرفة منزلهما يتذاكران الماضي عندما كانا صغيرين، وهما الآن في سن الشيخوخة، ولاحظ الرجل شيئاً عجيباً: أن الشمس بدأت تسير في الاتجاه العكس، فلفت هذا نظره.. وقال: ما هذا؟ واتضح أن الأيام بدأت تعود للماضي.. تدور للخلف، فحدث شيء عجيب: إن اليوم مثلاً الاثنين، بدلاً من أن نستيقظ نجده الثلاثاء، نستيقظ فنجده الأحد.. وأحداث الماضي تتكرر.. تحدث، فأصبح الماضي هو المستقبل ولا سلطان لنا عليه. واستمرت بهذا الشكل، فأشخاص أعزاء بدؤوا يعودون للحياة لأن الأيام تسير إلى الخلف، من ضمن المشاهد فيها: فتاة تنتظر عودة أبيها إلى الحياة، وأصبح للموت معنىً جديداً، وهو أن الناس تصغر.. تصغر إلى أن يدخلوا في بطون أمهاتهم. |
- وأرسلتها إلى المجلة، ونشرت، ثم نسيت كل شيء عنها، وبعد ظهور المجلة بحوالي أسبوعين.. قيل لي: إن شخصاً ذا اتصال بالإِذاعة كان يبحث عني في الكلية ويريد مقابلتي. لم أكن أعرف في أي شارع تقع الإِذاعة ولم أذهب إليها إطلاقاً، فنسيت الموضوع وإذا به يعاود البحث عني، حتى جاء إلى منزلي وطلب مني أن أسمح بإذاعة هذه المسرحية من الإِذاعة. ففرحت جداً. |
- كنت صغير السن حينئذٍ، كان ذلك عام 1940م بعد تخرجي من الجامعة مباشرةً، وكان في الإِذاعة مذيع ذو صوت متميز يعجبني، ولكن لم تسبق لي رؤيته.. اسمه محمد فتحي. أرسل لي يطلب رؤيتي فذهبت إلى الإِذاعة لأول مرة. فوجدته في انتظاري، ودعاني لنادٍ كان يسمى "نادي خريجي قسم الأدب الإِنجليزي"، وعرفني بزملائه من المذيعين: عبد الحميد يونس.. الله يرحمه وحافظ عبد الوهاب، وغيرهما، وأطرى على المسرحية وقال: إنه سيقوم بإخراجها - لم يكن هناك مخرج محترف في ذلك الوقت، وإنما كانت هناك جمعية لهواة التمثيل. دعاني لمشاهدة الإِخراج فذهبت، ولأول مرة أرى استوديو إذاعة، وشاهدت كيف يتم إخراج المسرحية إذاعياً. وسررت بهذا العمل، ثم أخبروني بموعد إذاعتها.. يوم الأربعاء. |
- وفي ذلك الوقت بدأت الحرب العالمية الثانية، وبدأت عندنا في مصر الغارات الجوية. وعند سماع صفارات الإِنذار بقرب وقوع غارة جوية تتوقف الإِذاعة عن البث، لأن قائد الطائرة يمكنه أن يتعرف على المدينة من خلال البث الإِذاعي. وفي الساعة التي حددت لإِذاعة المسرحية جلسْت، وفتحت المذياع قبل الموعد بساعة.. انتظاراً لهذا العمل الأدبي، وقبل الموعد بنصف ساعة توقفت الإِذاعة لسماع صوت إنذار بغارة جوية، لم أطفئ مفتاح المذياع بل بقيت جالساً بجواره وهو ساكت، وفي الموعد المحدد بالضبط انطلق صوت المذيع يقول: هنا القاهرة، وأعتقد أنه لم يستمع إليها في مصر سواي، لأن الباقين كانوا قد أقفلوا المذياع وانصرفوا عنه ولم يهتموا بفتحه في ذلك الموعد. واصلت بعد ذلك النشر في المجلات، فنشرت "دنيا الحمير".. مثلاً، و "فراشة تحلم".. وغيرهما من القصص. ثم اتصل بي الأستاذ محمد فتحي يطلبني بالهاتف في الكلية، ويسأل لماذا لم أكتب مرةً أخرى؟ - وكنت أظن أن الكتابة للإِذاعة مرةً واحدة تكفي – وحثني على الاستمرار في الكتابة للإِذاعة، لأن المسؤولين أُعجبوا بما قدمته، لأنها تعتبر من الإِبداعات الجيدة. فبدأت أكتب تحت تأثير الحافز التشجيعي، وكنت أتصور أنني لو تعرفت على مخرج مسرحي لاتجهت أعمالي كلها للمسرح، ولو كنت أعرف ناشراً لاتجهت أعمالي كلها من البداية إلى النشر في الكتاب.. بالطريقة المقروءة منذ البداية، وما كنت في حاجة لبذل العناء الذي بذلته فيما بعد لتحويل كل هذه الأشياء من الصورة المسموعة إلى الصورة المكتوبة، ولوفّر عليّ ذلك جهداً عنيفاً ووقتاً طويلاً. وبسبب مواصلة الإِذاعة تشجيعي على الكتابة لها كتبت بعد ذلك "الرياح البنفسجية"، "العبقريةُ تبكي" وعند إخراج "العبقرية تبكي" كانت الإِذاعة بدأت تعين مخرجاً محترفاً، هو السيد بدير، دعاني لحضور تسجيل وإخراج هذه التمثيلية. |
- وفي ذلك الوقت كانت الإِذاعة في شقة صغيرة جداً، وكانت استراحة الإِذاعة التي ينتظر فيها أعظم المؤلفين والممثلين والمطربين، وكل هؤلاء الناس عبارة عن دكة خشب جنب السلم. هذه كانت استراحة الإِذاعة المصرية في ذلك الوقت، فرحت يوم تسجيل "العبقرية تبكي". فرأيت صبية قاعدة جلست بالقرب منها لعدم وجود مكان آخر.. وسألتها: "ما الذي جاء بك؟ هل أنت ممثلة؟ فقالت لي: "أنا البطلة". قلت لها: ما اسمك؟ قالت: "فاتن حمامة" قلت لها: لكنني لا أحب اسم حمامة. فأجابت: "إن اسم أبي هو أحمد حمامة، فأنا اسمي الكامل فاتن أحمد حمامة. قلت لها: ليكن اسمك شيئاً آخر.. كعصفورة مثلاً. قالت: لا.. أنا اسمي هكذا وسيظل كما هو. قلت لها: "فإذا كبرت وأصبحت ممثلة مشهورة هل ستمثلين مسرحية من مسرحياتي؟ قالت: "سأحضر لأمثل لك على وجه الخصوص: أعتقد أن هذا الكلام قد نسيته ولم تعد ذاكرة منه شيئاً. وفي أثناء التسجيل في استديو الإِذاعة كان السيد بدير يسمع صوتها ويعلق عليه قائلاً لي: هذه البنت سيكون لها مستقبل كبير جداً في التمثيل. وللأسف الشديد إن كل هذه التسجيلات ضاعت في الهواء ولم أستطع تسجيلها للاحتفاظ بها، لأن أجهزة التسجيل العادية (الكاست) لم تكن قد اخترعت أيامها، ولم تكن في متناول الجماهير كما هي الحال الآن. |
- وواصلت الكتابة للإِذاعة والنشر في الصحف، في الوقت نفسه، ولكن بسبب الضغط والتشجيع المستمر من الإِذاعة كان ما أكتبه للإِذاعة أضعاف ما يسمح به الوقت المتاح للنشر في الصحف والكتب، إلى جانب مسؤولياتي الجامعية التي تلتهم معظم وقتي. وذات يوم قال لي كبير المخرجين: لقد قررنا عمل برنامج واخترناك للقيام بهذا البرنامج الذي أطلقنا عليه عنوان: "بدون عنوان" وهو ذو خمسة فصول، وسيتولى إخراج كل فصل مخرج مختص. فوجدت أن العرض مغر جداً.. أدبياً، إذ لم يحدث أن طلبت الإِذاعة من أي مؤلف من قبل تأليف عمل يشترك فيه جميع المخرجين. وكنت في ذلك الوقت قد انتقلت معيداً بكلية علوم الإِسكندرية فقلت لكبير المذيعين: "سأفكر في الأمر عندما أصل إلى الإِسكندرية". |
- خرجت من الإِذاعة وجلست في مقهى بميدان الأوبرا أعصر ذهني لأعثر على فكرة تصلح لهذا البرنامج أكون راضياً عنها، فومضت في ذهني فكرة إنسانية كتبتها في الإِسكندرية في ثلاثة أيام وأحضرتها للإِذاعة، فبدؤوا على الفور في توزيعها على المخرجين، وأذيعت في الموعد المحدد لها.. ليلة عيد الفطر. بعد ذلك طلبوا مني برنامجاً يحتوي على خمس تمثيليات، مدة كل واحدة منها ربع ساعة، وكل مخرج سيتولى إخراج واحدة منها. كان هذا البرنامج بمثابة اختبار عنيف لي، فلقد اشترطوا شروطاً قاسية بالنسبة لنوعيات هذه القصص. قالوا: "أنت تنظم الشعر وتكتب القصة، فلتكن إحدى القصص الخمس غنائية، وواحدة ذات فكرة عجيبة غير مألوفة، وواحدة خيالية (فانتازيا) وواحدة إنسانية، وواحدة فكاهية. وتكتب ليكون بطلها بالذات الممثل حسن فائق، فتجعل الدور مناسباً له. قلت: وهو كذلك، وسافرت إلى الإِسكندرية، ولكن عقب وصولي إلى الإِسكندرية نسيت كل شيء عن البرنامج. وبعد نحو أسبوعين في الصباح عندما كنت أتناول فطوري، وفي أثناء الأكل أخذت أتصفح مجلة الإِذاعة، فإذا بي أقرأ في إحدى الصفحات موعد إذاعة البرنامج قبل أن أكتبه وقبل أن أبعثه، فذكروا عنوانه "أفكار للإِذاعة" ومدته ساعة وربع، تأليف فلان، وإخراج جميع مخرجي الإِذاعة، وأنا لم أكتب بعد ولا كلمة منه: فماذا أفعل في هذا المأزق؟ كان قدامي أمران: فإما أن أعتذر بالهاتف، وإما أن أكتب البرنامج مهما كانت المتاعب. وإنما كان فيه الحافز الأدبي والمتمثل في أن هذا العمل لم يسبق لأحد عمله، فقررت كتابته وأخذت ورقة وقلما ذهبت لمقهى سان جيوفاني على شاطئ البحر قبل ما يعيثون فيه تحسينا ً. |
- جلست أفكر في القصة الإِنسانية، فومضت في ذهني فكرة "خطاب إلى الله" ثم نشرتها في مجلة "روز اليوسف" ثم جاءتني فكرة القصة ذات الموضوع الغريب وهي "الجمجمة"، ثم القصة الغنائية "حسن وعياله"، وهي القصة التي سيكون حسن فايق فيها البطل. وكانت القصة ذات الفكرة الغريبة الموسومة "بالجمجمة" تعبر عن فرقة مسرحية جوالة تجول البلاد وتمثل روايات شكسبير. أحد الممثلين يتمنى بصفة مستمرة أن يمثل دور هاملت، وأحسن مشهد يتمنى أن يمثله هو تلك اللحظة التي يمسك فيها جمجمة المهرج بعد وفاته ويناجيها، فيقول: طالما حملني على كتفه.. إلى آخر حديث هملت. كان يحدث نفسه بالقيام بهذا الدور لكنه لم يتح له هذا في حياته، فكلما يحاول القيام به يحدث شيء يمنعه من القيام بهذا الدور. ومرت الأيام وتوفي هذا الممثل، وبعد نحو عشر سنوات من وفاته والفرقة تواصل تجوالها جاء دور تمثيل هاملت، وإذا برجل يقبل مهرولاً وفي يده شيء ملفوف في قطعة قماش، وقف يلهث أمام مدير المسرح، وأخبره أنه يحمل وصيته من الممثل المتوفى، يوصي بأن تكون الجمجمة التي تظهر على المسرح جمجمته هو، وسلم الجمجمة لمدير المسرح، فنظر المدير إلى حامل الجمجمة والوصية، وقال: إن هذا الرجل تعيس حتى بعد وفاته، لأن من تقاليد تمثيل رواية هاملت أن الجمجمة التي تظهر على المسرح تكون لإِنسان مجهول! ولم تظهر الجمجمة على المسرح. كانت هذه هي الفكرة الغريبة. |
- أما الفانتازيا فكانت حوادثها تدور حول: الفصول الأربعة وهم مجتمعون يتداولون الحديث مع بعضهم البعض، وبصروا بولد يحمل حطباً ويسعل بشدِّة، فالربيع قال للشتاء هل ترى هذا الولد لو جئت هذه السنة ستكون سبباً في وفاته لأنَّه يسكن كوخاً ليست له نوافذ وسيموت من البرد فقال الشتاء للربيع: وماذا تريد مني؟ قال الربيع: أرى أن ترتاح هذه السنة وأنا أقوم مقامك، قال له: الشتاء هذا غير ممكن لأن الفلك دوار يجب أن يأتي كل فصل في موعده، وبعد محاولات اقتنع الشتاء برأي الربيع، فظلت الأزهار يانعة والشمس ساطعة، وكتبت الحياة لهذا الطفل. |
- وتوالت بعد ذلك سلسلة من التمثيليات، كل واحدة منها مكونة من عدد من الفصول بعدد المخرجين في الإِذاعة ليخرج كل مخرج فصلاً، وأول هذه التمثيليات: "الموتى" التي اقتبسها مصطفى محمود وعملها مسرحية بعنوان: "الزلزال". كانت "الموتى" تمثيلية ألفتها وأذيعت سنة 54، وتوالت التمثيليات إلى أن طلبوا مني ذات يوم شيئاً جديداً لم يكن مألوفاً، قالوا: نريد أن تعمل لنا رواية طويلة.. يذاع منها كل يوم جزء، أي تكون في حلقات. قلت لهم: أكتبها جملة وأنتم تقسمونها لحلقات؛ قالوا لا، بل أنت تقسمها إلى حلقات، وتكون مدة كل حلقة ربع ساعة مع مراعاة التوازن الدقيق بين عدد صفحات كل حلقة حتى لا تزيد ولا تنقص مدة إذاعتها عن ربع ساعة وتنتهي كل حلقة بجملة أو حادث تجعل المستمعين يشتاقون لمتابعة الأحداث. فقبلت، وبينما كنت في طريقي.. طرأت على خاطري فكرة هذه الحلقات، وكانت رواية سيكولوجية، وجعلت عنوانها: "عدو البشر" فبدأت كتابتها عند وصولي إلى الإِسكندرية، وقبل أن أنتهي من كتابتها قالوا لي: سنبدأ إذاعة الحلقات من الآن قبل أن تنتهي من كتابة جميع الحلقات ثقة منا بك. وبالفعل ابتدؤوا يذيعونها. |
- في أثناء كتابة هذه الحلقات تعرض طفلي الصغير للمرض، وارتفعت درجة حرارته إلى ما يقرب من 40 درجة، وبقيت موزع التفكير بين طفلي وحلقات المسلسل، وما أجبرني على ذلك إلا أنني شاهدت المعجبين ذات ليلة وهم مجتمعون أمام كشك لبيع الحلوى والمرطبات يترقبون موعد الحلقة لمشاهدتها، ولما لم يكن هناك تحديد لعدد الحلقات فقد جعلت حلقات ذلك المسلسل 34 حلقة، وكنت أعتقد أن هذا المسلسل هو خير ما كتبت ولن أستطيع أن أكتب مثله. لكن السيد بدير رئيس المخرجين بالإِذاعة يومئذٍ قال لي: بل ستكتب خيراً منها غداً إن شاء الله. |
- ثم كتبت "عواصف" وكانت سيكولوجية. أيضاً، وكان لها موضوع إنساني أيضاً مثل: "عدو البشر". وقرر تدريسها في معهد التمثيل في القاهرة كنموذج للرواية الإِذاعية بالذات، كان موضوعها يدور حول محامٍ كبير جداً في الإِسكندرية، وكان يسافر من آن لآخر للقاهرة ليترافع في بعض القضايا هناك، أو إلى طنطا أو غيرهما وله بنتان إحداهما جميلة جداً.. والأخرى مهملة نفسها جداً، لأن أباها المحامي الكبير كان يفضل أختها عليها، لأنها كانت سبباً في وفاة أمها عند ولادتها.. فحمّلها الأب مسؤولية وفاة الأم دون أن يشعر.. فكان يهملها. فعند عودته من السفر مثلاً يقبل ابنته فاتن ويترك سهيراً، فأخذت سهير تشعر بالمرارة حتى انتهى الأمر بها إلى مرض نفسي.. هو الوهم، حيث كانت تسمع أصواتاً لا وجود لها. تطور هذا الداء عندها لدرجة أنها أيقظتهم ذات ليلة من النوم، وقالت لهم: إنها سمعت صوت الباب وهو يُفتح، وكان بيتهم في مكان منعزل عند الحافة الشرقية لمدينة الإِسكندرية. وهو مكون من دورين فهبطوا السلم في ذعر شديد لتوقعهم وجود لص، فوجدوا بوابة البيت مغلقة ولم يجدوا أحداً. كانت ليلة عاصفة، وباتوا في ذعر طوال الليل، وكان الفزع شديداً لوجودهم وحدهم في البيت، وكلما ناموا توقظهم سهير قائلة إنها سمعت شيئاً.. سمعت صوت قطار على الرغم من عدم وجود أية قطارات تمر بالقرب من المكان. وأخيراً أيقظتهم وقالت لهم: إنها سمعت صوت منبه سيارة أختها، ففتحوا النافذة بالدور العلوي ونظروا فما وجدوا شيئاً، واتضح أن جميع الأصوات التي سمعتها سهير في هذه الليلة لا وجود لها. وعندما رجع الأب من رحلته الأخيرة ولاحظ انهيار ابنته سهير استدعى طبيباً نفسياً يسبر غور أفكارها؛ واتضح له أن هذه البنت تراكمت أحزانها بسبب إهمال أبيها لها وسوء معاملته لها دون أن يشعر، فأصيبت بهذا المرض النفسي الذي من أعراضه سماع أصوات غير موجودة، وقد يتطور حتى تتوهم أنها ترى أشياء لا وجود لها. وتتسلسل القصة وتتشابك الأحداث التي لا يتسع الوقت لسردها. وأذكر عند بدء هذه الحلقات.. بعد أول حلقة، هاجمني أحد كبار الكُتَّاب هجوماً عنيفاً لأن ابنه الطفل فزع من صوت الباب عندما صفقته سهير في إحدى اللحظات. وبعد منتصف الحلقات بقليل وصلني خطاب من شخص لا أعرفه يعيش في مدينة "المنيا" يقول فيه: إنه كان مصاباً بهذا المرض نفسه، وصرف كل ما يملك للعلاج منه عند أعظم الأطباء بلا جدوى، وساءت حالته النفسية إلى أقصى حد، وعند إذاعة هذه الرواية بدأ يتتبع حلقاتها، وعندما استمع إلى حوار الطبيب مع المريضة وتحليله لأسباب سماع الأصوات التي ذكرتها، كان هذا سبباً في شفائه المفاجئ من هذا المرض، وعاد إلى حالته الطبيعية ورجع إلى عمله الذي كان قد انقطع عنه. وطلب في خطابه أن يحضر لزيارتي في الإِسكندرية، فحضر خصيصاً ليشكرني، فأرسلت خطابه إلى الكاتب الكبير الذي هاجمني عند سماع صفق الباب في أول حلقة، وقلت له: إن هذه الرواية لو كانت سبباً في إسعاد إنسان واحد وشفائه تكون قد أدت رسالة ذات قيمة. فرد عليّ الكاتب في عموده اليومي في الصحيفة التي يكتب فيها معتذراً عن تسرعه في الحكم على الأشياء. |
- وتوالت بعد ذلك كتاباتي في الصحف والإِذاعة والتلفاز والمسرح، وقد بلغ ما كتبت ما يقرب من أربعمائة عمل درامي، منها: "اليوم المفقود" و "العسل المر" و "لا تلوموا الخريف"... وغيرها. ونحو مائتين وعشرين قصة قصيرة، وعدد من الروايات. كما ذكرت في بدء المحاضرة، ولا أود الاسترسال في سرد الذكريات والأعمال التي كتبتها.. فهذا يستغرق وقتاً أطول من الوقت المتاح لإِلقاء هذه المحاضرة أو هذا الحديث، وأنا لا أحب أن أطيل عليكم.. وتكفي هذه العجالة لتفتح مجالاً للأسئلة والاستفسارات، وأنا على أتم استعداد للإِجابة عنها؛ وشكراً لكم على حسن استماعكم. |
|
|
|