شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صديقي الفيلسوف
فلّما يخلو أسبوع من أسابيع أمسياتنا التي كنا نقضيها على قمة من قمم سلع تارة وعلى هضبة من هضبات دشم تارة أخرى من بحث وحوار يصل أحياناً إلى طور الجدل، وكان يحلو لبعض الإخوان أن يزيد في إثارته ليرى الفيلسوف وقد خرج من هدوئه فتبعثرت شعرات لحيته وخرجت البصقات من بين شفتيه ويبدأ يسهب في البحث بوجه عبوس وجبين مقطب، وكان بحث هذه الأمسية يدور حول الحلال والروابط الاجتماعية للأمة الإسلامية وإهمال ما يدعو إليه دين الإسلام من تعزيزها وإحكام روابطها حرصاً على عزة الإسلام وتقوية أواصر الإخاء والمودة بين أبنائه - وتناقش الرفاق في ذلك، فمنهم من رد أسباب الانحلال إلى الجهل العام ومنهم من عزا ذلك إلى الفقر وتنقلوا من سبب إلى سبب والفيلسوف يسمع ولا يتكلم حتى وجه إليه السؤال أحد أفراد الشلة، وقطع الطريق صديق آخر قائلاً ((سأتولى الإجابة عن الفيلسوف لأن الموضوع واضح لا يتحمل الفلسفة: الجهل يا أصدقائي هو السبب الوحيد لما نحن فيه من انحلال وتدهور أضف إلى ذلك ابتعادنا عن تعاليم الدين وتركنا التمسك به ((وعرفنا من لمحات الفيلسوف المعبرة أن هذا الفضول من صاحبنا لم يعجبه)) وتكلم متحمساً دون أن يعير اهتماماً لما قاله الصديق ((يبدو لي أن تدابير محكمة وعقولاً كبيرة قد نظمت محاربة سلبية للأمم الإسلامية في عقر دارها، فإن متصفح التاريخ يلمس بكل وضوح عوامل الفساد والانحلال في مستقبل هذه الأمة منذ عصر الإسلام الذهبي عصر الخلفاء الراشدين، فما من حركة إصلاحية تقوم إلا وتقابلها حركات هدامة تجعل من حركة الإصلاح نفسها حركة هدم وتدمير. أجل لقد تطاولت هذه الأيدي الأثيمة حتى على تعاليم الإسلام فدست بين أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم أحاديث هدامة استدرجت بها العامة واضطرت الخاصة للمجاملة الكاذبة فيها وفسرت الآيات والأحاديث الصحيحة تفاسير تضليل وإفساد، إنك لا تكاد تستخلص مسألة من مسائل الفقه مثلاً إلا وجدت فيها الأقوال والتفاسير والاختلافات، وليس هذا فيما يتعلق بالعقائد فقط بل لقد تعددت الخلافات حتى في تعريب جملة أو تصريف فعل. لقد بذلت جهود عنيفة لينصرف علماؤنا عن اللباب إلى القشور فملأنا الدنيا كتباً وملئوها اختراعات وصناعات وبذلت جهود عنيفة لنبتعد عن الغاية والهدف ولنصبح أمة لا هدف لها ولا غاية. أثبتوا في نفوسنا حب المادة فأصبحنا نؤمن أنها قيمة المرء منا، فبقدر اكتنازها يكون اعتبارنا بين الناس فعضضنا عليها بالنواجذ واستسهلنا هدم كل مبدأ في سبيل تحصيلها.. وسكت برهة يستجمع أفكاره ودار ببصره نحو الأفق واسترسل قائلاً ((إن هذه الأساليب قد ارتقت برقي العصر وأخذت مظاهر ثابتة مغرية في شكل مدارس تبث العلم ومستشفيات تبرىء السقم ومكاتب استعلامات ووزارات استعمار! لقد تحملت الأمم الإسلامية كثيراً من هذه الحروب الباردة - ولئن كانت الغفلة فيما مضى قد مهدت لأعدائها الكثير من القصبات، فإن اليقظة التي سادت الشرق اليوم قد جعلتنا نعد العدة نحو هذه الآثار، فلا مدارس ولا مستشفيات ولا دور حضانة - غير إسلامية في المستقبل القريب إن شاء الله - فهبوا أيها الرفاق للعمل فالوقت قد حان.
كنت أدعوه بالفيلسوف أو على الأصح كانت الشلة تدعوه بهذا الاسم، ولا أدري من منا الذي اختاره له ولماذا؟ ولعلَّ النفشة التي كان يتصنعها في حركاته وسكناته في قيامه وكلامه في سيره وجلوسه كانت السبب في هذه التسمية، فقد كان ينفخ بقه ويمط شفتيه عندما يتحدث حتى في التافه من الشؤون، وكان المقطع الذي يرتكز عليه بعد كل جملة حرفي الباء والهاء ينطق الباء مفخمة كأنها حرف الإنجليزي (به به) ويرفع يديه مشيراً - الموضوع الفلاني بأنه موضوع عظيم - وعليك بعد ذلك أن تسمع محاضرة متسلسلة لا تنقطع. أما الجبة والعمامة البيضاء فلم تكونا لتفارقاه لأنه كما يبدو يعتبرهما رمز الشرق وعنوان كماله - وإذا كانت الفلسفة هي النطق بالحكمة، والنظرة العميقة في شؤون الحياة وتحليل النظريات تحليلاً منطقياً وتتبع حركات الناس وسكناتهم واستنتاج الحقائق من ذلك، فإن صديقنا الفيلسوف كان حاد النظر دقيق الدرس نافذ البصيرة هائماً بالبحث والاستنتاج تعنيه شؤون الشرق لكل مشكلة من مشاكله عنده درس وتحليل واستنتاج وحكم ولكل زعيم من رجالاته تقدير وتعريف ومكان - غير أننا كثيراً ما نتلقى هذه الأحكام والاستنتاجات بهزة كتف وابتسامة فاترة لأن بعض أفراد الشلة كان يبدي أن هذه الفلسفة كثيراً ما تخرج عن حدها فلا نطيق احتمال أحكامها ولا نستسيغ النظريات التي بنيت عليها، فقد حدث مرة أن خرجنا للتمشية، فممرنا على محطة السكة الحديدية وانتهينا من جولتنا فيها إلى الحديث عن فخامة البناء وعظمته ودقة الهندسة وبراعة التخطيط، ولم نكد ننتهي من البحث حتى بدأ الفيلسوف قائلاً أهذا كل ما لاحظتموه - عجيب أمركم يا شباب هذا العصر! ألم تلاحظوا تلك الألوان التي صبغت بها أبواب ونوافذ المحطة؟ إنها الألوان التي يتكون منها علم أمة مستعمرة كبيرة - إنهم يسعون جهدهم لتأليف المناظر الأوروبية فلا تشعر بغرابة إذا امتدت يد الاستعمار تلعب في بلادنا وقد فهم العالم كله أساليب الاستعمار فلا تقبله أمة ولا يستسيغه شعب.. فتغامز الرفقاء وهززنا رؤوسنا ضاحكين.
ولا أدري أكانت هذه سفسطة بلغت حد الثرثرة من صديقنا الفيلسوف فاستحقت التغامز والتضاحك أم هي فلسفة عميقة لم تصل عقولنا بعد لإدراكها؟
ولصديقنا الفيلسوف آراء ونظريات من هذا النوع لا تخلو طرافة وفائدة، وأعتقد أن في تقديمها لقراء جريدة المدينة الغراء طرافة وفائدة، وأرجو أن يساعدني ظرف العمل فأقدم ما حوته الذاكرة من ذلك تباعاً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :667  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 47 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.