شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة الدكتور سمير سرحان ))
ثم أعطيت الكلمة للدكتور سمير سرحان فقال:
- بسم الله الرحمن الرحيم، ماذا أقول بعد كل ما قيل غير أني أود أولاً أن أرسل برقية للشيخ عبد المقصود خوجه أن يطلق سراحي وهي موقعة منكم جميعاً بعد هذا الحديث الممتع الذي قاله أستاذنا وأستاذ الجميع دولة الرئيس، وهذا الشعر الرائع الذي سمعناه منه. وأنا طبعاً من تلاميذ تلاميذه، فالحديث بعده لا يمكن أن يكون بنفس المتعة وبنفس القدر من العلم والمعرفة.
- ولكن حديثي ربما يكون قاصراً على ما أعانيه اليوم من أعباء خاصة بالكتاب، فننتقل قليلاً من حديث الأدب والفكر إلى حديث المعاناة مع الكتاب، لأن الكتاب يعيش محنة.. ويعيش أزمة في عصر وسائل الاتصال التكنولوجية الضخمة التي كادت أن تنزل الكتاب من عرشه، خاصةً بالنسبة للأجيال الجديدة من الشباب في العالم العربي، وخاصة في مصر، وهي جزء لا يتجزأ من العالم العربي. وقبل أن أتحدث عن هذه الأزمة وبيننا إعلاميون كبار وشعراء كبار وأساتذة أفاضل، أود أن أتحدث أولاً عن علاقتي الشخصية بالكتاب التي أفضت بي لأن أقبل هذه المسؤولية في مصر منذ شهور والتي تشرفت بها حقيقة.
- بدأت فعلاً بتقديس واحترام الكلمة والكتاب هو كلمة، والإِنسان في تصوري هو كلمة. بدأت هذه العلاقة عندما استمعت وأنا صبي بل وأنا شاب في الجامعة إلى موقف أذهلني وبعث في نفسي احتراماً عميقاً للكلمة وقائلها وصانعها وحاملها، وهو موقف جرى لأستاذنا الأستاذ العقاد رحمه الله مع وزير من وزراء الثقافة في ذلك الوقت، هو الأستاذ الدكتور ثروت عكاشة، وهو وزير قوي يخيف الكثير من المثقفين في ذلك الوقت كما كان يقال.. حيث اتصل سكرتير الوزير بالأستاذ العقاد وقال له: لديك موعد مع السيد الوزير في الساعة السادسة من مساء الثلاثاء ووضع العقاد سماعة الهاتف وقال شكراً، وفي الساعة السادسة من مساء الثلاثاء المحدد ارتدى العقاد بدلته وطاقيته المشهورة، ولفاف الرقبة، ووضع العصا بجانبه، وجلس في صالونه في تمام الساعة السادسة، دق جرس الهاتف ورفع العقاد سماعة الهاتف فإذا بسكرتير الوزير يرتجف فزعاً ويقول: الوزير ينتظرك وقد حل الموعد. فرد الأستاذ العقاد على الوزير أن يأتي إلى العقاد ولا يذهب العقاد إلى الوزير، وكانت هذه الحادثة من الحوادث التي فعلاً ألقت في قلبي الرهبة الحقيقية من قيمة الكلمة ومن قيمة الأدب ومن قيمة الفكر ومن قيمة الشموخ الأدبي والثقافة في حياة الأمم.
- الموقف الثاني موقف فيه قليل من الفكاهة لأن أستاذنا دولة الرئيس كان يطلب أن لا نثقل على حضراتكم بكلام الثقافة الجادة كثيراً، وهو موقف جرى لشاعر من شعراء مصر يعرفه المصريون جيداً، ويعرفه كثير من الأساتذة هنا، هو عبد الحميد الديب، وكان رجلاً خفيف الظل.. حلو العبارة، وكان له صديق يغار منه غيرة شديدة لأنه شاعر أقل قيمة وأقل قامة واسمه على ما أذكر عبد العليم أحمد. وذات يوم ذهب هذا الشاعر المغمور عبد العليم أحمد إلى مطبعة من المطابع وطبع بطاقات تعريف بشخصه كالتالي: عبد العليم أحمد.. شاعر وأديب، بينما عبد الحميد الديب لم يقم بشيء من مثل هذا، والغريب أن عبد الحميد الديب عاش وتجاوزت شهرته الأجيال في حين لم يعد أحد يعرف شيئاً عن هذا المسمَّى عبد العليم أحمد.
- الموقف الثالث وهو أيضاً طرفة لها علاقة بمجال السياسة وإن كنت لا علاقة لي أنا شخصياً بالسياسة ولم أمارسها وما أحببتها في حياتي، وهو موقف أحد سكرتارية أحد الرؤساء السابقين ولا داعي لذكر اسمه. عندما شدت أم كلثوم بأول أغنية لها لحنها الأستاذ عبد الوهاب، فسأل الرئيس سكرتيره: ماذا تغني أم كلثوم؟ فأجابه فوراً: تغني سيادتك عمري يا فندم … فلم يجرؤ أن يخاطبه بأنت، وطبعاً بقيت الأغنية وبقي الفن، وانتهى هذا السكرتير المذعور الذي لم يستطع أن يواجه الرئيس بكلمة أنت.
- وبقيت النكتة.. كل هذا طبعاً حقيقة يلقي في قلب الإِنسان تلك الرهبة الرائعة التي يحسها من الكلمة ومن الفن، والتي دفعتني شخصياً وأنا صبي في الخامسة عشرة من عمري أن أكتب بعض المحاولات في القصة القصيرة، وتصورت بغرور الجهلاء أنني أديب كبير، فذهبت إلى إحدى دور النشر المعروفة جداً، واسمها دار الفكر العربي وكانت في باب اللوق وكان صاحبها يدعى الحاج عبد المنعم، وكان لا ينشر إلا للعقاد وطه حسين ومحمد السباعي والد المرحوم يوسف السباعي ولكبار ولشوامخ الأدباء. ودخلت عليه أحمل رزمة من الأوراق دفعتها أمامه وقلت له: هذه قصص عليك أن تنشرها. نظر الرجل الحاج عبد المنعم إليّ وكان تأثير نظر هذا الرجل في نفسي من أخطر التأثيرات في حياتي لأنه لم يحتقر شأني ولم يقل لي كلمة استهزاء أو سخرية، وإنما نظر إليَّ نظرة إشفاق، وقال إذا أتيت لي بهذه المجموعة من القصص بمقدمة لأديب كبير أو لناقد معروف، فعندئذٍ أستطيع أن أنشرها لك.
- وهذا ما يجرني إلى حديث أشعر الليلة بأنني أستعيده وأستعيد ذكرياته في هذه الندوة الأدبية الرائعة التي نجلس فيها الآن، لأن القاهرة في ذلك الوقت وكانت في أواخر الخمسينات.. كانت الحركة الأدبية في القاهرة تخرج فعلاً من مثل هذه الندوات واللقاءات الأدبية التي يلتقي فيها الفنانون والكُتَّاب والشعراء والنقاد، ربما بشكل مغاير قليلاً مما نفعله الآن.. ليس في البيوت وإنما في المقاهي، فقد كانت مقاهي القاهرة هي المكان الذي يخرج منه الأدب والفكر والشعر والحوار والمساجلات الأدبية، ذلك في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، والمعارك الأدبية الكبرى إلى آخره.
- فسألت ما هي أهم قهوة من مقاهي الأدباء في ذلك العصر؟ فقيل لي: إنها قهوة تسمى قهوة عبد الله في ميدان الجيزة، فبالمصادفة كان منزلي في هذا الميدان الشهير، فاتجهت إلى الميدان وسألت أيضاً بغرور الجهلاء: من هو أهم ناقد أدبي معروف في هذه القهوة؟ فقيل لي اثنان: الأستاذ أنور المعداوي رحمه الله الآن، والأستاذ الدكتور محمد مندور. فكنت أخشى من لقب دكتور وأخافه، فاتجهت إلى الأستاذ أنور المعداوي وكان من أعلام النقد في ذلك الوقت، وكانت له كُتبٌ في الشعر وخاصةً الشعر الرومانسي ومنها كتابه الشهير عن علي محمود طه، وتقدمت له بقصصي فأخذني بنفس الرفق الذي أخذني به الناشر وقال لي: مُرَّ عليَّ بعد أسبوع أكون خلاله قد قرأت هذه القصص وسأعطيك رأيي فيها. قلت له: إن مصيري معلق بكتابتك لمقدمة هذه القصص. قال المقدمة شيء آخر سأقرؤها وسأنصحك وستكون النصيحة في أغلب الأحوال مركزة على طلب بالمزيد من القراءة.
- وفي هذا الاتجاه ذهبت إلى بيتنا، وكدت فعلاً لا أنام لمدة أسبوع كامل، وبعد انقضاء الأسبوع عدت فوجدت أن أنور المعداوي قد كتب المقدمة، وكانت هذه دلالة رائعة على أن أساتذتي من علماء وأدباء ذلك الزمان فعلاً أساتذة بالمعنى الحقيقي، يحنون على تلاميذهم.. يأخذون بيدهم، ليس كأساتذة هذه الأيام من جيلنا على الأقل، الذين لا يمدون يد العون بالقدر الكافي لتلاميذهم ولمريديهم.
- أخذ هذا الأستاذ العظيم أنور المعداوي بيد صبي في الخامسة عشرة وإن كانت قصصه طبعاً لم تكن بالعبقرية التي كان يتصورها، وإنما كتب له المقدمة ووضع اسمه بجانب اسمي على هذا الكتاب، ذهبت جرياً إلى الناشر في باب اللوق ودفعت له بالمجموعة وأنا أشعر بانتصار وزهو شديدين، وقلت له هذه هي المجموعة وقد كتب لها المقدمة الأستاذ أنور المعداوي. ذهل الرجل بطبيعة الحال ذهولاً شديداً ولست أذكر إلا أنه دون أن ينبس ببنت شفة كما يقولون فتح أحد أدراج المكتب وأخرج منها مبلغاً وقدره (12 جنيهاً) بالتحديد، وأعطاني المبلغ في صمت شديد.. لم أصدق نفسي.. (12 جنيهاً) في ذلك الزمان وأنا شاب في التوجيهية، أخذت المبلغ وجريت به مرةً أخرى وأعطيته والدتي وأنا أشعر بزهو وفخر شديدين، وكانت هذه الجنيهات أجمل وأحلى وأروع وأعظم مبلغ كسبته في حياتي حتى الآن، وكسبته من كتاب يسمى "سبعة أفواه" موجود الكتاب حتى الآن.
- ومن هنا بدأت علاقتي بالكتاب، وعندما قرأت هذا الكتاب بدأت أحس بأنني أخطأت خطأً عظيماً في حق الأدب وحق الكتابة، فكيف يتجاسر إنسان في هذه السن أن يسطو على الكلمة بهذه الجرأة وبهذه البجاحة - كما نسميها باللهجة المصرية –؟ لأن الكلمة لها قدسية والكلمة لها احترامها، والكلمة لابد أن يقترب منها الإِنسان وهو متهيب وخاشع، لأنها مسؤولية.
- وطبعاً كان ما دفعني أن أكتب في ذلك الوقت أنني لم أكن أحس بمسؤولية الكلمة، الآن وبعد مرور هذا الزمان الطويل وربما 25 عاماً، وبعد أن شرفني أو بعد أن تشرفت برئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب بدأت أشعر بأنها مسؤولية حقيقة ضخمة ورهيبة، وأدعو الله صباح مساءَ أن يجعلني قادراً على تحملها. لكن أخطر وأهم ما أريد أن أفعله في هذه المسؤولية هو كما قلت بالأمس: حينما شرفت بالحديث في النادي الأدبي أن أجعل من هذه الهيئة المصرية العامة للكتاب بيت المثقفين العرب جميعاً.
- لقد طال العهد بنا كعرب وكمثقفين في الفرقة وفي التمزق وفي البعد عن بعضنا البعض، وأنا أحس أحياناً بأسى عميق عندما أجد شاباً في الجامعات المصرية وأنا أدرس بها لا يعرف مثلاً الأدب السعودي أو الأدب العراقي أو الأدب السوري، ربما كنا جميعاً طبعاً في مصر وفي غير مصر نعرف شاعر الأمة، أستاذنا الشاعر الكبير عمر أبا ريشة، لكن من يعرف الشعراء الشبان في سوريا الآن أو في السعودية الآن؟ أو من يعرف كبار النقاد والأساتذة في أي بلد عربي آخر؟.
- ما أريد أن أقوله أنه قد حان الوقت أن تجمعنا الثقافة حيث فرقتنا السياسة، لا بد فعلاً أن نعيد لهذه الأمة مجدها، وأنا من موقعي الثقافي وكواحد من تلاميذكم وواحد من المثقفين العرب أشعر أن الثقافة هي وسيلتنا الوحيدة الآن لكي يعود مجد الإِسلام مشرقاً على الأرض كلها، لكي يعود مجد الأمة العربية مشرقاً على الأرض كلها، لكي يعود مجد الأمة العربية مشرقاً على سماء الحضارة كما كان دائماً، ولدينا من الطاقات.. طاقات الفكر والفن والعلم والأدب والسياسة أيضاً ما يؤهل هذه الأمة أن تسمو برجالها على كثير من الأمم، وأشكركم كثيراً.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :648  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 128 من 187
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .