الحلقة - 1 - |
(موسيقى القافلة حيث نسمع أجراس الدواب ووقع حوافرها وزئير الرياح والعواصف يعقبها صوت صرواح يقول): |
صرواح: الريح صرصر، والرمال سافية يا رندة وكأنها نذر عاصفة عاتية. |
رندة: يلوح لي أن هذه مقدماتها ولا أحد يدري ما نتائجها.. |
صرواح: لقد سرت في هذه الطريق عشرات المرات مع القوافل التجارية من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال فما واجهت مستديمة بهذا الشكل عاصفة اليوم.. |
رندة: إنها ليست رياح بل سمائم يا صرواح تلفح وجوهنا حتى تكاد تحرقها.. مع أننا نسير في أواخر النهار فكيف لو كنا نسير في الهاجرة.. |
صرواح: كنا احترقنا. |
رندة: هل الطقس في هذه الجهات حار طوال السنة؟ |
صرواح: لا ولكنه حار في أكثر أيام السنة. |
رندة: إذن فنحن في موسم القيظ بهذه الجهات.. |
صرواح: موسم القيظ بهذه الأماكن لم يبتدىء بعد يا رندة.. |
رندة: فما بال هذه السمائم تهب في موسم غير الصيف. |
صرواح: إنها على غير عادتها والغريب أنها تواكبنا منذ خروجنا من بلاد الكنعانيين في طريقنا إلى اليمن.. |
رندة: لعلّه سوء طالعي فأنا أجيء هنا لأول مرة بعد أن تزوجنا ويا له من استقبال وترحيب حار من الصحراء أخشى أوار حبه يدفننا بين كثبانها.. |
صرواح: أراك متشائمة وخائفة يا رندة.. ستتمرسين زوابع الصحراء وستستمرئين حياتها بعد رحلتك هذه فأنت قادمة من مكان في أقصى الشمال من بلاد الكنعانيين.. |
رندة: عليّ أن أوطن نفسي على هذه الحياة بعد أن قبلت بك بعلاً لي.. |
صرواح: أرجو ألا تكون قد ندمت في تسرعك بقبولي زوجاً لك.. |
رندة: أترى في عباراتي ما يوحي إليك بذلك.. |
صرواح: لا ولكني آمل أن لا يكون ساورك شيء من الندم.. |
رندة: لا يا صرواح فداك أبي وأمي.. |
صرواح: سلمت لي ولأبيك وأمك.. إن العواصف والرمال الزاحفة على خطورتها هي التي تبدد الملل والضجر اللذين يستوليان على المرء وهو يقطع هذه الفيافي والقفار الموحشة.. |
رندة: صدقت يا صرواح فهذه المزعجات والمنغصات تصرف جانباً كثيراً من السأم الذي ينتاب المسافرين في الصحراء.. |
صرواح: على كل حال أرى الريح قد بدأت تسكن والعواصف تهدأ ونحن ندخل هذا الوادي الأجرد.. |
رندة: إنني لست مستوحشة ولا قلقة قدر اهتمامي وقلقي على الطفل الذي أراه مع أمه ووالده أو لعلّه جده.. |
صرواح: إنني أرثي معك لهم ولكن.. |
رندة: ولكن ماذا؟ |
صرواح: أرى قائد هذه القافلة يهتم بأمر هذا العجوز والمرأة والطفل. |
رندة: حبذا لو جئتنا بمعلومات عنهم فإني جد مشتاقة لتنسم أخبارهم.. |
صرواح: سنهجع بهذا الوادي وسوف تذهبين معي لنعرف أخبار إبراهيم ومن معه.. |
(نسمع رغاء الإبل وضجيج ركابها يختلط بموسيقى مناسبة يعقبه صوت وشمة يقول): |
وشمة: لا أدري ماذا فعل الرب برندة يا (ذؤيب). |
ذؤيب: إنها وصرواح يمخران الآن عباب الصحراء.. يا وشمة.. |
وشمة: لهفي عليك يا رندة من وهج الشمس ورمال الصحراء.. |
ذؤيب: لقد أرادت هذه الحياة بعد أن بصرناها بها.. |
وشمة: يا لصرواح.. إنه ساحر.. فتنها بعذب حديثه وبطائفة من أقاصيص بلاده وعجائبها.. |
ذؤيب: يلوح لي أنه فتى شجاع مقدام شهم نبيل.. |
وشمة: لو لم نر فيه هذه الصفات ونتلمس فيه تلك الخصال ما قبلنا به زوجاً لابنتنا.. ولكن.. |
ذؤيب: ولكن ماذا؟ |
وشمة: إنه البعد أين نحن من اليمن.. إن رندة في أقصى الجنوب ونحن في أقصى الشمال.. |
ذؤيب: يقولون إن جو اليمن يشبه جو أرضنا ومناظره لا تقل روعة عن بلادنا.. |
وشمة: أرجو أن تكتب لهما السعادة والهناء.. |
ذؤيب: هذا ما يجب أن نتمنى وندعو الرب لهما.. |
وشمة: ولكني لا أدري يا ذؤيب.. كيف أستطيع الصبر على فراقها لقد خرجنا من الحياة بهذه الابنة الوحيدة فكيف فرطنا فيها.. |
ذؤيب: عدنا للحديث عن الإفراط.. إننا لم نفرط في ابنتا وإنما هي التي اختارت وقد وافقناها على اختيارها بعد أن تأكدنا من حسن ما اختارت.. |
وشمة: هذا صحيح ولكن قلب الأم يختلف عن قلب الأب.. |
ذؤيب: بلى.. بلى.. ولكنك ستصبرين مع الأيام ثم.. |
وشمة: ثم ماذا؟ |
ذؤيب: لقد وعد ((صرواح)) أن يأتي ((برندة)) إلينا كل ما تيسر له ذلك.. |
وشمة: يا له من وعد بعيد.. |
ذؤيب: إنه خير من العدم.. كذلك لا تنسى أنها رحلة طويلة شاقة بالنسبة إلى ابنتنا ((رندة)). |
وشمة: هذا صحيح وعلى كل حال لا مندوحة من الصبر.. وسأصبر.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت صرواح يقول): |
صرواح: أرأيت جبروت قوم إبراهيم وكيف أنهم حاولوا حرقه لأنه سفه آلهتهم ودعاهم إلى عبادة إله واحد خلقهم وآباءهم الأولين.. |
رندة: حقاً إنهم قوم جبّارون ولا سيما وقد برهن لهم بالدليل الملموس أن أصنامهم لا تضر ولا تنفع وأنها عاجزة عن أن تدفع الأذى عن أنفسها فكيف عن غيرها.. |
صرواح: ومع كل هذه البراهين أصروا على إحراقه فأنجاه ربه حين أمر النار بأن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم.. |
رندة: وبالرغم من هذه المعجزة فلم يؤمن بإبراهيم إلا نفر من قومه هاجروا معه إلى بلاد الكنعانيين حيث تزوج بسارة.. |
صرواح: وسارة هي التي كانت السبب في أن تعرف بالنبي إبراهيم وتسلم على يديه ولكن.. |
رندة: ولكن ماذا؟ |
صرواح: أن يجري شيء للطفل إسماعيل من وراء هذه الرحلة الشاقة فإنما هو بسبب غيرة سارة يا ويلنا من غيرتكن التي تجري في دمائكن فتعمي أبصاركن.. قولي.. |
رندة: أقول ماذا؟ |
صرواح: لو رأيتني يا رندة ويدي في يد أنثى غيرك ماذا تصنعين..؟ |
رندة: أقسم لو رأيتك لكنت في عداد الهالكين.. ثم.. |
صرواح: ثم ماذا؟ |
رندة: أراك تقول هذه العبارة بكل بساطة وكأنك لا تدري أنك عندما تقولها أحس بشوك كأنه شوك القتاد ينغرز في جسدي.. مع كل كلمة.. |
صرواح: يا إلهي.. هذا ما اعتراك من كلام تذروه الرياح فكيف لو كان حقيقة.. |
رندة: إياك ثم إياك أن تفكر في مثل ذلك حتى لو في الخيال.. |
صرواح: على كل حال أليس من حق سارة أن تغار من هذا الغلام وهو كما رأيت آية في الجمال.. |
رندة: بلى .. بلى من حقها أن تغار من الطفل ومن أمه التي ما رأت عيني ولا أبصرت في حسنها وخلقها وكمالها.. |
صرواح: إذن فهي على حق إذا ما طلبت من زوجها إبراهيم أن يبعد الطفل وأمه.. |
رندة: أجل يا صرواح أجل.. ولكن.. |
صرواح: ولكن ماذا؟ |
رندة: أين يا ترى سيذهب إبراهيم بالطفل وأمه..؟ |
صرواح: استحيت أن أسأل النبي إبراهيم عن وجهة سيره لأنني فتنت بحديثه وآيات نبوته.. كذلك أنت فقد بقينا مصغين وكأن على رؤوسنا الطير.. |
(نسمع رغاء الإبل وضجيج المسافرين يختلط بموسيقى مناسبة نسمع بعدها صوت رندة تقول): |
رندة: صرواح أرى إبراهيم وزوجه والطفل ينزلون أمتعتهم بهذا الوادي.. يا إلهي ماذا يصنعون به وهو واد غير ذي زرع. |
صرواح: حقاً إنه واد موحش غير مأهول.. |
رندة: وكيف يكون مأهولاً ولا ماء به.. |
صرواح: هاهم ينزلون أمتعتهم عن ظهور الجمال.. |
رندة: أية أمتعة يا صرواح ولا أرى معهم إلا سنة ماء وجراب تمر.. يا إلهي ماذا يفعلون بهذا الوادي المحرق.. |
صرواح: صه يا رندة إنه نبي وما هاجر إلى هذه البلاد إلا بأمر من ربه.. انظري.. |
رندة: انظر ماذا؟ |
صرواح: إن النبي إبراهيم يودع هاجراً وابنها.. |
رندة: ويتركهما وحيدين بهذا الوادي الأجرد.. |
صرواح: هلمي نقترب منهما لنودعه.. |
رندة: صه يا صرواح صه.. إن هاجر تمسك براحلته وتقول له: إلى أين تذهب وتتركنا بهذا المكان الموحش ولا أنيس به.. |
صرواح: يا إلهي.. إنه لا يجيبها بل يمتطي راحلته وهي تكرر قولها الأول.. |
رندة: صه يا صرواح إن هاجر تقول أيضاً وقد أصر على مسيره.. الله أمرك بهذا يا إبراهيم فيقول لها نعم فتقول رضيت بأمر الله.. الله لا يضيعنا.. |
صرواح: أما قلت لك يا رندة أن النبي إبراهيم لم يخلف زوجته وطفلها بهذا الوادي القاحل الأجرد إلا بأمر من ربه.. |
رندة: أجل.. أجل.. آمنت بك يا رب إبراهيم.. آمنت بك يا رب إبراهيم.. |
صرواح: أقسم يا رندة وأنا غير حانث أن هذا الوادي سيشهد أحداثاً ضخمة ستكون حديث الناس في كل زمان ومكان.. |
رندة: يخيل لي أنك صادق في نبوءتك.. |
صرواح: هيا بنا نودع هاجر وابنها فالقافلة على وشك المسير.. |
رندة: ونتركها لمن؟ |
صرواح: نتركهما إلى رحمة الله وعينه التي لا تنام.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى حربية نسمع بعدها صوت ذؤيب يقول): |
ذؤيب: ليتنا رحلنا مع رندة يا وشمة كنا أمنا ويلات الحرب الضروس المستعمرة حالياً بين الحيثيين والفراعنة.. |
وشمة: كلمة يا ليت لا تعمر بيتاً يا ذؤيب كما يقول المثل.. المهم يجب أن نفكر في الابتعاد عن ساحة المعركة.. |
ذؤيب: كيف نستطيع الابتعاد والمعركة محتدمة أمام مدينتنا التي توشك أن تسقط في أيدي الحيثيين.. |
وشمة: يا ويلنا من الحيثيين يا ذؤيب.. |
ذؤيب: بل قولي يا ويلنا من الغالب والمغلوب فنحن كالبربين شقي الرحى هذا يطحننا وذاك يطحننا.. والرب يسترنا من مجيء عدو آخر يذرونا في الرياح.. |
وشمة: ما العمل يا ذؤيب.. إن طبول الحرب تقترب من أبواب المدينة وأخشى ما أخشاه من الحصار فإننا لم نستعد له.. |
(نسمع قرع طبول الحرب مصحوباً بموسيقى حربية نسمع بعدها صوت ذؤيب): |
ذؤيب: لا مجال للهرب يا وشمة وعلينا أن نوطن أنفسنا على قول الأمر الواقع. |
وشمة: يا ويلنا من الحروب متى يا رب تنقطع الحروب ويرفرف السلم والاستقرار على ربوع هذه المنطقة.. |
ذؤيب: إنك تطلبين المستحيل يا وشمة فما دام في الميدان دولتان قويتان تتصارعان على هذه الفريسة فلن يكون هنالك استقرار.. |
وشمة: يجب أن نفكر في مبارحة هذه المنطقة عندما تلوح أو بارقة للاستقرار والصلح.. |
ذؤيب: إلى أين؟ |
وشمة: إلى حيث تقيم رندة.. |
ذؤيب: أتظنين أن الوضع عندها أكثر استقراراً وهدوءاً.. لا يا وشمة لو اطلعت على الغيب اخترت الواقع.. على الأقل.. |
وشمة: على الأقل ماذا؟ |
ذؤيب: نحن نعيش في مكان أكثر حضارة وتمدناً من البلاد التي تعيش فيها رندة.. فاحمدي ربك على ما أنت فيه خشية أن تفقديه.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى سريعة تختلط برغاء الإبل وأجراس الدواب ووقع حوافرها نسمع بعدها صوت حناطة يقول): |
حناطة: يا قوم لقد ودعتم آخر مكان تجدون فيه الماء والكلأ بعد أن غادرتم اليمن في طريقكم إلى الشام.. فاملأوا أوعيتكم واقتصدوا في الشرب.. |
نابل: صدق حناطة يا قوم فنحن ندخل الواد الأجرد القاحل حيث لا عشب ولا ماء، حيث الحر الشديد المحرق.. |
أصوات: انظر يا حناطة.. انظر يا نابل.. |
حناطة: ماذا انظر يا قوم.. انظر يا نابل فأنت في مقتبل العمر وبصرك أحد من بصري.. |
نابل: إني أرى طائراً يحوم على مرتفع عالٍ.. |
أصوات: إنه طير على ذلك الجبل الأسود.. ألا تراه يا نابل؟ |
حناطه: لقد مررت بهذا الوادي عدة مرات فلم أر بل لم ير أحد من رفاقي أي طائر.. إنه لا شك يحوم على جيفة أو ماء.. |
أصوات: ماء.. ماء.. |
حناطه: ابشروا يا قوم بالماء.. ابشروا.. |
((ثم ينادي))
|
نابل، نابل! |
نابل: نعم يا عماه.. |
حناطه: خذ معك بعض الفتيان واسبق الركب واستكشف المكان الذي يحوم الطير فوقه ونحن في أثرك.. |
نابل: أمرك يا عماه.. |
(موسيقى تواكب مسير نابل تختلط برغاء الإبل ووقع حوافر الدواب نسمع بعدها أصوات الفتيات يقولون): |
أصوات: ألا ترى هناك شيئاً يا نابل؟ |
نابل: بلى.. بلى.. |
أصوات: أي شيء هو؟ |
نابل: إنه يشبه إنساناً لا حيواناً. |
أصوات: هنالك شخصان لا شخص واحد.. |
نابل: أراهن أنه أنثى وطفل.. |
أصوات: يا لحدة بصرك يا نابل، أجل إنهما أنثى وطفل بجانبها والماء أمامهما.. |
|