شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أكل الرّبا
(موسيقى صاخبة، وأصوات مبهمة، وضجيج بأنغام معربدة واثنان يتحدثان وهما يذرعان الشارع القريب من مصدر هذه الموسيقى لا نلبث أن نسمع أحدهما واسمه ((حامد)) يقول):
حامد: ما هذه الأنوار الساطعة والزينات المتلألئة، وهذه الموسيقى الصاخبة والأنغام المترنمة…؟
سالم: إنه حفل عرس كما يظهر…
حامد: وفي دار أحد الموسرين بدليل هذا البذخ والإسراف.. أتعرف يا أخي.. من هو صاحب الدار؟
سالم: إنني مثلك غريب عن هذا البلد…
حامد: وما جاء بك إلى هذا البلد…
سالم: جئت في طلب الرزق فقد سدت في وجهي أبوابه فجئت من قريتي إلى هنا… لعلّ الله يفتح عليَّ أبواب رزقه… وأنت؟…
حامد: أما أنا فجئت أستقرض المال من أحد الموسرين في هذا البلد أصلح به أرضي وحالي.
سالم: وما اسم هذا الموسر؟
حامد: أبو المكاسب… هل تعرفه؟
سالم: أسمع أنه من كبار الأغنياء في هذا البلد…
حامد: أتعرف داره يا أخي؟
سالم: لا يا أخي.. ولكن قلبي يحدثني أن داره هي التي نراها أمامنا تعجُّ بالناس وتنبعث منها الموسيقى الصاخبة والأضواء التي قلبت اللَّيل نهاراً…
حامد: هلمَّ بنا إلى هذه الدار..
(تعلو أنغام الموسيقى وأصوات المغنيين والحاضرين كلما اقترب الرجلان من الدار)...
سالم: إنها هي يا أخي دار أبي المكاسب.. وهذا الحفل عرس ابنه….
حامد: لقد عرفت الدار وسأذهب للمبيت في أيّ فندق، وفي الصباح أذهب إلى أبي المكاسب.. وأنت؟
سالم: أمَّا أنا فسأحشر نفسي مع المدعوين وأنتظم مع الآكلين فلي أشهر وأنا محروم من مثل هذه الموائد…
حامد: لك ما تشاء.. أستودعك الله…
سالم: مع السلامة… مع السلامة…
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى.. نسمع بعدها صوت (هارون) يقول):
هارون: كان حفلاً رائعاً يا أبا المكاسب. ذكّرنا بأعراس ألف ليلة وليلة..
أبو المكاسب: لقد أنفقت فيه كثيراً… وإني أحتاج إلى مضاعفة الجهود حتى أعوض ما أنفقت….
هارون: إن هذا الحفل دعاية واسعة لك يا أبا المكاسب، وسترى أن عدد الزبائن سيرتفع ويزداد…
أبو المكاسب: وسأرفع الفائدة… سأتقاضاها من هؤلاء..
هارون: ألا يكفيك أن نسبة الفائدة التي تتقاضاها حالياً هي عشرون بالمائة؟!…
أبو المكاسب: وماذا يضر لو رفعنا نسبة الفائدة إلى (25) بالمائة؟…
هارون: ولكن الزبائن سيهربون من عندك إلى غيرك من المرابين….
أبو المكاسب: إن آجال الدفع عندي مغرية.. وإن صاحب الحاجة لا تهمه نسبة الفائدة عندما يكون محتاجاً… إن الحاجة تعمي بصره وفؤاده…
هارون: صدقت يا أبا المكاسب… قاتل الله الحاجة… وتبًّا للفقر كم يذل الإنسان…
(موسيقى نسمع بعدها صوت (حامد) يقول):
حامد: السلام عليك يا أبا المكاسب…
أبو المكاسب: وعليك السلام.. تفضل واجلس… أهلاً وسهلاً… يا ولد هات قهوة…
حامد: شكراً على لطفك وكرمك…
أبو المكاسب: هل من خدمة أؤديها؟ يا….
حامد: حامد أبو إبراهيم…
أبو المكاسب: أهلاً بك يا أخ حامد…
حامد: يا أبا المكاسب جئتك في طلب قرض أصلح به حالي…
أبو المكاسب: طلبك لا يرد… ولكن ما هو الضمان….؟
حامد: أرض سقي.. وهذا صكها…
(موسيقى خفيفة تختلط بصوت ورق الصَّكّ وأبو المكاسب يقلبه ثم لا يلبث أن يقول)…
أبو المكاسب: وما مقدار القرض الذي تطلبه؟
حامد: ألفان من الجنيهات… آسف مبلغ القرض المطلوب عشرة آلاف جنيه.
أبو المكاسب: مبلغ كبير قرضك لا تسدده في حال عجزك عن الدفع…
حامد:ولكنها مائة دونم سقي وأنت خير من يعرف قيمة الأرض السقي….
أبو المكاسب: صحيح… ولكن الأراضي اليوم أسعارها متدنية.. ومع ذلك فالمبلغ كبير قد لا أستطيع تدبره….
حامد: ولكني في حاجة إليه ويدك تطول يا أبا المكاسب…
أبو المكاسب: حسناً… ولكن أتعرف الفائدة المطلوبة عليه…
حامد: قيل لي إنها عشرون بالمائة….
أبو المكاسب: هذا صحيح، ولكن بعد الإقبال الشديد على القروض ارتفع سعر الفائدة…
حامد: كم أصبحت يا أبا المكاسب؟…
أبو المكاسب: أصبحت (25) بالمائة وأنا يا سيد حامد لن آخذ إلاّ عشرين في المائة، أما الخمسة في المائة فسأدفعها عمولة للتاجر الذي سأقترض لك منه المال.
حامد: ولكنها فائدة فاحشة…
أبو المكاسب: هذا سعر السوق يا حامد، فإن رضيت به تكاتبنا وإلاَّ انصرف كل منا إلى عمله…
حامد: قاتل الله الحاجة… اتفقنا… لا حول ولا قوة إلا بالله…
أبو المكاسب: هارون… هارون…
هارون: حاضر…
أبو المكاسب: اعمل الكمبيالات اللازمة وضع إشارة الحجز على أرضه…
* * *
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت (ثريا) زوج حامد تقول بعد أن عجز زوجها حامد عن دفع الدين وفوائده).
ثريا: خربت بيتنا يا أبا المكاسب.. ربنا يخرب بيتك… ربنا ينتقم منك في مالك وأولادك وعرضك…
شكري: (ابن حامد) يا رب استجب يا رب.. لقد باع أبو المكاسب كل ما نملك مقابل دينه وفوائده حتى عفش البيت.. حتى البسط سحبها من تحتنا فبقينا على البلاط…
ثريا: لم يلن قلبه وهو يسمع بطاء أولادنا من الخوف والهلع وهم يرون الحمالين ينقلون أثاث البيت.. ولكن الله بالمرصاد…
شكري: الذنب ذنبنا يا أماه أيضاً.. لقد عشنا عيشة ترف وبذخ وأنفقنا في سبيل المظاهر الكذابة أكثر دخلنا…
ثريا: صحيح… ولكن لات ساعة مندم يا شكري… علينا أن نتدبر فراشاً بسيطاً يقيناً وإخوتك الصغار برد الشتاء وقوتاً لسد رمقهم ورمقنا..
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت هارون يقول):
هارون: أما قلت لك يا أبا المكاسب إن حفل القران الضخم الذي أحييته زادك سعة فوق سعتك.
أبو المكاسب: صدقت يا هارون، فقد كثر العملاء وزادت الفوائد والأرباح حتى أصبحت أفكر في عدم قبول أي طلب استقراضٍ بعد اليوم….
هارون: لماذا يا أبا المكاسب؟… لماذا؟ ألا تسرَّ بزيادة نهر أرباحك حتى يبلغ الفيضان…
أبو المكاسب: ولكن أخشى الغرق بعد الفيضان…
هارون: وتخشى ممن؟
أبو المكاسب: صحيح يا هارون… أخشى من؟ أنا لا أخشى أحداً…
* * *
(الوقت بزوغ الفجر… صوت الدِّيكة وزقزقة العصافير. موسيقى خفيفة ينبوع صوت أنين ثم اصوات ركض وجري.. وأخيراً نسمع صوت (عفاف) تقول بالهاتف):
عفاف: عمي.. أدركني يا عمي… أبا المكاسب.. ابنك أصيب بمرض فجائي.. إليَّ بالطبيب حالاً..
أبو المكاسب: سآتي بالطبيب حالاً يا بنيتي…
عفاف: أسرع يا عماه… أسرع…
(يزداد الأنين.. وتزداد الهمسات والآهات ويصحب ذلك موسيقى خفيفة تختلط بآهات المريض وأخيراً يقرع التليفون وتسعى (عفاف) فتمسك بالسماعة وتقول):
عفاف: هلو.. هلو.. من.. هارون؟ ماذا تريد؟ عمي غير موجود نحن ننتظره لأن فؤاد مريض جداً.. هل أقول لعمي شيئاً إذا حضر.. أراك مضطرباً يا هارون! حسناً.. سأخبره.
(ويدخل أبو المكاسب ومعه الدكتور الذي يبدأ في الفحص.. يعود الوجوم والسكون تتخلله موسيقى خفيفة ثم صوت أبي المكاسب يقول):
أبو المكاسب: طمني يا دكتور… طمنيّ.. إنه ابني الوحيد…
الدكتور: إذهبي يا سيدة عفاف ودعيني أكلم أبا المكاسب على انفراد…
عفاف: قل يا دكتور فإني زوجه.. لا تخبىء عني شيئاً.. أنا أشفق عليه أكثر من أبيه وأولى به وصحته تهمّني قبل كل واحد…
الدكتور: فؤاد مصاب بجلطة دموية حادة في الدماغ.
أبو المكاسب: (بهلع) جلطة دموية حادة في الدماغ! لا حول ولا قوة إلاَّ بالله…
عفاف: وهل من أمل في شفائه يا دكتور؟…
الدكتور: كل شيء بيد الله… إن شاء الله..
عفاف: عمي أبو المكاسب… هارون سأل عنك بالتليفون وكانت نبرات صوته تدل على اضطرابه…
أبو المكاسب: أين التليفون؟
عفاف: هنالك…
(ويقرع التليفون فيرد هارون ويقول أبو المكاسب):
أبو المكاسب: هارون.. ماذا عندك… ماذا تقول.. ماذا تقول؟
كسر اللصوص الصندوق الحديدي وسرقوا ما به.. أأخبرت الشرطة… بالصندوق الألوف من النقود والودائع… يالخراب بيتي… وامصيبتاه…
(تسمع صرخة حادة يسبقها أنين شخير أليم).
عفاف: أسرع يا دكتور… أسرع….
الدكتور: لا حول ولا قوة إلا بالله.. عظَّم أجركم.. البركة فيك يا أبا المكاسب..
أبو المكاسب: ولدي… مالي… يا عالم… يا ناس!.
يصرخ بصوت جنوني.. ثم يضحك ضحكات هستيرية فيحاول أن يمسك به الدكتور فيضربه..
الدكتور: تضربني.. مسكين.. لقد جنَّ أبو المكاسب يا عفاف.. مصيبتك مزدوجة.
نسمع ضحكات هستيرية صادرة من أبي المكاسب ثم صوت الدكتور… سأطلب بوليس النجدة.
تزداد الضحكات الهيستيرية وتختلط ببكاء عفاف والخدم والحشم.. وأخيراً نسمع صوتاً صادراً من مكان بعيد:
بسم الله الرحمن الرحيم الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ صدق الله العظيم (سورة البقرة آية 275 - 276).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :726  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 58 من 63
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.