(( كلمة المحتفى به الأستاذ جعفر الرائد ))
|
ثم تحدث المحتفى به جعفر الرائد فقال: |
- بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على نبيه محمد سيد المرسلين وآله أجمعين.. السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.. قبل كل شيء أعتذر عن التأخير لأن السائق ما كان يعرف الطريق وجديد على البلد. |
|
- في حفل حاشد بكبار الأدباء والفضلاء فإن الإِنسان قد يرتج عليه إذا وقف خطيباً وكان من أمثالي، غير أن بعض الوجوه البارزة التي أراها في هذا الحفل تشجعني أن أبدأ بموضوع أراه أجدر بالحديث عنه قبل غيره، ذلك هو علاقتي وصلتي بالإِخوة السعوديين خلال عملي بالسفارة الإِيرانية. |
- لقد عوملت بأكثر مما كنت أستحق، وأشهد الله تبارك وتعالى أنني عوملت معاملةً حسنة دون النظر إلى عملي في السلك السياسي ملحقاً أو سكرتيرا ثالثاً أو غير ذلك من المسميات، وإني أرى في الحضور الشيخ محمد سعيد العوضي الذي كان يعاملني عندما أزوره كما يعاملني الآن، في حين أنني كنت حينئذٍ أعمل كاتباً بسيطاً، أي أنه كان يعاملني بخير ما يعامل إنساناً. وكذلك الشيخ عبد الله بلخير حينما كنت أزوره في الإِذاعة كان يعاملني دائماً معاملةً ممتازة لا نظير لها ومن الذين لن أنسى حسن معاملتهم لي الشيخ طاهر رضوان وكيل وزارة الخارجية السعودية في ذلك الوقت فقد عاملني فوق ما أستحق، لدرجة أنه تفضل بزيارتي في منزلي المتواضع إبان فترة عملي قائماً بأعمال السفير، وما قام به سعادته عمل لم يسبق أن قام به مسؤول يشغل منصبه، ولكنه حسن الخلق والتواضع وكريم الأخلاق. |
- وعلى كل حال فما حظيت به من كريم المعاملة والاهتمام جعلني أدين لهذا البلد وأهله بالفضل والمروءة، وما هذه الليلة التي يحتفل فيها الشيخ عبد المقصود بشخصي إلاَّ أنموذج للشيم الحسنة والصفات النبيلة التي يتمتع بها أبناء هذا البلد، حفظه الله وحفظ قادته وأفراد شعبه. |
- أما الحديث عن شخصي وعن تاريخ حياتي فإني أتصور أنه لا يهم كثيراً أو قليلاً، لأنه لا يحتوي على معجزات خارقات للعادة، وليس عندي ما يمكن أن يضعني في قائمة أولئك الذين يشار إليهـم بالبنان أو يجعل الناس يهرعون إليهم زرافات ووحدانا. ولقد ساعدتني تنقلاتي وأسفاري المتعددة وزياراتي لكثير من البلدان والعواصم على التعرف على طبيعة كثير من الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم، وكسبت من وراء ذلك صداقات عدة ما زلت أجني ثمارها حتى اليوم، ولعل هذه الأمسية من الثمار الطيبة التي اكتسبتها من تلك الصداقات. ولعل من الصدف الحسنة أن أول من تعرفت عليهم من السعوديين اثنان من كبار تجار المملكة، عرفا أني على صلة بالقنصلية الإِيرانية، وأرادا مني أن أتوسط لهما في الحصول على تأشيرة دخول إلى إيران، أحدهما كان الأستاذ عثمان خوجه وهو لا يزال حياً يرزق، أطال الله بقاءه وهو يعمل الآن مع الرابطة، أما الثاني فكان موسى خوجندي رحمة الله عليه. |
- أما الحديث عن سيرتي الذاتية فإننا نعلم جميعاً أن قدر الإِنسان ليس بيده، ولكن الله هو المقدر والإِنسان مسير وليس مخيراً، وكثيرا ما يتمنى إدراك شيء ويخطط له، ولكن المقدور يأتي بغير ذلك، كما قيل: وتقدرون وتضحك الأقدار، أو كما قال الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. |
- إن أهم شيء حدث لي منذ صغري وكان له تأثير كبير في حياتي، أن والدي رحمة الله عليه اهتم منذ الصغر بتقويم لساني باللغة العربية، وكان يعتقد أن اللغة العربية لا يمكن إتقانها إلا بالقراءة الصحيحة حتى يصبح النطق الصحيح ملكة له، ثم بتعلم القواعد، وكان يقول لي إن كثيراً من كبار العلماء من المتخصصين بالأدب العربي وبالنحو والصرف يلحنون عند القراءة، وقد سمعت بالتجربة أن بعض الإِخوة الذين كانوا يدرسون "مغني اللبيب". كانوا يلحنون، لهذا اهتم بتقويم لساني، وكان يحفظني ألفية ابن مالك وعمري (5) سنوات.. ولم تبدأ دراستي المنظمة الحديثة إلا بعد بلوغي الثلاثين من عمري، عندما ذهبت إلى إيران وطلب مني الحصول على شهادة جامعية حتى تفتح لي الطريق، فالتحقت بكلية هناك هي في الواقع كلية علوم الشريعة.. كانت تسمى كلية المعقول والمنقول، أي العلوم العقلية والنقلية. وفي الواقع أنني لم أكمل دراستي الحديثة الابتدائية إلا في إيران في تبريز، أو بالأصح في إحدى توابع تبريز، وأكملت المرحلة المتوسطة ولكنني لم أكمل المرحلة الثانوية. وفي تلك الفترة أمر شاه إيران رضا شاه بالسفور إجباراً، وقد سبب ذلك مغادرة كثير من الناس أراضي إيران متوجهين إلى البحرين أو مناطق أخرى، فوالدي عندما رأى ذلك قرر أن يترك تبريز ويهاجر إلى العراق، وفي العراق واصلت دراستي بالمرحلة الثانوية وكان عمري حوالي 16 أو 15 وزاد اهتمامي بالأدب بوجود عدد كبير من الكتب العربية، بالإِضافة إلى اهتمامي بالأدب الفارسي. ثم عدنا إلى الكويت من العراق بعد سنة أو سنتين، ومن تجربتي اتضح لي أن الدراسة في القرى أكثر فائدة من الدراسة في المدن الكبرى. |
- في الكويت كانت حياتي منقطعة للعلم.. بيتنا والمسجد لا غير، فهناك أكببت على الكتب كلها، لا سيما الكتب الدسمة المفيدة مثل "البيان والتبيين" أو كتب أخرى في نفس المستوى، ومن أدباء العصر الحديث إذا أردت أن أقرأ.. أقرأ لطه حسين، للمنفلوطي، للرافعي، ولمن هم على نفس المستوى. |
- وكان والدي يصر على أن أنظم ولو بيتين من الشعر، وكان اهتمامه أن أدرس الفلسفة، ومن هنا نشأ عندي اهتمام بالشعر، فقرأت لفهد العسكر وعبد الله الصائغ، وكانت لي صلة قوية بالشيخ عبد الله الجابر، فكنا نتبادل الزيارات. ولقد نظمت الشعر العربي والفارسي ومن باكورة إنتاجي الشعري هذان البيتان: |
أبيت على شوكٍ نهاري إذا انقضى |
ولم يك حسنٌ غض قلبي ناغـى |
كأن الذي صـاغ النجوم لوامعا |
لحب الوجوه النور قلبي صاغا |
|
- ثم أحرقت الديوان وكفرت بالشعر وتركته. |
- بعدئذ قررت أن أطرق أبواب العمل الحر، فذهبت إلى العراق حتى أشتغل بالتجارة ففشلت، ثم ذهبت إلى إيران للعيش. وبقيت في طهران بعض الشهور، ثم دعيت إلى بعض المدارس التي كانت تعد الطلاب للفحوص آخر السنة، وأقوم بتعليمهم اللغة العربية، ثم التحقت بالصحافة ولم تمضِ إلا شهور قليلة حتى أصبحت من الكُتَّاب المعروفين، أكتب في الصحافة اليومية، وأحببت عمل الصحافة، وكنت أراسل بعض الصحف العربية مثل: مجلة النداء، وجريدة الأخبار العراقية. لكن حدث في إيران أحداث تسببت في قيام الحكم العرفي ومنعت على إثر ذلك جميع الصحف من الصدور، فانسدت الأبواب في وجهي، فقررت أن ألتحق بوظيفة حكومية. ثم أترك وأعود إلى الصحافة عندما تعود الأمور إلى ما كانت عليه. |
- وزارة الخارجية كانت في حاجة إلى مترجم يجيد اللغتين الفارسية والعربية، فقدمت نفسي وقبلت، وفي تلك الفترة التحقت بكلية المعقول والمنقول أو الأصح كلية العلوم العقلية والعلوم النقلية، وعندما تخرجت وحصلت على شهادتها اقترحت وزارة الخارجية عليَّ أن أدخل السلك السياسي وبعد نجاحي في الفحص الذي أُعدَّ لي دخلت السلك السياسي، وعندما دخلت في السلك السياسي كنت أفكر في العودة إلى ميدان الصحافة لكن سرعة تقدمي في السلك السياسي سد طريق الرجعة عليَّ، وكان أول بلد أوفدت إليه هو المملكة رغم أن النظام كان لا يجيز إيفاد موظف إلى الخارج قبل أن يقضي سنتين، ولكن وزارة الخارجية رأت أن عملي بها بوظيفة مترجم لمدة سنتين كاف لإِيفادي. |
- كان ذلك عام 1951م، وتعرفت عند وصولي بالشاعر الكبير معالي الأستاذ عبد الله بلخير ومعالي الأستاذ محمد العوضي، كما تعرفت على خير الدين الزَرْكلي.. بعض الناس يلفظونه الزَرَكْلي لكنني أعتقد أن الزَرْكلِّي هو النطق الصحيح. واستعان المحتفى به بالدكتور صلاح الدين المنجد في تبيان الحقيقة فقال الدكتور المنجد ينطقها الزِرَكْلي وليس الزَرْكلِّي، لأنه ينتسب إلى أسرة أو قبيلة كردية تحمل هذا الاسم. |
- إن ما رأيت من الكرم في هذا البلد أكثر بكثير مما يمكن أن ينتظره إنسان في بلد آخر. لقد كان السيد عمر السقاف في تلك الفترة مدير المراسم بوزارة الخارجية، وكان يصطحبني في سيارته ونتوجه معاً إلى خارج مدينة جدة، وكانت جدة صغيرة، وقضيت بجدة (4) سنوات كاملة، تعرفت خلالها على عدد كبير من الأدباء، كما تعرفت على عدد من الإِخوان العراقيين، ومنهم عبد الحق فاضل ونجيب الراوي، ويعتبر عبد الحق فاضل من خير من ترجم شعر الخيام إلى اللغة العربية، لأنه كان قبلها في طهران وألف قصصاً باللغة الفارسية. |
- وعندما عدت سفيراً مرةً أخرى فقد نفعتني هذه الصداقة، فكانت الأبواب مفتحة لي تماماً، فأول ما ذهبت إلى السيد عمر السقاف وعرضت عليه الكلمة التي أريد أن ألقيها أمام الملك الراحل الملك فيصل رحمة الله عليه، وهذا العمل لا يقوم به أحد من السفراء، ولكن لعلاقتي الطيبة بالسيد عمر السقاف فقد قبل ونصحني نصائح قيمة وعندما ألقيت الكلمة أمام الملك فيصل رحمة الله عليه أيضاً تأثر ورد عليَّ، وقد كانوا جميعاً يساعدونني مساعدةً طيبة، وقد استمرت هذه المساعدة إلى عهد الملك خالد وجلالة الملك فهد إبان ولايته للعهد، فعندما زار كل منهما إيران أثنوا على عملي هنا، وجلالة الملك فهد مرة في مجلسه أثنى عليَّ. والحقيقة فأنا مدين للجميع وعلى رأسهم جلالة الملك فهد حفظه الله، فبثنائهم علي وافقت إيران على بقائي سفيراً بالمملكة حتى بعد أن تقاعدت. فأنا والحمد لله أشعر بالسعادة مادام الناس الذين أحبهم راضين عني، وخير شاهد على ذلك هو حفلة الأستاذ خوجه هذه. |
- لقد عرف في القديم أن السلك الدبلوماسي يقوي علاقاته بالناس عن طريق الحفلات الساهرة أو بلعب القمار، لكنني رأيت أن الأدب هو خير ما يوثق بين الإِنسان وبين أهل البلد الذي يقيم به، وهو عمل نظيف طاهر مفيد ليس فيه ضرر مطلقاً. |
- وخلال عملي بالعراق تعرفت على معظم الأدباء واتصلت بهم وفي سوريا نفس الشيء، وممن تعرفت عليهم خلدون الشمعة المعروف وكان وقتها يشرف على مجلة المعرفة والآن يرأس مجلة الدستور في لندن. ومن الأشياء الهامة التي حدثت لي في سوريا أن الدكتور سعيد الأفغاني كان رئيس قسم اللغة العربية في جامعة دمشق فطلب مني أن أقوم بتدريس اللغة الفارسية فقبلت، وقد حاولت في تدريسي أن أسهل على التلاميذ لأن الصلة قوية بين اللغة العربية وبين اللغة الفارسية أكثر مما يتصوره كثير من الناس، فكنت أحاول أن أوضح لهم أصول الكلمات الفارسية باللغة العربية، بحيث لا يحتاج التلميذ لاستعادة دراسة ما تعلمه في الفصل، بل كان يكتفي بما شرحته له، وقد تخرج كثير من الطلاب وأصبحوا من كبار الشعراء. |
- في الختام لا أحب أن أطيل فالأحداث كثيرة، لكن لا يجوز لي أن آخذ أكثر من هذا من وقت الإِخوان، وقبل أن أنهي كلمتي أحب أن أشكر الأستاذ عبد المقصود خوجه، وأشكر الرجال الكرام الذين شرفوني هنا. كما أحب قبل أن أترك هذا اللاقط أن أشير إلى دولة الشيخ أحمد النعمان الذي كان عند قيام الثورة في اليمن مستشاراً للمجلس الجمهوري ثم أصبح أحد الأعضاء الثلاثة في المجلس الجمهوري، وعندما ذهبت إلى اليمن سفيراً لإِيران كنت حريصاً على الالتقاء به، ولقد سعدت هذه الليلة بحضوره حفلة تكريمي فشكراً له على ذلك. |
|
|