شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به الأستاذ محمد عبد الله مليباري ))
ثم تحدث الأستاذ محمد عبد الله مليباري فقال:
- بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله.. وعلى آله وصحبه المجاهدين في سبيل الله حق جهاده.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد..
- ففي البداية أشكر أخي وصديقي الحبيب الأستاذ عبد المقصود محمد سعيد خوجه على هذه اللفتة الكريمة المتوهجة التي أدفأ بها حياتي الأدبية، فهي حياة عشتها طالب علم وما زلت أعيشها طالب علم، وسأظل أعيشها طالب علم حتى آخر نبضة من نبضات العمر إن شاء الله.. حياة ليس فيها ما يثير أو يدهش أو يشوق أو يبهر، فهي اعتيادية جداً، بدأتها بالقراءة الطويلة المستوعبة المتأنية، ثم بالكتابة في موضوعات شتى قد يكون في نوعيتها تباين، كتبت القصة، وكتبت عن القصة، وكتبت الشعر وكتبت عن الشعر، وكتبت المقالة وكتبت عن المقالة، ولا أعتبر كل ذلك إلا تنسيقاً مزوداً بطاقة مختزنة مما أمتحه من منابع العلم في رحلتي التحصيلية كل آن وكل حين، وتنسيق الطاقة دافع والدافع يتضمن أنواعاً متعددة: فهناك تنظيم عصبي عضلي سابق، وهناك تنظيم عصبي ذهني سابق، وهو عتاد حركي يميز الدافع من المهارة.. وكما يقولون الدافع حركة وعمل، ذلك ما استثمرته في كتاباتي الأدبية كلها فيما كتبته من قصص وفيما كتبته عن القصص، وفيما كتبته من شعر وفيما كتبته عن الشعر، وفيما كتبته من أدب وفيما كتبته عن الأدب، حتى الحوار المطروح على الساحة الأدبية حالياً في موضوع غاسق الحداثة له نصيب من هذا التنسيق وهذا الدافع.
- غاسق الحداثة يحاول أن يقب وقبا في جدار ثباتنا لينفذ منه إلى ساحة أدبنا خانقاً قيمنا ومحطماً تقاليدنا وعاداتنا، ومبعثراً كل قاعدة تقوم عليها إبداعاتنا الأدبية ومنجزاتنا الفكرية.. إنه يكتب الشعر وأعني به غاسق الحداثة إنه يكتب الشعر للمستقبل والأجيال القادمة، وهو بهذا يساير بعض المستشرقين من أمثال مارجليوث وبلاشير. يقول بلاشير: إن العربي مفلس وعيه عن المستقبل، بدليل أن هناك بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين توقفوا عن جمع القرآن حينما عرضت القضية على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وخشوا أن يقوموا بعمل لم يقم به الرسول صلى الله عليه وسلم.. فاعتبر ذلك إفلاساً للوعي العربي من المستقبل، وقال: لو أن العربي لديه وعي بالمستقبل كان تلبية الصحابة كلهم بالإِجماع قائمة عندما طلب منهم جمع القرآن. ويستدل بدليل آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما توفي لم يوص بمن يخلفه، وأنه صلى الله عليه وسلم رغم التشريعات الإِسلامية في الجنايات والأحوال الشخصية لم يترك للمسلمين نظاماً مقنناً للحكم، فإفلاس الوعي العربي من المستقبل جعل غاسق الحداثة يكتب للمستقبل.
- بالأمس قرأت خبراً جاء فيه أن حداثياً دعا في ندوة أدبية بنادي الوحدة بمكة المكرمة إلى أن نتقبل الحداثة كما تقبلنا الرياضيات الحديثة، ونسي هذا الحداثي أننا لم نتقبل الرياضيات الحديثة إلا حينما وفدت إلينا بأرقامنا التي أخذتها أوروبا منا، بأرقامنا الثابتة وبصفرنا الذي أهديناه إلى أوروبا.. أوروبا لم ترفض أرقامنا ولم ترفض صفرنا كما رفضت الحداثة كل تراث وكل قيمة وكل تقليد وكل قاعدة من قواعد اللغة العربية. هذا حديث كنت راغباً عنه ولكن إشفاقي على أفكار شابة سلبها غاسق الحداثة يقينياتها وحطم صلتها بالماضي هو الذي أجرى هذا الحديث عن لسان غاسق الحداثة، وقد علمنا القرآن الكريم أن نتعوذ من شر كل غاسق في قوله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ومن شر غاسق إذا وقب.
- بعد هذا أنتقل إلى حديث محبب إلى نفسي وأعتقد أنه محبب إلى نفوسكم جميعاً، وهو الحديث عن تاريخ مكة المكرمة أم القرى البلدة الطاهرة المقدسة، التي ذاب في أفقها أول صرخة من صرخات حياتي يوم هبطت على ثراها الطيب المضيء من ظلمات الرحم. تاريخ مكة بدأت في كتابته مفصلاً له منذ خمس سنوات تقريباً، ورغم هذه الفترة الزمنية غير القصيرة لم أنجز إلاَّ جزءاً واحداً في أربعمائة صفحة تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً، وقد انطلقت في كتابة هذا التاريخ من سؤال وجهته إلى نفسي.. أين يا ترى كان موطن أولى عربي على وجه هذه البسيطة؟ وأين كان موطن اللغة العربية الأولى؟ ورحت أبحث وأبحث طويلاً حتى تجمعت عندي إجابات كثيرة وكثيرة جداً في بعضها تباين وفي بعضها تناقض وفي بعضها تلاؤم وفي بعضها توافق.
- قال الإِخباريون القحطانيون أن أول عربي هو يعرب بن قحطان ويعرب بن قحطان ابن يقطان الذي جاء ذكره في التوراة، يقطان بن عابد بن شالك بن أرفخشات بن سام بن نوح عليه السلام. وإن العربية أول ما جرت، جرت على لسان يعرب. إذن فموطن العربي الأول لا شك في مكان ما بين النهرين أو الهلال الخصيب. ولكن هذا القول له خلفيات عصبية وهي الخلفيات التي تركها الصراع العصبي بين القحطانيين والعدنانيين، وقد بدرت بوادره الأولى قبل الإِسلام في الخصومات التي كانت تنشب بين المكيين والمدنيين، ثم اشتد الصراع حتى وصل إلى ذروته في الموقعة التي وقعت بين ابن الزبير وبين مروان بن الحكم، وكانت القيسية مع ابن الزبير والكلبية مع مروان.
- لا أريد أن أخوض في تلك الصراعات العصبية فهي طويلة وشائكة جداً... المهم قال النسابون العدنانيون وفيهم من القحطانيين أيضاً كابن الكلبي: إن قحطان من ولد إسماعيل عليه السلام، ويؤيد هذا بعض نصوص مقدسة وبعض آيات قرآنية كالآية التي قال فيها الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم... وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين ونقل ابن سعد في طبقاته رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام .
- وهناك دراسة صغيرة أجريتها فظهر لي منها أن قحطان وعدنان عاشا في زمن واحد، هذه الدراسة قمت بها بإجراء مقارنة بين بعض أنساب القحطانيين وبعض أنساب العدنانيين وعلى رأس هذه الأنساب النسب النبوي الشريف، فكلنا يعلم أن بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عدنان واحداً وعشرين جيلاً، فلو أعطينا لكل جيل ثلاثين سنة كعمر، كان حاصل أعمار الأجيال التي بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين عدنان ستمائة وثلاثون سنة، نطرح من هذا الحاصل خمسمائة وسبعين سنة وهي السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم فنجد أن الباقي هو ستون سنة، وهذا يعني أن عدنان عاش ما بين الثلاثين والستين قبل الميلاد. ولدينا من القحطانيين الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم عدد كبير منهم جد زرارة بن جرول وزرارة بن جرول، هذا ممن ناهضوا الخليفة الثالث الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه. وعندما درست نسب جد زرارة وجدت أن بينه وبين قحطان واحداً وعشرين جيلاً أيضاً، وكذلك درست أنساب بعض أبناء حاتم الطائي فلم يقل هذا العدد من الأجيال بينهم وبين قحطان، وهذا يعني أن قحطان أيضاً عاش بين الثلاثين والستين قبل الميلاد متزامناً مع عدنان.
- بعد هذا بحثت في الدراسات الحديثة والبحوث العلمية التي بنيت على الكشوفات والأثريات، وإذا بي أجد أن أقدم لغة سامية عرفتها الدراسات هي اللغة الكنعانية، واللغة الكنعانية تكاد تكون لهجة من اللهجات العربية الأولى. ومما يزيدنا ثقة في بعض علمائنا الأفذاذ من القدامى نص قرأته في كتاب "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي، جاء فيه: والكنعانيون هم من ولد سام بن نوح، وكانوا يتكلمون بلغة تضارع اللغة العربية التي نتكلم بها.. هذا شيء من تراثنا الذي يحاول غاسق الحداثة القضاء عليه.. ومن اللغة الكنعانية انحدرت اللغة الآشورية البابلية، وهي بالنسبة للغات السامية كاللغة السنسكريتية للغات الآرية.
- ومن اللغة الآشورية تفرعت اللغة الآرامية التي كان يتكلم بها إبراهيم عليه السلام، وقد قال عنها الدكتور هلمود: إن إبرام أي إبراهيم عليه السلام كان يتكلم اللغة الآرامية القريبة من العربية. وجاء إبراهيم عليه السلام إلى مكة المكرمة بابنه إسماعيل وأمه هاجر وظهر زمزم، وجاءت رفقة من جرهم تساكن إسماعيل وأمه هاجر، فهل هذه الرفقة كانوا من قحطان وقحطان كما ذكرنا سابقا عاصر عدنان؟ إذن هذه الرفقة كانت من الآراميين أيضاً وكانوا يتحدثون بلهجة آرامية لا اختلاف بينها وبين لهجة إبراهيم وإسماعيل إلا اليسير.
- صحيح أن هناك بعض المؤرخين والإِخباريين العرب قال إن لغة إبراهيم كانت اللغة السريانية وهم لم يجانبوا الصواب فيما قالوا، لأن الآرامية سميت بالسريانية عندما اعتنق الآراميون المسيحية.. تلك حقائق علمية، وقال بعض المؤرخين إنَّ لغة إبراهيم كانت العبرية وهذا غير صحيح، لأن اللغة العبرية لم تعرف باسمها إلا بعد موت موسى عليه السلام بمائة سنة تقريباً، وإبراهيم متقدم عن سيدنا موسى عليه السلام بأكثر من خمسة قرون. إذن رفقة جرهم كانت تتكلم الآرامية وكان إسماعيل يتكلم أيضاً الآرامية، وبزواج إسماعيل من جرهم نشأ أول عربي في مكة المكرمة وهو حيدر بن إسماعيل، وبتلاقح اللهجتين الآراميتين نشأت اللغة العربية الأولى في مكة المكرمة أيضاً. مكة المكرمة مهد العربية الأولى ومهد العربي الأول، وفي مكة المكرمة نزل القرآن الكريم باللغة العربية المتطورة التي وصلت إلى حد الكمال في عهد قريش.. هذا الكتاب الكريم صان اللغة العربية من الضياع والتبدد والانقراض، وأعطى لهذه اللغة فضاء لتنتشر في كثير من بقاع الأرض. في مكة المكرمة نشأ العربي الأول، وفي مكة المكرمة نشأت اللغة العربية الأولى، وفي مكة المكرمة نزل الكتاب الذي صان هذه اللغة.
- أظن أنني أطلت عليكم فأرجوكم المعذرة، وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم إلى ما فيه الخير، ويعينني وإياكم لخدمة هذا البلد الطاهر المقدس ولخدمة اللغة العربية؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :969  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 86 من 187
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الأول: خميس الكويت الدامي: 1990]

وحي الصحراء

[صفحة من الأدب العصري في الحجاز: 1983]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج