الحلقة ـ 55 ـ |
عزرا: ولكنك ستندمين يا راحيل... |
راحيل: لست أول ولا آخر يهودية تذهب ضحية في سبيل أورشليم فمواكب الضحايا طويلة وطويلة جداً... |
عزرا: ألا يمكن أن تتريثي بعض الوقت ولا تستعجلي في الرحيل.. |
راحيل: سأبقى إذا تأكدت من أنك سترحل معي... |
عزرا: سأرحل معك يا عزيزتي ولكن أعطني الفرصة حتى أصفى تجارتي وديوني... |
راحيل: ولكن ذلك يأخذ وقتاً طويلاً وأنا لا أطيق الانتظار... |
عزرا: لن تتأخر التصفية طويلاً يا راحيل.. بل ربما وجدت من يتقبل تجارتي وديوني وإن كان في ذلك خسارة كبيرة عليّ... |
راحيل: ستعوضها يا عزرا حين نصل إلى أورشليم أضعافاً مضاعفة... |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت الأمير عمرو بن مضاض يقول): |
عمرو: سكان مكة في ازدياد مطرد ورقعة المدينة تتسع يوماً بعد يوم وأخشى ما أخشاه ألا تعود المياه الحالية كافية لإسقاء السكان الأصليين والوافدين إلى مكة... |
شداد: هذا صحيح أيها الأمير فقد بدأت أصوات الشكاوى من قلة المياه ترتفع من بعض أحياء مكة ولاسيما الشرقية منها والشمالية... |
عمرو: يجب التغلب على هذه الأزمة فالإنسان قد يصبر على كثير من الأشياء إلا الماء وخاصة في أيام القيظ والسائم... |
شداد: أرى أيها الأمير أن نشجع الموسرين من أهل البلد على حفر الآبار وإن يبدأ الأمير بحفر بئر أو اثنين على نفقته تشجيعاً للناس للاقتداء به.. |
عمرو: أنا على استعداد يا شداد ولكن أين الخبراء الذين يعرفون مواطن المياه... |
شداد: الخبراء موجودون في مكة وبين العربان القاطنين حول مكة... |
عمرو: اتثقِ منهم الكفء وابدأ في العمل حالاً والمال ميسور والحمد لله لتسيير العمل.. ولكن.. |
شداد: ولكن ماذا أيها الأمير؟ |
عمرو: ما هي السبيل لإقناع الموسرين بالإقدام على حفر الآبار...؟ |
شداد: عندما تبدؤون أيها الأمير في حفر أول بئر على نفقتكم تدعون هؤلاء الموسرين لمقابلتكم وتحضونهم وسيدي الأمير له من قوة البيان والحجة ما يقنعهم على الاقتداء به. |
عمرو: أرجو أن يوفقني الله إلى ذلك. فموضوع المياه هام وخطير... |
شداد: نسيت أن أذكر أن أبا داس وسيلاوس خبيران ماهران في تحديد مواطن المياه فقد سمعتهما يتحدثان في هذه المواضيع حديث الخبير العليم... |
عمرو: أرى أن نستعين بخبرتهما يا شداد طالما هما كما تقول... |
شداد: سأذهب في الحال إليهما أيها الأمير فموضوع المياه كما قلتم حيوي جداً يجب أن يقدم على جميع المشاريع الأخرى. |
عمرو: سر على بركة الله... الله معك.. الله معك... |
(أجراس الدواب ووقع حوافرها نسمع بعدها صوت عزرا يقول): |
عزرا: وداعاً يا يثرب وداعاً.. من يدري فقد لا نلتقي بعد اليوم... |
راحيل: يلوح لي يا عزرا أن الأمل يراودك في العودة يوماً إلى يثرب... |
عزرا: إنها بلاد جميلة نعمنا فيها بالعيش الرغيد والخير العميم والريح الوفير فلماذا لا تعاودنا الرغبة في العودة إليها. |
راحيل: أنسيت خيرات أورشليم ونعمها... |
عزرا: لم تر عيناي النور إلا في يثرب.. ولدت هنا وولد أبي. أما جدي فهو الذي لجأ إلى يثرب هارباً من سيوف الرومان وجلاديهم... |
راحيل: ولكن الرومان السفاحين قد أكلتهم الحروب والفتن وطحنتهم السنون... |
عزرا: ولكن العطش إلى الدماء ما يزال يجري في دماء أبنائهم وأحفادهم... |
راحيل: لقد ارتوى الرومان من دماء الفتوحات بحيث لم تعد فيه الرغبة في إراقة دماء جديدة... |
عزرا: الظلم غريزة أصيلة عميقة الجذور في الرومان حتى ليصعب اقتلاعها من نفوسهم مهما امتدت بحكمهم السنين. بل لعل امتداد حكمهم واتساع رقعته يفسح المجال لإراقة مزيد من الدماء.. |
راحيل: أراك جد متشائم يا عزرا.. كان من واجبك وأنت على هذه الحال أن لا تأتي معي وأن تبقى حيث كنت.. |
عزرا: لم أطق الابتعاد عنك يا عزيزتي... |
راحيل: إذن فمن واجبك التجلد والصبر على الأقل مراعاة لشعوري ما دمت تقدر شعوري... |
عزرا: سمعاً وطاعة يا راحيل. لن تسمعي مني بعد اليوم تذمراً ولا شكوى.. سأرضى بما رضيت ولو كان فيه هلاكي. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت شداد يقول): |
شداد: السلام عليكما.. |
أبو داس وسيلاوس: وعليك السلام يا شداد يا حكيم مكة.. |
شداد: شكراً على هذا الإطراء الذي لا أستحقه... |
سيلاوس: أنك تستحقه وزيادة فمواهبك لا تحصى ولا تعد... |
شداد: شكراً شكراً يا سيلاوس... لا تزرع الغرور في نفسي فما دخل الغرور قلب امرئ إلا قتله... |
أبو داس: صدقت يا شداد صدقت اللهم جنبنا شرور الغرور.. |
شداد: لقد جئتكما في موضوع هام جداً... |
أبو داس: قل يا شداد فكلنا آذان مصغية... |
شداد: لا شك أنكم لاحظتم ازدياد سكان مكة المطرد... |
سيلاوس: أجل يا شداد أجل... |
شداد: وقد أدى هذا الازدياد إلى أزمة في المياه ظهرت آثارها في بعض الأحياء الشرقية والشمالية من مكة... |
أبو داس: لقد سمعت لغطاً حول ذلك من بعض الناس... |
شداد: ورأى أمير مكة أن يقوم بحملة دعاية واسعة يشجع فيها الموسرين من أهل مكة على حفر الآبار... |
سيلاوس: يا لها من فكرة سديدة... |
شداد: وسيبدأ الأمير بحفر بئرين على نفقته الخاصة... |
أبو داس: شيء جميل.. وعمل جليل يجب أن يقتدى به... |
شداد: وقد عرضت للأمير عن خبرتكما في تحديد أماكن المياه الجوفية. |
سيلاوس: إنها خطيرة متواضعة أرجو أن لا يكون الإهمال قد أضاعها... |
شداد: لا اعتقد يا سيلاوس... لا أعتقد... |
أبو داس: ألا يوجد في مكة وضواحيها خبراء بالمياه الجوفية؟.. |
شداد: بلى يا أبا داس بلى ولكن الأمير يرى أن تكونا على رأس الخبراء الذين سننتخبهم للكشف على الأماكن الصالحة لحفر الآبار... |
سيلاوس: إنه تقدير كبير من الأمير نعتز به ونفخر ونرجو إبلاغه شكرنا وإننا نضع أنفسنا في خدمته لهذه المشاريع الأولية خدمات أخرى يرى أننا نستطيع تأديتها... |
شداد: شكراً.. شكراً.. سأنقل ذلك للأمير.. استودعكما الله... |
أبو داس وسيلاوس: مع السلامة.. مع السلامة... |
(أجراس الدواب ورغاء الإبل نسمع بعدها صوت جلجل يقول): |
جلجل: لقد مرت بنا أيام سود يا مسفر هربنا فيها إلى الجبال والأماكن النائية خوفاً من فظائع الرومان. |
مسفر: كانت فترة عصيبة بالنسبة لكم يا أهل بلاد العرب فقد انقطعت قوافلكم عنا وحرمنا أثوابكم وعطوركم وبخوركم ومركم ولبانكم فارتفعت أسعار هذه الحاجيات بشكل مريع... |
جلجل: ولكنها كانت فرصة لقوافل التدمريين لنقل منتوجات الهند عن طريق الخليج العربي... |
مسفر: حتى قوافل التدمريين لم تستطع الحد من ارتفاع الأسعار وتشحطها... |
جلجل: ربما لأن العرض قليل والطلب كثير.. يا مسفر... |
مسفر: هذا هو الواقع يا جلجل... |
جلجل: كنا بالإضافة إلى انقطاع قوافلنا التجارية ووسيلتنا الوحيدة التي نعيش منها نخشى أن يدخل الرومان مكة فيهدموا البيت الذي بناه إبراهيم ويدكوا المدينة دكاً.... |
مسفر: لعل أحاسيسنا نحن أهل الشام وأحاسيسكم أنتم واحدة... |
جلجل: كيف يا مسفر كيف؟.. |
مسفر: منذ وطئت الحملة الرومانية أرض بلاد العرب ولا حديث للناس في الشام وفلسطين إلا المصير الذي ينتظر مكة والبيت الذي بناه إبراهيم... |
جلجل: يا لاتفاق الأحاسيس والمشاعر... |
مسفر: وكنا نقول أن أول عمل للرومان في بلاد العرب هو هدم البيت الذي بناه إبراهيم كما هدموا هيكل سليمان في أورشليم ولكن صمودكم للحملة وردكم إياها على أعقابها كان مفخرة لنا وعزة... |
جلجل: لقد لعبت مكة بقيادة أميرها دوراً رئيسياً في هذا الصمود. فأميرها هو الذي أوجد قوة التجمع العربي تلك القوة التي صدت الرومان عن دخول مكة.. |
مسفر: كان صمودكم أيها العرب معجزة أمام الزحف الروماني الكاسح. لقد سجلتم أروع المثل والبطولات. وأغلقتم بلادكم في وجه الغزاة والفاتحين إلى الأبد.. إلى الأبد.. |
جلجل: عسى أن تظل روح الحماس التي أججتها الحملة الرومانية مضيئة في قلوبنا تنير لنا الطريق إلى سواء السبيل... |
مسفر: هذا شيء في أيديكم أيها العرب.. أنتم الذين تشعلون هذا النور وأنتم الذين تخمدونه. أما نحن في هذه البقعة من الأرض فسنظل جسراً يتعاقب عليه الغزاة والفاتحون لا نخلص من واحد إلا لنستقبل آخر... |
جلجل: صدقت يا مسفر صدقت. لقد خلصتم من حكم اسكندر المقدوني وقواده من بعده لتستقبلوا حكم الرومان.. |
مسفر: من يدري يا جلجل من هم حكامنا بعد الرومان.. |
جلجل: ليت بلاد العرب تتوحد يا مسفر فتنقذكم من استعباد الرومان وتقطع هذا الجسر الذي يمر به الغزاة والفاتحون... |
مسفر: أنك على حق في تمنيك يا جلجل فليس لبلادنا هنا خلاص من الظلم والعبودية إلا على يد أخوانهم في بلاد العرب. |
جلجل: أترى يأتي هذا اليوم يا مسفر؟.. أنشهده؟.. |
مسفر: أما أن هذا اليوم آت يا جلجل فهذا لا شك فيه ولا تهمة وأما الشك والشبهة فهو هل تشهده.. ظني أن أجيالاً وأجيالاً تذهب وتمضي قبل أن يأتي اليوم الموعود.. |
(أجراس الدواب ورغاء الإبل نسمع بعدها صوت راحيل يقول): |
راحيل: طال بنا السرى يا عزرا ونحن لما نصل إلى فلسطين... |
عزرا: ما تزال أمامنا ثلاث مراحل حتى ندخل أرض فلسطين... |
راحل: ولكن الطريق موحشة وكئيبة يا عزرا... |
عزرا: لعل مرده إلى أنك متعبة منهوكة القوى بعد هذا السفر الطويل... |
راحيل: هذا صحيح وفي نفس الوقت أحس بوحشة وانقباض.. |
عزرا: إن للطريق الصحراوي يا عزيزي وحشة وانقباضاً.. هوني عليك وابتسمي فقد مضى الكثير ولم يبق إلا القليل لكي نصل إلى أورشليم... |
راحيل: ولكن الطريق قد طال وما أرانا بالغي أورشليم إلا ونحن في عداد الهالكين.. |
(يسمعان عواء كعواء الذئاب فتقول راحيل): |
ما هذا الذي أسمع يا عزرا؟... |
عزرا: إنه عواء الذئاب عندما تجوع... |
راحيل: أرجو أن لا نكون نحن طعامها الليلة... |
عزرا: ولكن معنا حراس القافلة سيكفوننا شرَّها.... |
(نسمع أصوات مدوية مرعبة وأصوات تقول): |
الأصوات: إنهم قطاع الطرق... ذئاب الليل.. ويلنا لقد أحاطوا بنا وسيفتكون بنا... |
راحيل: أتسمع يا عزرا.. أتسمع يا عزرا... أنني أكاد أموت من الخوف |
عزرا: وأنا مثلك يا راحيل... أنني ارتعد خوفاً وفزعاً... |
(تتلقى راحيل طعنة من أحد المهاجمين فتقول): |
راحيل: لقد طعنت يا عزرا... أنني أموت... |
عزرا: وأنا يا راحيل تلقيت طعنة قاتلة مثلك.. |
راحيل: أما قلت لك يا عزرا إن مواكب الضحايا إلى أورشليم طويلة وطويلة جداً.. |
|