الحلقة ـ 54 ـ |
سيلاوس: هلم بنا يا أبا داس إلى مجلس الأمير فقد حان موعد جلوسه. |
أبو داس: هيا بنا... |
(موسيقى تصاحب سيرهما نسمع بعدها أصواتاً تعلو وتنخفض وهمسات وغمغمات هي صدى رواد مجلس أمير مكة وهم ينتظرون قدومه.. يدخل أمير مكة عمرو وهو يقول): |
عمرو: السلام عليكم... |
أصوات: وعليك السلام أيها الأمير.. |
عمرو: كيف الأحوال؟.. |
شداد: إنها تسير على ما يرام.. |
عمرو: الحمد لله الحمد لله... |
أبو داس: حتى انسامنا في هذه الأمسية الحلوة رطبة عليلة... |
عمرو: إنها ريح الجنوب في مكة رطبة منعشة ولاسيما في أيام الصيف... |
سيلاوس: أما نحن في الشمال اقصد في بلاد الأنباط فالرياح الغربية هي المستحبة... |
شداد: وريح الشمال كيف يا سيلاوس.. |
سيلاوس: حبيبة إلينا في الصيف شديدة علينا في الشتاء لأنها باردة قارسة. |
شداد: والرياح الجنوبية... |
أبو داس: الرياح الجنوبية والشرقية تحمل إلينا الدفء في الشتاء والحر والغبار في أيام الصيف يا شداد... |
عمرو: سبحان من أبدع هذا الكون وأحسن تنظيمه وترتيبه فكل شيء فيه يجري بتقدير عزيز حكيم... |
الجميع: سبحانه... سبحانه... |
عمرو: هل من جديد فيما يجاورنا من بلدان؟.. |
شداد: لا جديد سوى نزوح فئة من عرب اليمن وحضرموت إلى (أرض كوش) في غرب بحر القلزم... |
أبو داس: هذا الامتزاج بين سكان شرق بحر القلزم وغربه شيء طبيعي لأن العلاقات التجارية المتينة تستدعي ذلك... |
سيلاوس: ثم أن تجمع أساطيل دول بحر القلزم قد أرسى قواعد هذا الامتزاج والتقارب. |
عمرو: يجب أن يصبح بحر القلزم بحيرة عربية حتى تستطيع أساطيل دوله التجارية السير فيه باطمئنان وحرية تامة... |
شداد: لا شك أن هذا النزوح وهذا الامتزاج هما من نتائج الحملة الرومانية. |
عمرو: رب ضارة نافعة... |
أبو داس: صدقت أيها الأمير غير أني أخشى... |
عمرو: تخشى ماذا يا أبا داس؟... |
أبو داس: أخشى أن يشغل الحميريون بنشوة النصر الذي أحرزوه على الرومان فيغفون ولا يصحون إلا على نذير الكارثة... |
سيلاوس: إن خطر الرومان ماثل أمامنا طالما هم يحتلون البلاد المتاخمة لحدودنا الشمالية... |
أبو داس: هذا من جهة ومن جهة أخرى فالرومان لن ينسوا الهزيمة التي أصابتهم في بلاد العرب ولا يستبعد أن يفكروا في جولة ثانية باستعداد أكثر وتخطيط أدق وأشمل... |
عمرو: إنني معكما في أن خطر الرومان ما يزال محدقاً بنا وإن هذه الإمبراطورية التي هي أكبر إمبراطورية في عصرنا الحاضر لن تسكت على هزيمتها في بلاد العرب... |
شداد: صدقت أيها الأمير. فالرومان لن يعترفوا بهزيمتهم وسوف يصطنعون العملاء وضعاف الإيمان لإثارة الفتن والقلاقل في بلاد العرب هذا إذا لم يقوموا بجولة ثانية... |
أبو داس: منطق سليم وتحليل رائع للموقف يا شداد فالرومان بعد هزيمتهم المنكرة في بلادنا أصبحوا يتربصون بنا الدوائر. |
عمرو: نبتهل إلى الله تعالى أن يصرف عنا دسائسهم وشرورهم ويرد مكائدهم إلى صدروهم... |
نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى سريعة نسمع بعدها صوت راحيل تقول: |
راحيل: عزرا! عزرا!... |
عزرا: ماذا تريدين يا راحيل؟.. |
راحيل: تعالى. تعالى... |
عزرا: ها أنذا.. هل من جديد؟.. |
راحيل: أصحيح أن (هيرودس) الذي ولاه الرومان ملكاً على اليهود قد باشر في إعادة بناء هيكل سليمان... |
عزرا: هذا ما تناقله تجار القوافل العائدة من البلاد الشامية.. |
راحيل: ولم لم تبشرني بهذا الخبر السار؟... |
عزرا: ذلك لأني لم أكن متأكداً من صحته... |
راحيل: إنه خبر سار سواء صحيح أم لم يصح... |
عزرا: أخشى أن تكون إعادة بناء الهيكل مكيدة يدبرها الرومان بتجميع أكبر عدد من اليهود المبعثرين في بلاد الشام وغيرها من المدن حتى يقوموا بمذبحة يهودية جديدة... |
راحيل: ولكن أم هيردوس يهودية وأبوه رومي ولا يعقل أنه يعين الرومان على تقتيل أخواله اليهود.. |
عزرا: لست أخشى على اليهود أيام حكم هيردوس وإنما أخشى ما أخشاه عليهم بعد مماته... |
راحيل: يجب أن يستغل اليهود وجود هيردوس لتقوية صفوفهم وتثبيت مركزهم وبناء قوة تستطيع الوقوف أمام الرومان كما فعل أسلافهم المطابقون حين استفادوا من الخلافات بين البطالسة والسلوقيين فاستقلوا بحكم أورشليم... |
عزرا: أنت تعيشين في الخيال يا راحيل... |
راحيل: ماذا تقول. ماذا تقول.. أأنا أعيش في الخيال وأنت تعيش في الحقيقة..!! |
عزرا: لا اقصد التهكم يا راحيل.. وإنما أريد أن أقول أنك.. أنك.. |
راحيل: إنني ماذا؟ ماذا؟.. |
عزرا: لا شيء.. لا شيء... |
راحيل: قل يا عزرا فأنا لست غضبانة... |
عزرا: أصحيح ما تقولين؟... |
راحيل: بلى ورب موسى.. ورب موسى... |
عزرا: هل يمكننا الرومان من تدعيم مركزنا وسلطاننا على أورشليم وهم يحصون أنفاس كل شخص فيها... |
راحيل: ولكن الوالي الذي ملكه الرومان على أورشليم يهودي فيجب أن يستغل اليهود فرصة وجوده لتدعيم مركزهم وبذر بذور التفرقة بين المناوئين لهذه المعركة أو بالأحرى القضاء عليهم... |
عزرا: كلام جميل, وحلم جميل, تعيشينه يا راحيل أين نحن من أورشليم.. نحن في يثرب وبيننا وبين أورشليم مراحل تتقطع فيها أكباد الإبل. على كل حال.. |
راحيل: على كل حال ماذا يا عزرا؟... |
عزرا: لا بد وإن زعماء اليهود هناك قد خامرهم نفس الشعور وساورهم نفس تفكيرك يا راحيل... |
راحيل: آه متى نعود إليك يا أورشليم... |
عزرا: متى قضينا على الرومان ثم على سكان فلسطين الأصليين... |
راحيل: إذن فالعودة مستحيلة يا عزرا... |
عزرا: إذا قلنا الحق وهو ما يغص به حلق كل يهودي فنحن والرومان شيء واحد... |
راحيل: ماذا تعني يا عزرا بذلك؟... |
عزرا: أقول نحن والرومان شيء واحد لأننا جميعنا غزاة مغتصبون كأي غزاة وفاتحين آخرين.. |
(أجراس الدواب ورغاء الإبل وهي تبرك في مكانها نسمع بعده صوت شداد يقول): |
شداد: انظر يا أبا داس.. انظر.. لعلها أول مرة ترى فيها هذا الزحام من القوافل التجارية بمكة بعد فشل الحملة الرومانية... |
سيلاوس: حينما يمد الأمن رواقه تطمئن رؤوس الأموال فتخرج من مخابئها لتسير هذه القوافل التجارية التي نراها الآن... |
شداد: أجل يا سيلاوس أجل فرأس المال جبان لا يخرج من وكره إلا حين ترفرف أعلام الأمن والاستقرار... |
أبو داس: إن القوافل محملة بعطور الهند وعاجها وتوابلها... |
سيلاوس: وحرير الصين وتحفه... |
شداد: والمر واللبان والصموغ والبخور من حضرموت واليمن... |
أبو داس: لقد كنتم محرومين من كل هذه النعم أيام الحملة الرومانية على بلاد العرب. |
شداد: بلى يا أبا داس.. ولكن بالرغم من أننا لسنا أهل زرع وضرع فقد كانت الأرزاق تصل إلينا من يثرب وتيماء ومن نجد والاحساء... |
سيلاوس: شيء مدهش وعجيب... |
شداد: لا تعجب يا سيلاوس فهذه دعوة النبي إبراهيم عليه السلام المستجابة... |
سيلاوس: ما هي هذه الدعوة المستجابة.. |
شداد: بعد أن انتهى النبي إبراهيم عليه السلام من بناء البيت رفع يديه ضارعاً إلى الله تعالى وهو يقول: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (إبراهيم: 37).. |
(نسمع هدير الأمواج وأبواق السفن وأصوات البحارة نسمع بعدها صوت (يشجب) يقول): |
يشجب: الموج يصطخب والريح تزأر وكأنها نذر عاصفة يا (كانتبأي)... |
كانتبأي: لا تخف يا (يشجب) فنحن أدرى بأنواء بحر القلزم وعواصفه.. أننا نمخر البحر من الشرق إلى الغرب ونشق ظلل الموج ونعاكس الريح فلا بد مما ترى وتسمع.. |
يشجب: أيطول بنا السرى على هذه الحال؟... |
كانتبأي: لا.. فكلما اقتربنا من شواطئ أرض كوش تخف حدة الموج وقوة الريح.. |
يشجب: وأين نحن الآن؟... |
كانتبأي: نحن في عرض بحر القلزم فكاد تكون في وسطه وهذا سبب ما نحن فيه من شدة وضنك... |
ويشجب: عسى ألا نجد في أرض كوش ضنكاً وشدة... |
وكانتبأي: أنكم أيها اليمنيون تسيرون إلى بلد كلها خيرات وثمرات لم يستغلها أحد قبلكم... |
يشجب: وكيف أهلها يا كانتبأي؟... |
كانتبأي: أهلها عددهم يسير وخيرهم وفير يعيشون على الفطرة لم تتلوث قلوبهم بدنس ولا خبث ولا رجس... |
يشجب: إذن فهم على الفطرة يا كانتبأي؟.. |
كانتبأي: أجل.. أجل.. أريد أن أسألك يا يشجب... |
يشجب: سل ولا تخف.. |
كانتبأي: لماذا تركتم بلادكم وهاجرتم إلى أرض كوش. |
يشجب: إنه زحام الحياة.. لقد ضاقت بنا بلادنا وأصبح الصراع شديداً في ميدان الرزق فأردنا أن نجرب حظنا في بلاد أخرى... |
كانتبأي: لقد أحسنتم الاختيار يا هذا وستقدمون على بلاد لا تقل جمالاً عن بلادكم بل تكاد تكون صورة مصغرة عنها ثم.. |
يشجب: ثم ماذا؟.. |
كانتبأي: لقد سبقتكم إليها سمعتكم الطيبة ومواقفكم البطولية الرائعة ضد الحملة الرومانية... |
يشجب: بشرت بالخير يا هذا... بشرت بالخير... |
نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت راحيل تقول: |
راحيل: عزرا!.. عزرا!.. |
عزرا: ما بك يا راحيل؟.. |
راحيل: أريد الرحيل يا عزرا... |
عزرا: الرحيل.. إلى أين يا راحيل؟.. |
راحيل: إلى أورشليم.. إلى أورشليم.. |
عزرا: وتترك هذا النعيم إلى ذلك الجحيم. |
راحيل: من قال لك أن في أورشليم الجحيم.. إن فيها النعيم المقيم.. |
عزرا: أتجدين يا راحيل أم أراك تهزلين؟.. |
راحيل: هل في كلامي هزل.. إنني جادة كل الجد... |
عزرا: وتجارتنا وديوننا لمن نخلفها؟ من سيعتني بها؟.. |
راحيل: كلف أحد أقاربك بها... |
عزرا: ولكن تجارتنا واسعة وديوننا على الناس كثيرة.. أنتركها لأقاربنا يتمتعون بما جنيناه بعرقنا ودموعنا طوال هذه السنين.. أترين أنك على صواب في قراراك هذا يا رحيل... |
راحيل: أجل يا عزرا أجل وسأرحل وحدي... |
عزرا: وتتركيني وحدي يا راحيل.. أهذه حصيلة عشرين سنة من زواجنا؟ |
راحيل: لقد أزمعت وأجمعت فحنيني إلى أورشليم وإلى هيكل سليمان لا يعدله حنين... |
|