الحلقة ـ 12 ـ |
(أصوات الباعة والمشائين نسمع بعدها صوت نايل يقول): |
نايل: أسواق مكة مليئة بالطيوب والمر واللبان.. لقد جلبته القوافل القادمة من قتبان وحضرموت والهند.. |
فهيرة: انظر يا نايل إلى هذه الأقمشة الأرجوانية الناعمة وهذه الملابس ذات الأردان المطرزة والموشاة بالذهب.. |
نايل: ولكني أرى بعض هذه الملابس خيط بشكل بسيط وعادي.. انظري إلى الأحرمة والأعبئة.. |
فهيرة: والدهون العطرية التي تغص بها حوانيت مكة.. |
نايل: هيا نعرج يا فهيرة على بعض الحوانيت هناك فقد رأيت فيها تماثيل من النحاس والرخام.. إنها من مصنوعات ((صرواح)) عاصمة السبأيين.. ألا تريدين أن تمري بسوق الخيرات والثمرات يا فهيرة.. |
فهيرة: لماذا سميته سوق الخيرات والثمرات؟ |
نايل: ذلك لأنه تجي إليه من كل الثمرات المعروفة في أيامنا.. إنها دعوة النبي إبراهيم عليه السلام التي استجابها رب هذا البيت.. |
صوت صادر من مكان بعيد: بسم الله الرحمن الرحيم، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.. صدق الله العظيم (إبراهيم: 37).. |
فهيرة: ما كنت أحسب مكة بهذا الازدهار يا نايل.. |
نايل: ليتك رأيت هذا الوادي أيام نزول هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام به.. لا عشب ولا شجر ولا طير ولا ماء.. لقد كان أباؤنا يتهيبون المرور به بقوافلهم التجارية من الجنوب إلى الشمال وبالعكس.. |
فهيرة: أما اليوم؟.. |
نايل: أما اليوم فإنهم يتسابقون للمرور به لزيارة البيت العتيق والسلام على أولاد إسماعيل عليه السلام.. |
فهيرة: عسى أن أهل هذا البلد الطيب يقدرون ما هم فيه من أمن واستقرار ورفعة وازدهار بينما يتخبط الناس من حولهم في حروب وفتن وبؤس وفاقة وفوضى ورعب.. |
نايل: هذا ما يجب أن يحافظ عليه سكان هذا البلد ويعضوا عليه بالنواجذ.. ولكن.. |
فهيرة: ولكن ماذا يا نايل؟.. |
نايل: أرى سحباً قاتمة من الخلف والتفرقة بدأت تتلبد في سمائه وهمسات تتردد في جنباته عن صراع واقع لا محالة بين زعيمي هذا البلد: مضاض بن عمرو والسميدع.. |
فهيرة: إنها أنباء مزعجة يا نايل.. عجل بنا بالخروج من هذا البلد قبل أن تطحننا رحى المتعاركين. |
(هرج ومرج وضجيج وأصوات تعلو وتنخفض نسمع بعدها صوت دوس يقول): |
دوس: تجمعات وتكتلات وتقولات واتهامات موجهة من كل فريق للآخر وكلها نذر بشر مستطير يا خثعم.. |
خثعم: أجل يا دوس أجل ولقد باءت بالفشل جميع المساعي التي بذلت لتخفيف حدة التوتر بين الجهتين المتنازعتين وأصبحت الحرب بين قوسين أو أدنى.. |
دوس: وأولاد إسماعيل ما هو موقفهم من هذا الصراع المرتقب؟ |
خثعم: لقد بذلوا جهوداً مشكورة لإصلاح ذات البين فتمكنوا من التأثير على خالهم مضاض بن عمرو ولكن السميدع قاتل الله السميدع رادع وخاتل فلم يرفض ولم يقبل.. |
دوس: إذن فهو يبيت الغدر لمضاض وقوم مضاض.. ويحه ألا يستجيب إلى دعوة أولاد إسماعيل الخيرة لإصلاح ذات البين.. |
خثعم: إنه صلب عنيد خداع ماكر لقد نسي هذا الناكر أن هذا البلد هو عطية رب هذا البيت لأولاد نبيه إبراهيم إسماعيل وذريته من بعده.. |
دوس: ألا يعلم هذا الغادر أن إرادة المعصية في هذا البلد معصية بخلاف غيرها من البقاع وأن الله يعاقب البادي بالشرِّ فيه إذا كان عازماً عليه وإن لم يوقعه.. |
خثعم: أجل يا دوس أجل وسيكون عقابه أليماً.. |
دوس: أترى يا خثعم أن أبواب الصلح جميعها قد أغلقت وأن الحرب بين الطرفين واقعة لا محالة.. |
خثعم: هذا ما قلته لك من قبل يا دوس بعد أن فشلت جميع مساعي الوسطاء.. |
دوس: ولكن..؟ |
خثعم: ولكن ماذا يا دوس؟.. |
دوس: لا بد وأن للسميدع مطالب عالجها الوسطاء.. |
خثعم: بلى.. بلى.. |
دوس: المشهور عن مضاض بن عمرو أنه حليم واسع الصدر كريم النفس.. |
خثعم: أجل يا دوس أجل.. |
دوس: فلماذا لم يتسامح في قبول هذه المطالب؟ |
خثعم: يلوح لي أنك تجهل مجريات الأمور بين مضاض والسميدع.. |
دوس: لعلّك على حق.. |
خثعم: لقد قبل مضاض بن عمرو الجرهمي جميع مطالب السميدع حتى السخيف منها إلا مطلباً واحداً.. |
دوس: ما هو يا خثعم.. |
خثعم: أن يكون لمكة زعيم واحد هو السميدع.. |
دوس: يا له من مطلب سخيف.. لو كنت مكان مضاض بن عمرو ما رضيت به ثم كيف تناسى هذا المأفون أن زعامة مكة وقف على إسماعيل وأولاده من بعده.. فهم ولاة هذا البيت ومن أحق منهم بالزعامة.. |
(أجراس الدواب ورعاة الإبل وأصوات المشائين نسمع بعدها صوت (رزاح) يقول): |
رزاح: هانحن نعود إلى مكة بعد طول غياب سالمين غانمين ولله الحمد.. هلم بنا نطف بالبيت ثم نسلم على أولاد إسماعيل عليه السلام.. |
لقمان: هذا ما كان يخطر ببالي ونحن ندخل هذا البلد الطيب.. وليكن بعد أن نفرغ حمولتنا ونرى أهلنا، ونصلح من شأننا.. إنه لقاء برب هذا البيت وبأحفاد من أمره الله ببناء هذا البيت فيجب أن نتجمل له بأحسن ثيابنا.. |
رزاح: ألا نزور مضاض بن عمرو الجرهمي بعد ذلك.. |
لقمان: إنه يستحق الزيارة.. إنه أهل للتكريم والتبجيل.. |
رزاح: والسميدع سيد بني قطورا!! |
لقمان: لا يا رزاح لا أريد أن أرى وجهه الذي يتنزى بالحقد والمكر واللؤم.. |
رزاح: غريب هذا الرجل ما ذكر اسمه إلا انهالت عليه اللعنات والشتائم.. |
لقمان: إنه مكروه يا رزاح حتى من أهله وعشيرته.. ما سمعت أحداً يحمده حتى أولاده يكرهونه ويتمنون له الموت.. |
رزاح: لم لا يتخلصون منه فيريحونه ويرتاحون هم.. |
لقمان: العادات قاهرات يا رزاح.. ونحن العرب نرزح تحت عادات وتقاليد وعنعنات توارثها الأبناء عن الآباء.. إن السميدع سيد القبيلة وهو الذي قادهم من اليمن إلى هذا البلد وأقطعهم هذه الدور والأراضي في أسفل مكة.. |
رزاح: ولكنه اليوم يقودهم إلى الدمار والخراب يا لقمان.. |
لقمان: دمار خراب، فناء، موت.. شعار قومه.. انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً هذا الشعار توارثوه كما توارثناه نحن ولذلك فهم سينصرونه حتى آخر قطرة من دمائهم.. |
رزاح: إنها عادات قاتلات، وعنعنات باليات.. وشعارات زائفات ما أنزل بها من سلطان.. ستظل تفتك بنا حتى نقوى على الفتك بها.. |
(أجراس الدواب نسمع بعدها صوت فهيرة تقول): |
فهيرة: أسرع يا نايل أسرع فقد هيأت متاعنا وزادنا للسفر.. أخرج بنا قبل أن يقع المحذور.. |
نايل: وقع المحذور يا فهيرة؟ |
فهيرة: (صارخة) - كيف.. بالله عليك كيف..؟ |
نايل: أقفلت أبواب مكة ومخارجها ووضع كل من السميدع ومضاض أنصاره وأعوانه في الجهة التي هو فيها.. |
فهيرة: ألا سبيل إلى النجاة بأي ثمن؟.. |
نايل: لا بد من المخاطرة يا فهيرة.. فهل أنت مستعدة؟.. |
فهيرة: بقاؤنا فيه خطر وخروجنا فيه خطر ومحاولة النجاة حلوة بالرغم من مرها ومن أخطارها.. ولكن.. |
نايل: ولكن ماذا يا فهيرة.. |
فهيرة: نحن لسنا من قوم مضاض أو السميدع.. نحن سبأيون وليس للطرفين المتنازعين علينا من سبيل.. |
نايل:لقد حاولت الخروج من جهات منازل السميدع فمنعت وطردت شر طردة.. |
فهيرة: حاول أن تمر من جهات منازل مضاض فهم كما نسمع أحسن معاملة وأكرم مقابلة.. |
(دق الطبول والأبواق وقعقعة السلاح وصهيل الخيل وضجيج وهرج ومرج نسمع بعدها صوت نايل يقول): |
نايل: هذه طبول السميدع تقرع.. إنها نذر القتال.. والسميدع يأمل بخيله وفرسانها أن يكسب المعركة ويتسيد مكة.. |
فهيرة: وأولاد إسماعيل عليه السلام ما هو موقفهم من المتنازعين؟ |
نايل: الحياد التام لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. |
فهيرة: إن وقوع الصراع الدموي بين الفريقين نذير بشر مستطير يتهدد أمن هذا البلد واستقراره ورخاءه وازدهاره.. |
نايل: وإنه لظاهرة بابتعاد الطرفين المتنازعين عن تعاليم ملة إبراهيم الحنيفية.. فلو كانت قلوبهم عامرة بالإيمان ما امتشقوا الحسام وبين ظهرانيهم أحفاد النبي إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام.. |
فهيرة: ولكن مضاض بن عمرو الجرهمي.. كما تتناقل الشائعات - في موقف المدافع عن نفسه وعن أولاد ابنته ضد المعتدي الأثيم السميدع.. |
نايل: على كل حال كان بالإمكان تجنب هذا الصدام المحتوم لو كان الوازع الديني في كل من المتنازعين قوياً.. |
فهيرة: هيا بنا يا نايل.. هيا.. فطريق نجاتنا محفوف بالمخاطر.. أما البيت فله رب يحميه.. |
(تزداد دقات الطبول والأبواق وتختلط بموسيقى حربية سريعة نسمع بعدها صوت (رزاح) يقول): |
رزاح: وقعت الواقعة يا لقمان وبدأ الصراع الذي لا يعلم إلا الله متى ينتهي.. |
لقمان: هذا الصراع كنا ننتظره وقد وقع لأنه لا شك سينتهي بانتصار الحق على الباطل واندحار الباغي الآثيم.. |
رزاح: ولكن ما هذه القعقعة التي أسمعها يا لقمان.. إنها تصم الآذان.. |
لقمان: إنها أصوات الرماح والدرق والسيوف والجعاب تقعقع في ظهور رجال مضاض بن عمرو وهم يصعدون الجبل المطل على أرض المعركة.. |
رزاح: أخشى من خيل السميدع على رجال مضاض. إن فرسانها سيكرون بها على المشاة فيمزقونهم شر ممزق.. |
لقمان: لا بد وأن مضاض بن عمرو قد احتاط للخيل.. ثم إن ميدان المعركة ليس فيه مجال لطراد الخيل وكرها وفرها.. |
(عقعقة السلاح وكر الخيل وفرها وصليل السيوف وسقوط القتلى وأنات الجرحى وصوت رزاح يقول): |
رزاح: المعركة حامية الوطيس يا لقمان.. والقتلى من الطرفين يتساقطون كأوراق الخريف.. انظر يا لقمان انظر إن مضاض بن عمرو يضحي برجاله حتى يحشر خيل السميدع بالوادي فلا تستطيع التحرك.. |
لقمان: أما قلت لك إن مضاض بن عمرو لا بد وأنه حسب لخيل السميدع ألف حساب.. |
رزاح: تمكن قوم مضاض من حشر الفرسان بخيلهم في مضيق (فاضح) بأسفل أبي قبيس.. إن الفرسان يترجلون عن خيلهم.. |
لقمان: نجحت خطة مضاض يا رزاح.. إني أسمع أصوات المعركة ولكني لا أبصر المتعاركين لضعف نظري كما تعلم.. |
رزاح: سأكفيك أنا الوصف يا لقمان.. القتل يستمر في قطورا إن إمدادات جديدة تصل إلى مضاض.. |
لقمان: ستميل كفة المعركة بهذه الإمدادات في صالح مضاض.. |
رزاح: صه يا لقمان.. السميدع ومضاض يتبارزان.. يا إلهي ما أبرع السميدع وما أثبت مضاضاً على سرج فرسه. ضربة لكل منهما للآخر.. ضربات يزحم بعضها البعض.. إنهما فارسان لا يجاريان.. |
لقمان: من الذي يهاجم أكثر.. السميدع أم مضاض؟ |
رزاح: السميدع.. |
لقمان: بشره بالقتل.. سينتهز مضاض الفرصة ليسدد له الضربة القاتلة.. |
رزاح: يا إلهي.. حمداً لك.. صرع السميدع وانهزمت قطورا.. |
لقمان: أما قلت لك من قبل وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.. |
|