الحلقة ـ 11 ـ |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت رزاح يقول): |
رزاح: يا إلهي! لقد كبرت (يبوس) واتسعت، وعمرت وازدهرت.. |
لقمان: إنها لم تعد تسمى (يبوس) يا رزاح.. |
رزاح: إذن ما اسمها الآن..؟ |
لقمان: ((أورسالم)) أي مدينة السلام تيمناً باسم ملك اليبوسيين (سالم) الذي جدد بناءها وحشد له أمهر الصناع والبنائين والفنانين.. |
رزاح: إنها من أروع المدن التي رأتها عيني حتى اليوم.. |
لقمان: انظر إلى ذلك المعبد الذي يزين جبل موريا.. لقد أشاده الملك سالم بعدما اعتنق هو وقومه ملة إبراهيم الحنيفية.. |
رزاح: إن هذا المعبد كما يبدو من بعد آية في الجمال.. هلم بنا نصلي فيه.. |
لقمان: سنفعل يا رزاح بإذن الله.. هيا بنا ونحن في طريقنا إليه نمتع أنظارنا بأهم معالم هذه المدينة وميادينها ومنتزهاتها.. |
رزاح: هذه المدينة لا يعيبها شيء سوى الماء.. إذ ليس بها ينابيع أبداً والناس يعيشون على المطر.. |
لقمان: ولكن الوادي الذي يحيط بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم به بعض الينابيع التي تنقل على ظهر الدواب للشرب.. |
رزاح: لا أدري لماذا اختارها الملك سالم عاصمة لملكه وهي قليلة الماء والشجر.. |
لقمان: قبل أن أجيبك على سؤالك أريد أن أسألك؟.. |
رزاح: سل فلعلي أستطيع إجابتك.. |
لقمان: قل لم اختار النبي إبراهيم قمة جبل موريا حيث يقع هذا المسجد مكاناً لذبح ولده اسحق؟ |
رزاح: لأول مرة أسمع أن النبي إبراهيم كان يريد ذبح ولده اسحق على قمة جبل موريا.. كل ما أعرفه هو قصة ذبحه لولده إسماعيل الذي فداه الله بذبح عظيم.. |
لقمان: هذه رؤيا رآها النبي إبراهيم أو قل إنها وحي من الله فأخذ ولده إلى قمة جبل موريا وأراد ذبحه صدوعاً بأمر ربه.. |
رزاح: ولكن هل ذبح ولده اسحق؟.. |
لقمان: لا.. لأن الله فداه حين بشر النبي إبراهيم بأن ولده اسحق سيكون نبياً من الأنبياء.. |
رزاح: الآن أدركت سر اختيار الملك سالم لهذا المكان عاصمة لملكه.. |
لقمان: وأنه ليخيل إلي يا رزاح أن هذه المدينة سيكون لها شأن في الأيام القادمة فما وضع نبي الله إبراهيم عليه السلام قدمه في مكان إلا بارك الله ذلك المكان.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت (تمنه) تقول): |
تمنه: اللَّهم اجعل حجنا مبروراً وسعينا مشكوراً.. اللّهم تقبل منا أنك أنت السميع العليم.. |
دوس: يا له من حج رائع يا تمنه.. أعداد وفيرة من الخلائق من كل فج.. من كل صوب.. من كل واد.. جمعهم الله من كل مكان عند بيته المعظّم ليذكروا الله على ما أنعم عليهم وليشهدوا منافع لهم.. |
تمنه: ما أكثر ما رأيت من أناس.. من رجال ونساء.. ما كان يخطر لي على بال أن أراهم لولا هذا الحج.. |
دوس: وما أكثر ما ذكرنا الله عند المشعر الحرام وعند كل منسك من مناسك الحج أن هذا الاندماج الروحي في ذكر الله ولا ذكر لأحد سواه هو من منافع الحج العظيمة.. |
تمنه: بلى يا دوس بلى هنالك منافع روحية ومنافع دنيوية.. |
دوس: صدقت يا تمنه صدقت.. لقد عقدت عدة صفقات تجارية مع تجار من اليمن وآخرين من قبائل الشمال.. |
تمنه: ألم تتعرف بأناس جدد في هذا الموسم؟ |
دوس: كيف لا يا تمنه.. كيف لا.. لقد اجتمعت بأقارب لنا لم نرهم منذ سنوات وكادت صلتنا تنقطع بهم لو لم يأت الله بهم في هذا الحج.. |
وأنت يا تمنه هل تعرفت بأحد؟ أو رأيت أحداً؟.. |
تمنه: أجل يا دوس.. أجل.. تعرفت (بسماح).. |
دوس: ومن هي (سماح)؟.. |
تمنه: لعلّك تذكر خراش الثملاني؟.. |
دوس: بلى اذكره.. هل كان في هذا الحج؟.. |
تمنه: أجل و (سماح) هي زوجه؟ |
دوس: خراش تزوج؟ خبر غريب.. إنه تجاوز سن الزواج.. |
تمنه: وما هو وجه الغرابة فيه يا دوس؟.. |
دوس: أول ما سمعت عن خراش هذا هو أنه كان مشهوراً بعدائه للنساء وأنه كان محجماً عن الزواج حتى أن أبويه اعتلا بسبب أحجامه وماتا في علتهما هذه.. |
تمنه: لقد وضح سبب استغرابك ولكن لو رأيت (سماح) وما وهبها الله من جمال وكمال وخلق وخلق بل لو عرفت قصة زواجه بها لقلت إنه صبر وصبر وأخيراً ظفر بعروس آية في الجمال.. |
دوس: ولكن ما هي قصة زواج خراش من (سماح) الفينيقية؟.. |
تمنه: قصة زواجهما طويلة وقد هوم الليل سأحدثك عنها فيما بعد.. |
(أصوات تعلو وتنخفض نسمع بعدها صوت السميدع يقول): |
السميدع: لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبي.. لم أعد أطيق صلف مضاض بن عمرو ولا عنجهيته إنه يريد استعبادنا وأخذ الأمر من يدنا.. لا ورب هذا البيت لن يكون له وفي عرق ينبض. |
جندب: من حق مضاض بن عمرو يا سميدع أن يتعالى ويتكبر.. أليس هو خال نابت بن إسماعيل وإخوانه أحفاد النبي إبراهيم وولاة هذا البيت.. |
السميدع: إن نابت بن إسماعيل لا يرضي عما يفعله خاله من استغلال خؤولته للسيطرة على مكة.. |
جندب: كيف لا تسول نفس مضاض بن عمرو له السيطرة على مكة والتفرد بزعامتها وكبار الوافدين عليها حين يأتون مكة زائرين البيت ومسلمين على نابت بن إسماعيل لا يجدون أمامهم مرحبا ومستقبلاً إلا مضاض بن عمرو.. |
السميدع: إنه افتئات من مضاض بن عمرو يا جندب.. |
جندب: كيف يا سميدع ومضاض بن عمرو هو الذي يدخل هؤلاء القادمين من شيوخ القبائل ووفودها على نابت بن إسماعيل ثم يذهب معهم لزيارة البيت العتيق وأنت.. |
السميدع: وأنا ماذا يا جندب؟… |
جندب: وأنت قابع في أحياء تقيم في النهار سباقاً للخيل وفي الليل تلهو وتعربد مع نفر من حثالة القوم اصطفيتهم للهوك ومجونك.. |
السميدع: اسكت يا جندب لأقطعن لسانك إن أعدت مثل هذا الكلام على مسامعي.. |
جندب: ما على يا سميدع إن قطعت لساني أو أطحت رأسي.. إن إخلاصي لك هو الذي يدفعني إلى نصحك وتبصيرك بعواقب سيرك هذا.. |
السميدع: (محتداً).. لا أريد نصحك ولا نصح غيرك.. لم أعد طفلاً حتى أنصاع لأمثالكم وأترك حقي يأكله مضاض بن عمرو وأنا عملاً بنصائحك ونصائح أمثالك أقف موقف المتفرج.. |
جندب: لم أطلب منك بل لم أنصحك لتقف موقف المتفرج.. لقد طلبت إليك أن تتخلق بأخلاق مضاض بن عمرو.. وأن تكون وثيق الصلة بنابت بن إسماعيل وإخوانه.. |
السميدع: هل قصرت في إثبات إخلاصي وولائي لنابت بن إسماعيل كما كنت لأبيه من قبل.. |
جندب: ولكنك قلما شوهدت في داره إلا في المناسبات الدينية.. إن دار نابت تعج بالوافدين من كل صوب وهؤلاء الوافدون لا يجدون وجهاً أمامهم يرحب بهم ويأخذ بيدهم ويكرمهم إلا وجه مضاض بن عمرو.. |
السميدع: ولكن نابت بن إسماعيل لم يكلفني بهذا الأمر.. |
جندب: إن نابت بن إسماعيل لم يكلف خاله مضاض بن عمرو بذلك.. ولكن مضاض بن عمرو وجد في هذا العمل تلقائياً تشريفاً له وتكريماً.. أتريد نابت بن إسماعيل أن يدعوك لاستقبال الوافدين إليه وتكريمهم والاحتفاء بهم يا لضيق تفكيرك يا سميدع.. |
السميدع: كن مهذباً في قولك والله لولا أنت صهري ومعلم أولادي لأخرست فمك إلى الأبد.. |
جندب: إن ما بيننا من وشائج وصلات هي التي تحملني على الوقوف منك هذا الموقف.. |
السميدع: لن أسمح لك بعد اليوم بالتدخل في شؤوني وسوف ترى كيف أضع حداً لمحاولات مضاض ومن هم على شاكلته.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت (دوس) يقول): |
دوس: قصة زواج خراش من سماح مثيرة وغريبة واتفاق عجيب.. |
تمنه: بل قل إن الله أراد لهذه المرأة النجاة فأرسل إليها خراشاً لينقذها ويتزوجها ويضع حداً لأقاويل الناس واتهاماتهم له.. |
دوس: صدقت يا تمنه صدقت أليس زواجي منك أيضاً اتفاق غريب.. أنا سبأي من بلدة (سرواح) وأنت (قطورية) من أحياء مكة.. جمعنا الحج فكان خير لقاء.. |
تمنه: بلى يا دوس بلى.. كل شيء قسمة ونصيب.. |
دوس: قولي ما هي آخر الأخبار عن سميدع.. أعاد إلى سابق جفوته لمضاض بن عمرو.. |
تمنه: السميدع: كل يوم له حال.. إنه يتلون كالحرباء.. لا تدري متى يتلون وجهه بالغضب ومتى يتلون بالرضا والسعادة.. |
دوس: إن الأعمال الاستفزازية التي يقوم بها ضد مضاض بن عمرو ستحمل هذا على الكيل له بنفس الكيل إن لم يكن أشد.. وأنت تعلمين أن مضاض بن عمرو يتمتع بمركز ضخم داخل مكة وخارجها.. |
تمنه: أعلم ذلك كما أعلم أن أهل السميدع وأولاده غير راضين عن أعماله ولكنهم مضطرون للانصياع لأوامره. |
دوس: إن الأزمة بينه وبين مضاض بن عمرو تشتد يومياً ولولا خشية مضاض من نابت بن إسماعيل وإخوانه لأعلنها حرباً شعواء على السميدع.. |
تمنه: إن الصراع بين السميدع ومضاض بن عمرو محتم يا دوس.. وكل منهما يدرك ذلك ويستعد له ونحن سنكون الوقود لهذا الصراع.. |
دوس: أما يخشى السميدع عواقب بغيه وطغيانه ألم يسمع بما جرى لطسم وجديس والعمالقة حين بغوا وطغوا بمكة.. أين هم الآن.. |
تمنه: إنها مكة يا دوس تمك الجبابرة.. لقد بعث أبناء السميدع بمن ينصحون أباهم ويبصرونه بعاقبة بغيه وطغيانه ولكنه أبى واستكبر وطردهم شر طرده.. |
دوس: لا أدري علام يعتمد السميدع وقومه أقل عدداً وشأناً من قوم مضاض بن عمرو.. |
تمنه: ولكن السميدع يعتمد على بني عمه الذي نزحوا أخيراً من اليمن وسكنوا معه كما يعتمد على الفاتكين وقطاع الطرق الذين يستغلهم للفتك بأعدائه.. |
دوس: أكاد أجن يا تمنة حين أتصور أن هذا الاستقرار الذي تنعم به مكة يوشك أن ينقلب إلى جحيم من الفرقة والاختلاف وأن هذا الازدهار التجاري يكاد يصاب بهزة تقضي عليه.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت (رزاح) يقول): |
رزاح: لقد أعجبت بكل ما رأيت في ((أورسالم)) وخاصة مناخها الجبلي الذي تنسمت فيه البرء والعافية إنه يذكرني بأجواء جبال الحجاز واليمن.. |
لقمان: لا شك أن مناخ هذا البلد جيد وأن التشابه بينه وبين أجواء بلادنا الجبلية كبير جداً.. ولكن.. |
رزاح: ولكن ماذا يا لقمان؟.. |
لقمان: ولكن وجود هذه المدينة الجميلة على حدود الصحراء الكئيبة وموقعها على طريق القوافل التجارية يجعلها هدفاً للغزاة الفاتحين الطامعين.. |
رزاح: موقع المدينة حصين يا لقمان بحيث يتعذر الاستيلاء عليها بسهولة.. |
لقمان: إن أدوات القتال التي جاء بها الحيثيون من الشمال والفراعنة من الجنوب لا تستعصي عليها أقوى الحصون.. ولا سيما إذا ضعف الوازع الديني في أهلها.. |
رزاح: ولكن مدنيات الأمم المجاورة لهذه المدينة طغت على أهلها.. وهذه المدنيات فيها الغث والسمين وفيها السم والدسم.. والغث والسم مغلفان بأشياء براقة خلابة تجتذب ضعاف الإيمان لتقضي على ما تبقى عندهم من إيمان.. |
رزاح: لقد وقفت هذه المدينة العظيمة عشرات السنين أمام موجات الفاتحين التي تكسرت على صخور صمودها العجيب.. |
لقمان: وستظل على صمودها إذا لم ينخرها سوس المدنيات الذي تلمست آثاره ونحن نجوب أزقة المدينة وحواريها وميادينها ومنتزهاتها.. |
رزاح: ألا يعتورك نفس الخوف على من في مكة يا لقمان؟.. |
لقمان: إن ذلك البيت الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل سيقف سداً منيعاً أمام تيارات المدنيات الزاحفة علينا من الشمال والجنوب كما أن أولاد إسماعيل عليه السلام سيقودوننا دائماً إلى شاطىء السلامة والأمان.. |
رزاح: لست أخشى على مكة من ضعف الوازع الديني فالبيت العتيق وولاته من أولاد إسماعيل مشاعل هداية تنير قلوب الضالين والزائغين.. إنما.. |
لقمان: إنما ماذا يا رزاح.. |
رزاح: إنما أخشى من التفرقة والانقسام التي يحمل لواءها (السميدع) سيد قطورا أن تجلب علينا الدمار والخراب.. |
لقمان: لا تخف يا رزاح وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.. |
|