الحلقة ـ 9 ـ |
(تسير القافلة في طريقها إلى الجنوب.. نسمع بعدها صوت دوس يقول): |
دوس: رأيت هذا الصباح تحركات غريبة بين مضاض بن عمرو الجرهمي فسعاة يركضون وآخرون يهرعون إلى أمتعة تنقل من مكان إلى آخر. |
تمنه: هل سألت عنها وعرفت وجباتها ومسبباتها..؟ |
دوس: وقفت أول الأمر مشدوهاً فاغراً فمي ثم أبت إلى صوابي ورشدي وتمالكت زمام تفكيري فقلت لنفسي قبل أن تسأل دوس جماعة مضاض بن عمرو انطلق إلى جماعة السميدع. |
تمنه: خيراً فأهداك تفكيرك إليه.. |
دوس: فانطلقت إلى أجياد وأنا استعرض في مخيلتي أشياء كثيرة ونتائج خطيرة وأحسب لذلك ألف حساب مشدوهاً فاغراً فمي. |
تمنه: ولم تصرف ذهنك إلى الجوانب المظلمة في الأمر لا الجوانب المشرقة منه. |
دوس: ذلك لأني أعلم أن بين السميدع ومضاض ما صنع الحداد كما يقول المثل: |
تمنه: ولكن ظواهر الأمور تدل على عكس ما ظننت يا دوس فسعاة السوء بين الفريقين قد انقطعت آثار أقدامهم وكل شيء هادىء في الجبهتين. |
دوس: إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة (يا تمنه) كما يقولون: |
تمنه: أي عاصفة يا دوس والطرفان لا يتحملان سمائم أودية مكة حين تهب في كبد الصيف فكيف يتحملان عواصف الحروب وويلاتها. المهم يا دوس هل اكتشفت حقيقة هذه التحركات. |
دوس: أجل يا تمنه أجل.. |
تمنه: ماذا اكتشفت..؟ |
دوس: اكتشفت أني كنت مخطئاً حين تصورت أن هذه التحركات المريبة إنما هي استعدادات للحرب.. |
تمنه: الحمد لله.. إذن ما هي ماهية هذه التحركات.. |
دوس: اكتشفت أن هذه التحركات في مضارب مضاض بن عمرو والسميدع كانت استعداداً للحج في هذا العام.. |
تمنه: هل سيحج نابت بن إسماعيل هذا العام؟ أمتأكد أنت يا دوس؟ |
دوس: هذا ما فهمته من الفريقين.. |
تمنه: ألا نحج معهم نحن أيضاً يا دوس..؟ |
دوس: لم لا يا تمنه. وهل هناك حج أفضل من الحج مع نابت بن إسماعيل إنه سيرينا المناسك التي بينها جبريل لجده ومعه والده إسماعيل عليهما السلام.. |
تمنه: ما علمت بهذا من قبل يا دوس. قل لي ما هي قصة الروح الأمين جبريل والمناسك. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها دوس يقول): |
دوس: كان النبي إبراهيم وابنه إسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت يقولان. |
صوت صادر من مكان بعيد: بسم الله الرحمن الرحيم.. رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. صدق الله العظيم.(سورة البقرة:127 ـ 128) |
دوس: وبعد أن فرغ النبي إبراهيم من بناء البيت جاء جبريل فقال له. طف بالبيت سبعاً فطاف به سبعاً وكان هو وإسماعيل يستلمان الأركان كلها في كل طواف.. |
تمنه: وبعد يا دوس.. |
دوس: فلما أكملا سبعاً هو وإسماعيل صليا خلف مقام إبراهيم ركعتين ثم قام جبريل معه فْراه المناسك كلها. الصفا والمروة ثم دخل به مكاناً سمي منى فيما بعد. |
تمنه: ولماذا سمي منى..؟ |
دوس: لأن جبريل سأل النبي إبراهيم حين دخل به إلى هذا المكان ماذا تتمنى فتمنى الجنة فسمي ذلك المكان (منى).. |
تمنه: وبعد يا دوس ما أروع ما تقصه علي.. |
دوس: وحين هبط النبي إبراهيم من عقبة منى تمثل له إبليس عند جمرة العقبة فقال له جبريل بل ارمه فرماه إبراهيم بسبع حصيات فغاب عنه. ثم.. |
تمنه: ثم ماذا..؟ |
دوس: ثم برز للنبي إبراهيم عند جمرة العقبة الوسطى فقال له جبريل. ارمه فرماه بسبع حصيات فغاب عنه ثم برز له عند الجمرة السفلى فقال له جبريل ارمه. فرماه بسبع حصيات مثل حصى الخذف فغاب عنه إبليس. |
تمنه: ألم يبرز له إبليس بعدها.. |
دوس: لا.. ثم مضى إبراهيم في حجه وجبريل يوقف على المواقف ويعلمه المناسك حتى انتهى إلى عرفة فلما انتهى إليها قال له جبريل. أعرفت مناسكك قال. إبراهيم نعم فسميت عرفات. |
تمنه: هذه المناسك ثم ماذا بعد..؟ |
دوس: ثم أوحى الله إلى نبيه إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج فقال إبراهيم. يا رب ما يبلغ سوتي فقال له الرب إذن وعلي البلاغ فأذن وقال. |
تمنه: قال ماذا؟.. |
دوس: قال: أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق أجيبوا ربكم. |
صوت صادر من مكان بعيد: بسم الله الرحمن الرحيم، وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. صدق الله العظيم . (سورة الحج:29 ـ 29) |
تمنه: لقد زدت شوقي للحج بهذه القصة يا دوس وإني لأشد في توق ولهفة الأيام والليالي التي تسبق موعد الحج. وأبتهل إلى الله أن يكتب لنا الحج إلى بيته العتيق. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى نسمع بعدها صوت رزاح يقول): |
رزاح: تترامى الأخبار من أحداث جديدة في مكة يا لقمان فهل عندك علم بأطرافها..؟ |
لقمان: في كل يوم تنقل إلينا الركبان أخباراً جديدة عن مكة.. |
رزاح: ولكن خبر عزم نابت بن إسماعيل عن الحج في هذا العام بأهل مكة من أخواله جرهم - وغيرهم من الذين استوطنوها يطغى على كل الأخبار. |
لقمان: لا شك أنه شيء جديد يا رزاح ولكنه لا يخالف الفطرة البشرية فالإنسان ما زال باحثاً عن شيء يراه بعينه فيوجه إليه أشواقه ويقضي به حنينه ويشبع به رغبته الملحة في التفطيم ممن والدنو من الخالق. |
رزاح: صدقت يا لقمان صدقت. وماذا بعد..؟ |
لقمان: ولم يزل الإنسان باحثاً عن عمل طويل شاقٍ يكفر به عن ذنوبه الجسام وسقطاته الفاضحة ليتغلب به على وخز الضمير. وتأنيب الحس الديني.. |
رزاح: بلى يا لقمان بلى وبعد. |
لقمان: ولم يزل الإنسان في حاجة إلى مشهد ديني عظيم يلتقي فيه أصحاب العقيدة الواحدة على صعيد واحد للتعارف والتشاور وتبادل المنافع. |
رزاح: هل يوجد عند غيرنا نأمن الأمم حج كالذي دعا إليه النبي إبراهيم..؟ |
لقمان: لا يا رزاح ولكن لم تخل أمة من الأمم من أسفار دينية ومناسك مشهورة مقدسة يجتمعون فيها ويذبحون الذبائح ويقربون القرابين.. |
صوت صادر من مكان بعيد: بسم الله الرحمن الرحيم، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. صدق الله العظيم.(سورة الحج: 34 ـ 36) |
رزاح: قل لي يا لقمان ما هي قصة الذبح في الحج.. |
لقمان: يقولون إن النبي إبراهيم وأي رؤيا ورؤيا الأنبياء وحي وتكررت الرؤيا فعرف النبي إبراهيم أنها أمر من ربه يجب أن لا يرد.. |
رزاح: وما هي هذه الرؤيا..؟ |
لقمان: رأى إشارة بذبح ولده إسماعيل.. |
رزاح: ذبح ولده وفلذة كبده يا لها من رؤيا. وبعد يا لقمان.. |
لقمان: تنفيذ رؤيا كهذه تحتاج إلى موافقة الذبيح. |
رزاح: أي إنسان يرضى أن يذبح ثم كيف قاوم النبي إبراهيم عاطفة الأبوة يا لحراجة موقفه.. |
لقمان: إن قلب النبي إبراهيم ليس كقلب كل إنسان إنه قلب ملأته المحبة الإلهية والمحبة لا تعرف شريكاً ولا تحتمل عديلاً فكيف وهي المحبة الإلهية. |
رزاح: يا له من امتحان قاسٍ للنبي إبراهيم يا رزاح ماذا كان جواب إسماعيل على طلب أبيه.. |
صوت صادر من مكان بعيد: بسم الله الرحمن الرحيم قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. صدق الله العظيم..(سورة الصافات:102) |
لقمان: وهنا يقع ما لا يصدقه العقل فيخرج مع والده ليذبحه وكلاهما مطيع للرب مستسلم لأمره ويتجلى هذا الاستسلام وهذه الطاعة بأجلى مظاهرها. |
رزاح: في أي شيء هذه الطاعة بأجلى مظاهرها. |
لقمان: تعرض لهما الشيطان فحاول صرفهما من التنفيذ وزين لهما العصيان وحبب لهما الحياة فرفضا الانصياع لإغرائه. وانتصب للذبح. |
رزاح: يا إلهي. إن جسمي يقشعر من هول الموقف.. |
لقمان: ووضع النبي السكين على حلقوم ابنه يحاول جهده الذبح ووقع ما أراده الله وفدى إسماعيل بكبش من الجنة يذبح مكانه وجعلها سنة باقية في عقبه وأتباعه يجددون فيها ذكرى الذبح العظيم. |
رزاح: ما هي إرادة الله بهذا الأمر يا لقمان. قل بالله فإني كدت أموت فرقاً من رهبة الموقف.. |
لقمان: كان المراد والمقصود من الذبح ذبح الحب الذي ينازع الحب الإلهي ويقاسمه وقد ذبح بوضع النبي إبراهيم السكين في حلقوم ولده إسماعيل. |
صوت صادر من مكان بعيد: بسم الله الرحمن الرحيم، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. صدق الله العظيم.(سورة الصافات:103 ـ 109) |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى تصويرية نسمع بعدها صوت دوس يقول): |
دوس: أين كنت هذا الصباح يا تمنه..؟ |
تمنه: كنت في زيارة رعلة والدة نابت بن إسماعيل.. |
دوس: كيف هي.. |
تمنه: هي لا تسل كيف هي؟ |
دوس: ماذا تعنين..؟ |
تمنه: الفرحة الطاغية تضفي على شيخوختها جمالاً على جمالها وجلالاً على جلالها ولكن. |
دوس: ولكن ماذا يا تمنه..؟ |
تمنه: رعلة من النوع الرزين الذي لا يتكلم إلا حين يرى ضرورة للتكلم. |
دوس: كيف والفرحة تتحدث في وجهها كما تقولين. |
تمنه: أجل الفرحة ينطق بها محياها ولكن لسانها بلجمها لجام الصمت الرهيب. ولئن حاولت أن تفتح إقفال فمها فكأنك إنما تفعل المستحيل. |
دوس: أعندها خبر الشائعات التي تتناثر حول رواج ابنها نابت بن إسماعيل.. |
تمنه: حاولت جس النبض ولكني بؤت بالفشل وكل ما سمعته منها هو التحدث بإسهاب عن الحج وفضائله وذكرياتها الجميلة التي لا تنسى عن حجمها الأول مع النبي إبراهيم عليه السلام. |
دوس: يا لها من سيدة مدركة عائلة نذرت نفسها لإسعاد زوجها وأبنائها وقومها.. |
تمنه: وهذا البلد كم لها من أياد بيضاء عليه وأعمال مجيدة فيه أنسيتها..؟ |
دوس: لا ولذلك أدعو الله أن يمد في عمرها فإنها بقية صالحة من إسماعيل الحبيب الذي فجعنا فيه.. |
|