الحلقة ـ 49 ـ |
مزنة: تعالي يا أماه حدثيني فقد أنتابني الفزع والقلق على مصير المسلمين.. |
سلمى: لقد أصبح المسلمون بعد غدر يهود بني قريظة بين نارين، جيوش الأحزاب من الأمام ويهود بني قريظة من الخلف.. |
مزنة: لقد كان امتحاناً قاسياً من الله تعالى ليميز به الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب والمؤمنين الثابتين على إيمانهم والذين في قلوبهم مرض.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى حربية تدل على تفاقم الخطر وتأزم الموقف.. وصوت يقول): |
حكيم: وعندما نقل الوفد خبر بني قريظة وخيانتهم للعهد أشرق وجه الرسول صلَّى الله عليه وسلم بالإيمان الصادق والعزيمة المكينة شأنه في الملمات، فاقبل على أصحابه يثبتهم ويشجعهم ويبشرهم بالنصر الذي وعد الله به عباده المخلصين. |
زيد: إنه والله بلاء عظيم وامتحان رهيب من الله تعالى للمسلمين وجيشهم البالغ تسعمائة مقاتل في وجه عشرة آلاف مشرك مقاتل أمامهم متحفزين لابتلاعهم كما يبتلع البحر الهادر الجزيرة الصغيرة.. |
حكيم: لقد كشف هذا الكرب العظيم المؤمنين والمخادعين الذين يظهرون ما لا يبطنون داخل جيش المسلمين والذين تجرأوا بعد نقض بني قريظة للعهد أن ينثروا الإشاعات وينثروا الرعب والأراجيف.. |
زيد: إنهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.. |
حكيم: والذين في قلوبهم مرض ايضاً يا زيد.. |
(أصوات مبهمة تعلو وتهبط - وبعضها واضح وآخر غامض والواضح منها يقول).. |
صوت: بنو قريظة جاؤوكم من أسفلكم. |
صوت آخر: وقريش وحلفاؤهم من أمامكم.. |
صوت: ونحن قلة.. من أين أبتلينا بمحمد وأصحابه.. |
صوت آخر: لقد كنا في راحة وسكينة قبل قدوم المهاجرين. |
منافق: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر واجدنا اليوم لا يأمن أحدنا على نفسه أن يذهب للغائط.. ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً.. |
منافق آخر: يجب أن ننسحب من جيش محمد ونرجع للمدينة لندافع عن نسائنا وأبنائنا قبل أن يتخطفهم فتيان بني قريظة. |
منافق: يا أهل يثرب.. لا مقام لكم اليوم.. إنكم مهددون بالهلاك.. بالفناء لا محالة.. |
أوس بن قنيطي: أما أنا فسأذهب إلى محمد وأقول له: إن بيوتنا عورة من العدو فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى ديارنا فإنها خارج المدينة.. |
أصوات: الرأي ما رأيت يا أوس بن قنيطي.. الحق معك.. أعراضنا وأموالنا في خطر.. هيا إلى محمد.. هيا.. هيا.. |
حكيم: ولقد فضح القرآن الكريم هؤلاء المنافقين.. قال تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (الأحزاب: 12).. وقال تعالى: وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (الأحزاب: 13).. |
مزنة: صدق الله العظيم.. لقد كان وجود المنافقين داخل صفوف جيش المسلمين ابتلاء ثالث ابتلي به المسلمون. |
سلمى: لقد أخذوا فعلاً في الانسحاب يا بنيتي.. وهم يهدفون من وراء ذلك إلى مساندة جيوش الأحزاب وتسهيل مهمتهم وبث روح الفزع والتخاذل واليأس بين المسلمين وتفتيت روح المقاومة وهدم بناء الوحدة التي أرساها الإسلام.. |
مزنة: إنه موقف رهيب حين أتصوره يا أماه.. فالمسلمون بين فكي الكماشة التي أخذت تضغط على عنق جيش المسلمين الصغير المرابط حول الخندق. |
سلمى: ولعلّ أفظع من ذلك هي تدهور الحالة المعنوية داخل جيش المسلمين وسيطرة روح الهزيمة والعصيان فيه بذلك الوضع السيء الذي أوجده المنافقون والذين في قلوبهم مرض داخل صفوف المقاتلين.. |
مزنة: قولي يا أماه وتابعي قصصك عن هذه المعركة المصيرية بالنسبة للإسلام والمسلمين.. |
(نقلة صوتية مسبوقة بموسيقى حربية وأصوات مناوشات وصوت يقول).. |
حكيم: وبعد نقض بني قريظة للعهد تضاعفت حملات فرسان قريش وأحزابها على الخندق ليل نهار وكان أبو سفيان يقود أكثر هذه الحملات بنفسه وهو يأمل أن يفتح ثغرة في الخندق ينفذ منها ولكن المسلمين وفي مقدمتهم النبي صلَّى الله عليه وسلم كانوا يحرسون هذه المنافذ ويفسدون على العدو هجماته.. |
زيد: ولا ريب أن هذه الحملات المتلاحقة من جيوش الأحزاب أجهدت المسلمين كثيراً فوق ما كانوا يعانون من شدة الجوع وقسوة البرد القارس والتخوف من هجوم اليهود من الخلف وهم في هذه المحنة.. |
(يسمع صفير الرياح وزئيرها).. |
حكيم: نعم يا زيد لقد بلغ الكرب أشده والخوف أقصاه بالمسلمين.. وجيوش الأحزاب تشدد من هجماتها حتى أنها لم تترك للمسلمين فرصة يستريحون فيها أو حتى يؤدون فيها فريضة الصلاة. فكانوا في حالة تعبئة ومرابطة لا يفارقهم السلاح ليل نهار وقد جاء بعض أصحاب الرسول صلَّى الله عليه وسلم إليه وقالوا له: ((يا رسول الله: لقد بلغت القلوب الحناجر فهل من شيء تقوله؟ قال: ذلكم. قولوا: ((اللَّهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا)).. |
الحارث: كرب والله وجهد ما بعدهما كرب ولا جهد.. |
حكيم: ولقد أدرك قواد جيوش الأحزاب ما يعانيه المسلمون من شدة الحصار فضاعفوا من نشاطهم وأوعزوا لبني قريظة بأن يبدأوا بالتحرش بالمسلمين من الخلف فصار اليهود يهاجمون الحصون والآطام التي وضع المسلمون فيها نساءهم وأطفالهم. |
زيد: وحين رأى المسلمون ذلك زاد كربهم واشتد قلقهم.. وليس أعظم بلاء ولا أشغل بالاً للمرء من أن تتعرض نساؤه وأبناؤه وبناته لخطر السبي والأسر.. |
حكيم: وفي هذه الأوقات العصيبة حاول النبي صلَّى الله عليه وسلم التخفيف عن المسلمين بعقد صلح منفرد مع قبائل غطفان الموجودين ضمن جيوش الأحزاب مقابل دفع ثلث ثمار المدينة لهم شرط قبول أصحاب هذه الثمار وهم الأنصار. |
زيد: وهل قبل الغطفانيون عقد الصلح يا حكيم؟.. |
حكيم: نعم وقد حضر لهذا الأمر زعيمان من الغطفانيين إلى النبي صلَّى الله عليه وسلم هما: عيينة بن حصن الفزاري والحارث بن عوف المري.. |
الحارث: وهل قبل الأنصار ذلك؟.. |
حكيم: لقد قال سيّدا الأوس والخزرج للنبي صلَّى الله عليه وسلم حينما استشارهما في الصلح: يا رسول الله: أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئاً تصنعه لنا.. |
فقال الرسول صلَّى الله عليه وسلم بل شيء أصنعه لكم لو أمرني الله به ما شاورتكما والله ما أصنع ذلك إلاّ لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فاردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. |
فقال له سعد بن معاذ سيد الأوس: |
يا رسول الله: قد كنا نحن وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان.. لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعاً.. أفحين أكرمنا بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا.. والله ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.. |
زيد: وماذا كان موقف الرسول صلَّى الله عليه وسلم بعد ذلك؟.. |
حكيم: عدل النبي صلَّى الله عليه وسلم عن رأيه ومال إلى رأي سيدي الأوس والخزرج وقال لسعد بن معاذ: فأنت وذاك.. وهنا التفت سعد إلى سيدي غطفان عيينة بن حصن الفزاري والحارث بن عوف قائلاً بصوت مرتفع: |
سعد بن معاذ: ارجعا.. ليس بيننا وبينكم غير السيف.. |
مزنة: ما أروع الموقف الحكيم الذي وقفه الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه من اعتراض أصحابه على رأيه.. إنه لم يتعقب لرأيه.. ولم يغضب لمعارضة أصحابه بل وافقهم حين رأى أنهم على صواب.. |
سلمى: إنها الشورى الصحيحة.. إنها الديمقراطية الحقة.. إنها درس للدكتاتوريين الذين يؤلهون آرائهم وينزلون أفدح عقوبات الانتقام بكل من يخالفهم.. لقد كان رأي الصلح من عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ولو كان منزلاً من عند الله ما استشارهم فيه بل لأقدم عليه.. ولكنه كان رأيه الخاص ومع أنه رسول الله لم يفرض رايه بل وضعه للمناقشة وحين وجد أن إخوانه في الدين وفي السلاح يعترضون في صدق وإخلاص عليه مال إلى جانبهم ونفذ ما أجمعوا عليه صلَّى الله عليه وسلم . |
مزنة: صلَّى الله عليه وسلم .. وماذا كان صدى هذا الرفض عند المسلمين والأحزاب المشركين.. |
سلمى: لقد أدرك قادة غطفان أن الذي يصنع الانتصارات ويحققها في ساعة الرّوع ليس عديد الجيوش ولا عدتها وإنما الذي يصنع ذلك قوة الإيمان بالله تعالى.. |
(نقلة صوتية).. |
صوت: والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.. |
حكيم: لئن ضاعف هذا الرفض من متاعب المسلمين.. وشحذ من عزائم المشركين والكافرين فقد حفزهم على تشديد اليقظة ومراقبة المواقع الضيقة من الخندق والتي يحتمل اقتحامها من قبل خيل الأحزاب الذين توالت حملاتهم في أمواج متقاربة لإرهاب المسلمين وتحطيم روح المقاومة فيهم تمهيداً للهجوم العام المرتقب بالاشتراك مع يهود بني قريظه.. |
زيد: يا إلهي.. لقد كانت خطة الأحزاب مضنية مرهقة للمسلمين.. |
حكيم: نعم.. لقد بلغ بهم الجهد والخوف منتهاه إلى درجة أن النبي صلَّى الله عليه وسلم وبعضاً من اصحابه لم يتمكنوا من أداء صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء في أوقاتها بل ظلوا شاكي السلاح يعضهم الجوع المضني ويلسعهم البرد القارص ويرعبهم الحصار الخانق من عدوهم الحانق والمنافقون يتسللون لواذاً من صفوف الجيش المحصور مثيرين غباراً خانقاً من الأراجيف والدسائس فوق زئير الرياح الهوج المزعج في دياجي الليل البهيم والخوف الرهيب. |
(نسمع زئير الرياح وصفيرها واصواتاً مرعبة تعلو وتهبط وجلبة وصهيل خيل وأصوات فرسان ومناوشات وأصوات جرحى وأنين قتلى).. |
حكيم: وقام يهود بني قريظة بالهجوم على تلك الحصون التي كان يعتصم بها نساء المسلمين وذراريهم وقد صد المسلمون هذا الهجوم وقتلوا أحد اليهود، كما أن صفية بنت عبد المطلب عمة النبي قتلت أحد اليهود بعود حين تسور الحصن وقطعت رأسه وألقت به على اليهود الذين كانوا حول الحصن فراعهم ذلك وانسحبوا مذعورين وهم يظنون أن هذه الحصون زاخرة بحرس من المسلمين.. |
مزنة: لله درها ما اشجعها وأقوى فؤادها.. |
(تضحك سلمى فتسألها مزنة قائلة).. |
ولماذا تضحكين يا أماه؟.. |
سلمى: لقد كان حسان بن ثابت مع نساء المسلمين وصبيانهم في هذا الحصن الذي هو ملكه.. فلما رأت صفية بنت عبد المطلب اليهودي يطيف بالحصن قالت لحسان بن ثابت.. يا حسان: إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن.. وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من ورائنا من يهود.. وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه فأنزل إليه فاقتله.. فقال حسان.. |
(نقلة صوتية).. |
حسان: يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب.. والله لقد عرفت.. ما أنا بصاحب هذا.. |
(تضحك مزنة ثم تقول): |
مزنة: يظهر أن حسان بن ثابت كان شجاعاً جداً بحيث ترك مع النساء والصبيان في الحصون والآطام.. |
سلمى: ثم قامت صفية رضي الله عنها وشدت على وسطها وأخذت عموداً وترصدت لليهودي حتى إذا ما رأته يتسور الحصن عاجلته بضربة قضت عليه.. ثم احتزت رأسه وألقته على اليهود المجتمعين حول الحصن كما عرفت وقالت لحسان بن ثابت.. |
ـ قم يا حسان وأنزل إليه فأسلبه.. فإنه لم يمنعني من سلبه إلاّ أنه رجل. فقال حسان.. |
حسان: ما لي بسلبه من حاجة يا ابنة عبد المطلب.. |
(خبطة موسيقية قوية).. |
سلمى: إلى الغد إن شاء الله.. |
مزنة: إن شاء الله تعالى.. |
|