الحلقة ـ 29 ـ |
مزنة: نحن ضيوفك يا جدي يوسف هذه الليلة. |
يوسف: يا مرحبا.. يا مرحبا.. |
سلمى: أتذكر يا والدي أني حين هاتفتك أمس بشأن زيارتنا الليلة أخبرتك أننا نريدك أن تحدثنا عن التشريعات التي أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم خلال الثلاثة عشرة سنة التي قضاها في مكة قبل أن يهاجر إلى المدينة المنورة وقصدي عن ذلك الفائدة المزدوجة لي ولابنتي مزنة. |
يوسف: حاضر.. حاضر. |
بسم الله الرحمن الرحيم |
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: |
مكث الرسول الأعظم صلوات الله عليه في مكة من وقت النبوة إلى أن هاجر إلى المدينة المنورة ثلاث عشرة سنة. |
مزنة: ما معنى من وقت النبوة؟ |
يوسف: أي منذ نزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم.. وفي فترة الثلاث عشرة سنة أنزل عليه معظم القرآن الكريم أي ثلاث وتسعون سورة والباقي وهو واحد وعشرون سورة بالمدينة المنورة. |
سلمى: ما معنى الوحي يا أبتاه؟ |
يوسف: الوحي - في لغة العرب - إعلام مع خفاء وسرعة. |
سلمى: وما معنى السرعة؟ |
يوسف: معنى السرعة أن هذه المعلومات المتلقاة لا تكون نتيجة لمقدمات تنبني عليها تلك النتيجة بل هي أشبه بالعلم الضروري الذي لا يتوقف على نظر واستدلال. |
سلمى: وكيف كان إعلام الله أنبياءه المختارين؟ |
يوسف: إن الوصف العلمي والفني يا بنيتي يضيق عن تحديد كنيته، وغاية ما يمكن الإنسان أن يصل إليه هو أن يحوم حول هذا الموضوع مستعيناً بما قاله الأنبياء أنفسهم عما نزل على ألسنتهم ليقتطف منها ما يقرب ذلك إلى العقل الإنساني. |
سلمى: هل كان هذا الإعلام على مرتبة واحدة أن له عدة مراتب؟ |
يوسف: لا يا بنيتي... كان على عدة مراتب. |
مزنة: ما هي يا جدي؟ |
يوسف: المرتبة الأولى… أن يخاطب في النوم وهو ما يسمى بالرؤيا الصادقة، وقد عبر عنها القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم مخاطباً ابنه إسماعيل يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ (الصافات: آية 102). |
مزنة: والمرتبة الثانية؟ |
يوسف: أن يلقى ما يراد القاؤه على قلب ذلك النبي من غير وساطة أي في حالة اليقظة وهو ما يسمى بالإلهام وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ (الشعراء: 193 - 194). |
سلمى: والمرتبة الثالثة يا أبتاه؟ |
يوسف: المرتبة الثالثة أن يرسل الله رسولاً يخبر نبيه المختار بما يريد إعلامه إياه وهو ما يسمى بالملك، فيحدثه، ويصف القرآن الكريم هذا الرسول بقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ . مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (التكوير: 19 - 21). |
سلمى: وكان جبريل عليه السلام هو الملك الذي يرسله الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم |
مزنة: صلى الله عليه وسلم. |
يوسف: نعم... أما المرتبة الرابعة فهي أن يسمع الله تعالى نبيه المختار كلامه مباشرة كما حصل لموسى عليه السلام. |
مزنة: وكيف كان ذلك يا جدي؟ |
يوسف: جاء في القرآن الكريم قوله تعالى عن هذه الحادثة: |
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى . إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى . فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى . إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى . وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (طه: 9 - 13). |
سلمى: وهل هناك طرق أو مراتب أخرى يا أبتاه؟ |
يوسف: فيما أعلم هذه هي المراتب التي عرف أن الوحي كان يبلغ قلوب الأنبياء عليها. |
سلمى: ما هو أهم ما جاءت به الآيات المكية من تشريع؟ |
يوسف: أولاً - التوحيد، ورفض الأوثان والأصنام أي لا يكون بين العبد وربه واسطة فقد كانت عامة العرب تدين بالوثنية إلا قليلاً منهم وكان لكل قبيلة إله صنم بل ربما كان لكل فرد صنم من حجر أو شجر يعبده فلم يكن بد من مقاومة شديدة للأوثان والأصنام وكل ما يمت إليها ولذلك جاءت الآيات المكية تدعو لتوحيد القلوب والصفوف على إله واحد ورب واحد لا شريك له وتقيم عليه الأدلة وتناقش المعارضين وتذم الشرك والأوثان والأصنام وتنعي على المتوسلين بها مذاهبهم تصريحاً وتلميحاً. |
سلمى: نعم يا أبتاه.. نعم.. لقد ضرب الله في آياته الأمثال بالأمم السابقة وما أصابهم من جراء شركهم بالله وتكذيبهم الأنبياء والرسل. |
يوسف: وتكررت الأمثال تكراراً مؤثراً بأساليب مختلفة لأن أشد ما يفعل في النفوس لإثبات التعاليم فيها إنما هو التكرار مع تنوع الأساليب. |
سلمى: نعم هذه ظاهرة بينة في القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام مع فرعون مصر ومع قومه وقصة إبراهيم عليه السلام وتكسيره للأوثان والأصنام وغير ذلك من قصص القرآن المجيد. |
يوسف: واستتبع التوحيد ونبذ الأوثان والأصنام تحريم كل ما ذبح على تلك النصب كما حرمت الشريعة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه وهذه حركة مضادة لما كانوا يفعلون قبل الإسلام فإن المشركين كانوا يذبحون باسم أصنامهم فأمرهم أن يذبحوا باسم الله تعالى حتى ينسوا تماماً ما كانوا عليه وجاء التشريع بعد ذلك في جميع الأفعال التي يشرع فيها الإنسان لا بد أن تفعل باسم الله لا باسم غيره أياً كان. |
سلمى: لقد كان تشريعاً قوياً وجريئاً يأتي به الإسلام إلى قوم عاشوا مئات السنين وهم يعبدون هذه الأوثان والأصنام.. وأن يعلنها الإسلام حرباً لا هوادة فيها ولا تدرج بل تحريم قطعي تماماً. |
يوسف: ولقد ذهب التشريع في هذه الناحية إلى أبعد حد من المقاومة فمنع التصوير وصنع التماثيل وفي هذا المنع ناحية سايكلوجية هامة. |
مزنة: صحيح يا جدي كيف منع التصوير وعمل التماثيل؟ |
يوسف: ظل العرب مئات السنين يتخذون الأوثان والأصنام آلهة من دون الله، والنفس المتشبثة بالشيء الذي نهيت عنه لا يبعد أن تعود إليه بدافع من الحنين متى ظهر أمامها فإن مشاهدتها له مرة واحدة تدك معالم الأوامر والنواهي وتحدث رد فعل لما اضطرت عليه النفس من أتباع الأوامر. |
سلمى: صحيح يا أبتاه.. مثلاً شارب الدخان... لو أمره الطبيب بتركه واقتنع بأن التدخين غير مفيد ثم رأى بعد ذلك أي سيجارة بيد غيره لا شك أن الممتنع يحس بحركة غريبة في نفسه هو نوع من الحنين يحتاج المرء لاتقائه ومغالبته إلى عزيمة قوية. |
يوسف: جميل يا بنيتي ما قلت ولذلك حماية لهذا الضعف الإنساني كرهت التصاوير والتماثيل من باب الاحتياط وسد الذرائع فسيدنا عمر بن الخطاب حين رأى بعض المسلمين يتبركون الشجرة التي بايع عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الحديبية أمر في الحال بقطعها وإعفاء أثرها. |
مزنة: وما هي بيعة الحديبية وأسبابها يا جدي؟ |
يوسف: لا شك أن والدتك ستحدثك عنها في حينه لأن الحديث عنها لا يدخل في موضوعنا الليلة. |
سلمى: نعم يا بنيتي سأحدثك عنها إن شاء الله عندما نصل إلى ذكرها في حديثنا المسائي اليومي. |
(سلمى متابعة كلامها والآن نستأذنك يا أبتاه شاكرين لك ما اتحفتنا به من معلومات وفوائد مؤملين أن نلقاك في الليلة القادمة على أسر حال). |
يوسف: إن شاء الله. |
مزنة: تصبح على خير يا جدي. |
سلمى: تصبح على خير يا أبتاه. |
يوسف: تصبحون على خير.. مع السلامة. |
|