شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تقديم المْسرَحيّة
بقلم
الأستاذ محمود تيمور
عميد القصة في العالم العربي
أنت على موعد تستقبل فيه ((حضرة صاحب السعادة حسين سراج باشا، أحد رجالات العرب الحجازيين، ووزيراً سابقاً من وزراء المملكة الأردنية الهاشمية))، ولم تكن قد لقيته بعد، ولا عرفت من شأنه إلا ذلك الجانب العام من شخصيته… فما ظنك بمن تستقبل؟ وما الصورة التي تتمثل في مخيلتك أول وهلة لصاحب هذا الاسم واللقب والمنصب؟ وماذا أنت صانع من الأهبة للقائه؟
لا شك في أنك تجمع ما انتشر من فضول ثيابك، وتُغِيض ما عسى أن يكون في وجهك من تطلق ومراح، لكي تصطنع من صبغة الوقار ما يليق باستقبال شيخ مَهِيب، له عينان سابحتان في ذكريات السنين، ولحية مسترسلة نَسَجَتْها التجارب والأحداث، وقد انحنت يده على عصاه يتوكأ عليها في خَطَوِه الوئيد.
كذلك تمثلت لي صورة السيد الحجازيّ الجليل، يوم تفضل عليَّ صديقي الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، فأراد مشكوراً أن يكون وسيطاً بيني وبينه في التعارف؛ ولكن الصديق حين أفضى إليًّ بطرف من شأن الزائر الكريم، راعني أنه مشغوف بالتمثيل، وأنه يكتب المسرحيات، وأنه أديب شاعر فنان.
وقلت لنفسي: لا يُسْتغرب الأدب والشعر من الوزير العربي الأصيل، في ذلك البلد العربي العريق… بَيْدَ أن المسرح والتمثيل هو الغريب الطريف الذي يسترعي النظر. فهذا المسرح طارىء على الشرق الحديث، ولا سيما في تلك الأصقاع العربية التي تغلب عليها نزعة المحافظة، وتأبى إلا أناة في قبول العصريّ من ضروب الفنون وأوضاع الحضارة. فما لوزيرنا العربي والمسرح، يُشْغَف به، ويَكْتب له؟
وفي الموعد المضروب للقاء، سُعِدْتُ باستقبال شاب مكتمل الشباب، أنيس الجليس، تتوهج الألمعية في عينيه، ويسطَع الأمل في مُحَيَّاه، وتتجلى في حديثه رقة الشمائل، وفورة العاطفة، ودعة النفس، وسعة الأفق… وكدت أسأله حين صافحتُه بادىء بدء: ((أين حضرة صاحب السعادة حسين سراج باشا، وزير المملكة الأردنية الهاشمية؟))، ولكن الله سلَّم، فقد علمت في سرعة، على يقين، أنه هو عينه، وأني كنت واهماً فيما تخيلت وتمثلت، حين قدَّرت أني مُلاَقٍ شيخاً من شيوخ العهد الماضي والأمس البعيد.
أمَّا جليسي هذا فإن له شخصية فنان، ما في ذلك ريب. وإن جذوة الفن لتعتمل بين جوانجه، فيبدو وهجها على سيمائه، ويظهر أثرها في شأنه أجمع… ولا عجب إذن فيما انتهى إليّ من أن ((حسين سراج باشا)) أُغرم بالمسرح في رَيِّق شبابه، وأنه مَثَّل يوماً شخصية ((قيس بن الملوّح)) - مجنون ((ليلى)) - ومَن أولى بتمثيل هذه الشخصية مِنْ صاحب ذلك القَوام المَشيقِ، والطلعة العربية الرائقة السُّمرة، والنزعة العاطفية الشفافة، والروح الشاعريّ الرفَّاف.
وانفضَّ - على شوق - مجلسي مع الزائر المتفضِّل، ولكن كرمه العربيّ شاء أن يترك لي نفحة من نفحات شخصيته، وقبسة من قبسات شاعريته. فاستأنفتُ جلوسي إليها، أُواصل معها تلك المتعة بلقائه، والأنس بحديثه.
وكانت القبسة ((السِّراجيَّة)) الوضَّاءة: مسرحية شعرية مستوحاة من التاريخ، موضوعها: غرام ((وَلاَّدة)) تلك الأميرة التي تمثل لنا صورة من الحبّ شرقية الطابع عربية السِّمات.
وموضوع هذه المسرحية تطلعت إليه من قبل أقلام الأدباء من الناثرين والشعراء، فاستلهموه، واتخذوه مجالاً لانطلاق القرائح، وانفساح الأخيلة. ولكني أحسبه في المسرحية السراجية أحفل بالعاطفة، وأوفى حظًّا من رقة الترنيم. فالجو كله حب وهيام، والمناجَيَات تهز المشاعر، وتثير فيها تياراً من الشجو والحنين، والمسرحية بهذه المزايا - من عذوبة التعبير واستفاضة ((الرومانسيَّة))، وحيوية الأسلوب الغنائي - صالحة لأن تتجلى على المسرح بين ((المُلَحَّنّات)) التي يعرفها فن التمثيل باسم ((الأوبرات))، أو بين ((الغِنَائيّات)) المعروفة باسم ((الأوبريتات))، فإن فيها ذلك العبق الذي يجب أن يفعم جو المسرح الغنائي، وإن الموسيقى لواجدة كل الطواعية في هذا الشعر الرقيق.
ومما يرفع من شأن تلك المسرحية أن العاطفة فيها ليست سطحية، ففيها استجابات عميقة للحياة، وفيها استِبْطان للنزعة الإنسانية في الحب، وهذه العاطفة تستمد قوتها من غرض رفيع وهدف بعيد، فإن الطموح إلى المجد، والمطالبة بالثأر، يعملان عملهما في توجيه تلك العاطفة، ويسيران بها إلى الغايات السامية. وذلك يذكرني بما عالجه ((كورني)) في مسرحية ((السيد)) حين جعل الحب يسطع سطوعه بسمو الأهداف التي انطوت عليها قلوب المحبين.
والمؤلف يصور لنا - في فطنة وبصارة - مِنْ خلجات النفس، ومن كوامن شعورها، ما يرفع النقاب عن الدوافع التي تستتر وراء الظواهر من عاطفة المرأة، فهو يظهرنا على ((وَلاّدة)) شاكية باكية، لا كما يبدو أنها تذوب ذوبان الشمعة الموقدة في محراب الحب والهيام، ولكنها تبكي نفسها، وتثور لكرامتها، فتقول:
ما ضَرّني حبّه أو بُغضه أبداً
بل ضَرَّني أن حبيّ باتَ يُشْقيني
لَئِن أًسِفتُ على شيء فليسَ على
حبّي ولكن على غشّ ((ابن زيدونِ))
لو كانَ حيًّا أبى ما نالَني تعبٌ
ولا جَفاني ((ابن زيدونٍ)) على هُونِ
وهي تؤكد هذا المعنى، أو تكشف عن هذه السريرة، حين تقول:
نَحن النّساءَ متى ثُرنا لعزّتنا
نُلقِي بِمَن يَعتدى بَطنَ الأخاديدِ
فإن أَردْنا انتقاماً يا لَنِقْمَتِنا
وإن وَعَدنا فيا حُسْنَ المواعيدِ
وأخيراً يتضح الأمر، حين نرى ((وَلاّدة)) تعنى بتخليص حبيبها من السجن، لكي تستعينه في استعادة مجدها الغارب، حتى يزين جبينها التاج السليب.
والشاعر يبلغ ذروة الجودة في المواقف التي يقوم فيها ((ابن زيدون)) مقام الإنشاد، وكأنه يحضره شيطان شعره، فيبعث فيه روعة القصيد. وهذا فن من الاستجابة وصدق الاستيحاء جدير بأكرم التقدير. والحق أن القصيدة النونية التي مطلعها: ((أمست ليالي الهنا حلماً تناجينا)) - وهي التي يعارض بها المؤلف نونية ((ابن زيدون)) المشهورة - تكاد أبياتها توهم القارىء أنها تكملة للأصل كانت خافية على الناس. وكذلك القصيدة الهائية التي مطلعها: ((يا نائحاً وسواد الليل يخفيه)) تجري في سمو الشاعرية مجرى شاعر الأندلس الصَّداح.
ومما حَلِيَتْ به هذه المسرحية في نسقها الشعري أن الأوزان تتباين فيها تبايناً تقتضيه الملابسات التي تتألف منها المشاهد، ومن أمثلة ذلك نداء ((ابن زيدون)) لَلَّيل، وشَجْو ((سليمى)) الذي مطلعه: ((لست أدري)) وشَدْو الراقص الذي مطلعه: ((في ضياء القمر))… ففي هذه الأوزان تفنن يزيدها قوة أداء، ورقّة عَرْض. وفي هذا التفنن ما يعين على التغنيّ بالمقاطع الشعرية في يسر… أضف إلى ذلك أن اختلاف الأوزان، وتنوّع المقاطع - في هذه المسرحية - يلائم بينها وبين عصرها الأندلسيّ، عصر ((الموشَّحات)) وما إليها من ألوان التجديد في أوزان الشعر وأوضاعه.
ولستُ بقاصد في هذه العجالة أن أقف من المسرحية السراجية موقف الناقد الفني من الوجهة التمثيلية، أو الناقد الأدبيّ من الوجهة اللغوية أو العروضية أو غيرها من الوجهات. فقد أمتعَتْني حقًّا هذه الصحائف بما فيها من وجدانية عذبة المشرب، ومن شاعرية حريرية النسج فكانت نظرتي إليها نظرة الرضا والإعجاب في صدق وإخلاص؟
محمود تيمور
23 يونيه سنة 1952
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1171  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 66 من 150
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج