شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نحن والعادات:
كيف ننفق أيضاً؟
أتيت في مقالي السابق بصورة إجمالية على بعض عاداتنا في الإنفاق، أو بمعنى أوضح عن بعض تبذيرنا لكلما يصل إلى أيدينا بدون تروٍ ولا تعقل. والغريب من أمرنا أن البعض منا بينما هو يصرف المصاريف الباهظة فيما لا طائل تحته، وما لا تنتج من ورائه، يضن أقل شيء في سبيل مشروع عمراني أو خيري، وإذا ما حثيته، أو لفت نظره إلى أن هذا واجب عيه صرت في نظره من أعدائه وهذا من جهل ذلك البعض لمصلحة المجموع وإهماله السعي في تقوية تلك المصلحة. إني أقول البعض، ولا أقول الكل، لأنه لا يوجد من إذا لزم الحال أدى الواجب على قدر استطاعته، مع أن أداء هذا الواجب مطلوب من الكل إلا إنسان معدوم لا يملك شيئاً فهذا معذور.
ولنتوسع قليلاً في موضوع الإنفاق ونستعرض بعض التجار وبعض أرباب المهن وبعض مشائخ الجاوه والمطوفين وبعض ما يعانونه من وراء ذلك الإنفاق، وإني لا أعني في جميع من استعرضتهم إلا من ينفق بدون تروٍ والذي أقصده من الإنفاق هنا هو الزائد الذي ليس له لازم، ولم يكن هناك مبرر لعمله. أما الضروري واللازم فهذا مالي وإياه لأنه ضروري ولازم.
التجـار
إن التجار في حجازنا هم أحرص من غيرهم في الصرف، وهذا شيء قد أملته عليهم الروح التجارية التي من مميزاتها السعي في ربح الهللة، فالتاجر يعرف أنه لا يربح القرش إلا بعد العناء الشديد، لذلك يحرص في عدم إنفاقه إلا في الأشياء الضرورية اللازمة، وقليل منهم الذين ينهجون منهج البذخ والإسراف، ولكن أبناءهم قليل منهم من ينهج منهج آبائهم في ذلك، والسبب في هذا يرجع إلى غرور الشباب من جهة، وإلى عدم كدهم وتعبهم على ما يصرفون من جهة ثانية، وقد رأينا تجاراً كانوا أصحاب ثروة طائلة فأصبحوا بسعي أبنائهم فقراء، وهذا كله في الأصل يرجع إلى التربية، والتربية في حجازنا كما تعلم –أيها القارئ– تحتاج إلى عناية عظيمة في جميع أدوارها.
وهنا أرجو أن يسمح لي بعض التجار والمتمولين (أنا أقول بعضهم لأن من التجار من يعتني بهذه الأشياء عناية تامة) فإني أريد أن ألفت نظرهم إلى أشياء يضنون على الإنفاق في سبيلها وهي المسائل الخيرية فإنهم يمتعطون عندما يقف عليهم طالب إحسان لمدرسة أهلية، أو مشروع خيري، مع أن ذلك واجب عليهم، وعليهم حق في أدائه، وعليهم سهم في خدمة هذا الوطن، أنا أعرف أن الأزمة قد أثرت عليهم، وأن الخسائر قد أضرت ببعضهم، ولكن ليست هذه الحالة (حالة الامتعاط) هي من الآن فقط، لا بل من السابق أيضاً، ولو أنهم أضافوا ما يدفعونه إلى قلم الخسائر لما وقف مركبهم، ولما أفلس متجرهم بسبب ذلك، بل ربما كان ذلك سبباً في تفريج الحالة عنهم، فعسى أن ذلك القسم يعطي هذه المسألة جانباً من أهميته فيتطوع في فعل الخير للمدارس الأهلية والمشاريع الخيرية التي كادت أن تقفل أبوابها، لأن ذلك واجب والواجب مقدس.
والآن لنعد إلى بحثنا فنجد قسماً من التجار يبذخ ويسرف في صرف أمواله والظاهر أنَّه لم يفعل ذلك إلا لكونه تاجراً فقط، بالرغم من كونه يعرف في كثير من الأوقات أن هذا سيؤخره وسيحيله على (بامفلس) فهو يتمادى في ذلك غير ملتفت إلى ما كان وما سيكون، وهذا خطأه بين، وضرره ظاهر.
ولو أن هذا القسم تدبر في عاقبة أمره وأحسن التصرف في أمواله، وتمشى على خطة تحفظ له ثروته، وتحسن سمعته لكان أولى وأحسن.
أرباب المهن
كثيراً ما نرى إنساناً يجد في فتح حانوت، ثم لا نلبث أن نرى ذلك الحانوت قد أقفل، وذهب أمره في خبر كان.
وكثيراً ما نرى إنساناً عليه عشرة (مثلاً) ولكن الموجود في دكانه خمسة، والباقي يدعي أنها خسارة، والحقيقة أنها ذهبت في (البير العمية)، وكثيراً من ما نرى إنساناً دخله الشهري عشرين ولكن صرفه ثلاثين، والفرق هنا مأخوذ من زيد أو عمرو على حساب الموسم، الذي قد سممنا أفكارنا به، ولم نلتفت إلى غيره.
وأما بحثنا عن السبب فإنا نجد التبذير في النفقة هو الأساس. كنت جالساً في حانوت صديق أتسمع إلى شكواه عن الخسائر التي أنهكته (كما يقول) فأدير بنظري في بضاعته فأجدها: تنكتين (1) سكر، وقارورتين شاهي، وثوبين كبريت، وقس على ذلك، وكلها لا تحتاج لكل ما سمعت من شكوى. فسألته عن غلته اليومية، فأفادني، ثم سألته عن مصرفه البيتي فأفادني، وحينما قابلت هذا بذاك، وجدت أن مصرفه يوازي ربع الغلة بأكملها، فعند ذلك فهمت السر في الموضوع، ولفت نظره إلى ذلك، فحملق بعينه في وجهي وقال: "أجل ما نأكل؟" فقلت له: "كل ولكن اقتصد بقدر استطاعتك لأن الحالة تقضي بذلك، وليس من الضروري مجاراة غيرك، فهز كتفه غير مكترث وقال: "يا عمي أبسطها واللي عند الله عنده، وعسى ما أحد حَوَّشْ (2) ، واللي خلقنا ما ينسانا".
فالأنواع التي سردتها لم يؤثر فيها ما أثر في صاحبنا، ولم يؤخر في أمرها إلا ما أخر في صاحبنا، ولو لبسوا لكل حالة لبوسها، وتمشوا مع الوقت، وفكروا في العواقب لتحسنت أحوالهم، وعاد النفع عليهم دون غيرهم.
مشائخ الجاوه والمطوفون:
إذا بحثت مشائخ الجاوي والمطوفين هنا، فلا أبحثهم إلا من جهة الموضوع الذي أنا بصدد بحثه، أما من الجهات التي منها كيف يصير الصبي معلماً؟ وكيف يسيرون القضايا على أهوائهم؟ وكيف يضيع الضعيف في وسطهم؟ وما للوساطة من تأثير في ذلك، وكيف يقسمون الجنحة إلى قانونية وغير قانونية، ويقضون في أمرها على حسب أغراضهم؟ وكيف تنزع الوكالة من الوكيل؟ وما يبذله الوكيل حتى يتوصل إلى الوكالة؟ فهذه سأتركها الآن وسأفرد لها بحثاً مخصوصاً في وقت مخصوص.
لقد أصبح أمر بعض مشائخ الجاوي في مسألة الديون أشهر من أن يكتب فيه. وبالرغم مما وضع من إنذارات وتحذيرات في إيقاف هذا البلاء عند حده، فإن القروض الوطنية لا تزال تعقد، وإن السندات لا تزال تحرَّر، وأن هذا قد أثر في سمعة بعض مشائخ الجاوي، حتى لقد أصبح الإنسان إذا ما صارح آخر بما له في ذمة أحدهم عَزَّاه فيه حالاً. وقد كان المتبعون لهذه الخطة في السابق أفراد قلائل من مشائخ الجاوي؛ أما الآن فقد اتبعها الكثير منهم، ومع الأسف فإن المطوفين أصبح فيهم من ينهج هذا المنهج، ويتبع هذه الخطة حتى في جلب الحاجي أيضاً، وقد صارحني أكثر من واحد في أنهم اتبعوا مشائخ الجاوي في أكثر عاداتهم، وعادات مشائخ الجاوي معلومة عند الكثير ولا تحتاج إلى شرح وإلى تبيان - اللَّهم استرنا بسترك يا رحمن الدنيا والدين.
والحقيقة أن هذه الأشياء كلها لم يدفعهم عليها إلا التبذير، وإقبالهم على الأشياء بدون ترو، إن كان من جهة استئجار الدور، أو استخدام الصبيان، أو غير ذلك من الأشياء التي...
ولو أنهم ترووا في أمرهم وأحسنوا التصرف في صرف أموالهم، وساروا بتدبر في أعمالهم، واقتصروا على اللازم والضروري في لوازمهم، لو فعلوا ذلك لما أصبحوا في هذه الحالة المحزنة، ولما أصبحت سمعتهم بهذه الصفة.
أنا لا أقول أن سمعة جميع مشائخ الجاوي والمطوفين سيئة، لا بل أقول أن سمعة المتبعين لهذه الخطة أصبحت غير حسنة حتى أن الإنسان أصبح يوصي من يعز عليه في عدم معاملة هذا القسم، وهذا أعظم دليل يدلنا على ما وصلت إليه حالة هذا النوع، وإني ألفت نظر أولياء الأمور إلى ذلك، وأرجو أن يضعوا حداً لصد هذا التيار الجارف المهلك الذي أضاع الدائن والمدين، وأساء إلى الكل في آن واحد. والله من وراء القصد.
مكة المكرمة: (الغربال)
جريدة "أم القرى" العدد 390
الجمعة 28 محرم 1351هـ الموافق 3 يونيو 1932م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :362  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 86 من 122
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

التوازن معيار جمالي

[تنظير وتطبيق على الآداب الإجتماعية في البيان النبوي: 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج