شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مذكرات مسافر: (1)
المرأة الحجازية جوهرة ثمينة
جمع الليل آخر خيط من خيوطه السوداء وسار مسرعاً، وأخذت جيوش الإصباح تركز أعلامها في الأفق، وكانت سماء بيروت صافية كأنما غسلتها الملائكة بليل، والبحر باسط صحيفته السماوية، وكنت أذرع الصالون تارة لفاً، وأخرى في خط مستقيم، وفجأة وقفت أمام النافذة أشاهد منظر البحر الجميل:
وللبحر في نفسي جمال وروعة
وذكرى وإلهام تسامت مآربه
ولم تمض دقائق حتى أطلت دراعة فرنسية، أخذت تنساب من رأس بيروت إلى المرسى، تاركة وراءها أثرها الجميل على صفحة البحر الهادي، ولا أدري كيف انتقلت من لبنان إلى الحجاز، فقلت لنفسي: لماذا لا يكون لنا أسطول كما لغيرنا من الأمم؟ ولماذا لا تكون لنا بواخر تشق بحار العالم كما لغيرها من أمم العالم؟ فجاوبتني نفسي همساً بما حيرني، وجعل الأفق يسود في نظري، وشعرت بالأرض تريد أن تميد بي، فألقيت بنفسي على إحدى الأرائك شاداً على عيني المغمضتين بذراعي، وأخذت ذاكرتي تستعرض أحوال الوطن بسرعة كما يعرض الفيلم حوادثه على الشاشة.
تلاشت تلك الأحلام اللذيذة على صوت أقدام، ففتحت عيني، فإذا أنا بشاب مصري يتثقف في لندن وأتى لبنان للإصطياف، وكان يسكن في الغرفة المجاورة لغرفتي.
ابتدرني قائلاً:
- أرجو أن لا أكون قد أزعجتك.
- قلت: عفواً تفضل. قال: مالك مضطرب البال؟ قلت: بعض ذكريات الوطن تركت ما ترى.
قال: ذكريات الوطن حلوة، وإن كان بعضها يؤلم، واتخذ مجلسه متناولاً إحدى المجلات، مقلباً صحائفها، فاستوقفه مقال بعنوان "تدهور المرأة، ومن المسؤول عنه؟ أين العلاج؟" أخذ يقرأه بصوت مسموع، وما إن انتهى حتى قال:
(ويل للإنسان من جور الإنسان)، يعيبون على المرأة تهتكها وفجورها، وَهُم الذين أوصلوها إلى ما وصلت إليه. صدقني يا عزيزي إذا قلت لك إن أسباب فساد المرأة من الرجل. أخذ الرجال يطالبون بحرية المرأة حتى إذا ما نالتها تركوا لها الحبل على الغارب فتوسعت وخلطت بين حقوقها وغيرها، ولما أن اكتوى الرجال بلهيب نار عملهم رأوا خطر جناية ما ارتكبوه من ثم أخذوا يعيبون عليها ما هي فيه قالوا أنه يجب أن يعالج.
نعم إنه داء ولكن كيف يعالج وقد أفلت الأمر من أيديهم فهل يوجد علاج؟
- قلت: لقد استفحل الداء ومن الصعب الدواء. قال: نعم من الصعب الدواء. ثم صمت يائساً ضاماً شفتيه مثلما تضم الزنبقة الذابلة أوراقها. ثم اعتدل في مجلسه وقال بصوت أجش:
- ما هي فكرتكم في المرأة؟
- قلت: ما منحه الدين الإسلامي للمرأة ساعدنا على تحقيقه، وما منعه عنها منعناه.
- قال: هل هذه فكرتك وحدك أم فكرة كل الشباب؟
- قلت: أظن أنها فكرة كل الشباب.
- قال: كم مدارس الإناث في مكة؟
- قلت: لا شيء.
- قال: إذن أنتم تحاربون فكرة تعليم المرأة.
- قلت: لا.
- قال: إذن لماذا لا تؤسسون لها مدارس؟
- قلت: لأن بعض القوم يعتقدون أن فساد المرأة يأتي من وراء تعليمها.
- قال: وهل تقرونهم على هذا الرأي؟
- قلت: إذا كان تعليم المرأة يقتصر على مبادئ الدين وترتيب المنزل وتربية الأطفال، فلا نقرهم فيما يذهبون إليه، وإذا كان تعليمها يتدرج إلى مزاحمة الرجل لتصل إلى ما وصلت إليه المرأة الأجنبية، وترتكب ما أراه وتراه من أمور لا تقبلها الضمائر ولا يقرها الوجدان فخير للمرأة الحجازية أن تبقى جاهلة إلى الأبد.
- قال: ولماذا لا يؤسسون المدارس على الطريقة التي يعتقدون صلاحها وفائدتها؟
- قلت: إن الموضوع دقيق جداً، وتحقيقه شاق إذ لا تزال العقلية الحجازية ترضخ للكثير من العادات والتقاليد المضرة، وتطور العقلية يحتاج إلى جهاد عنيف وأمد كبير، وليس المهم وجود الفكرة وإنما المهم الدقة في تنفيذها والحرص على أن تصل إلى النتيجة المفيدة دون زلة قدم. الموضوع أشبه بالهاوية، فهو يحتاج إلى تؤدة في السير وثبات في وضع القدم، وهذا ما يفكر فيه المصلحون وينوون السعي لتحقيقه فعسى أن يوفقوا.
- قال: مسكينة المرأة الحجازية!
- قلت: لماذا؟
- قال: إنها لا تعرف غير المسجد وبيت أهلها، تكاد تجزم بأنه محجور عليها، والقليل منهن اللاتي يعرفن بيوت صديقاتهن.
- قلت: ولكن في ذلك الصلاح. وإني أعرف الكثير من عقلاء المشرق والمغرب يغبط الحجاز على ذلك.
- قال: ولكن حبسها يورثها السقم.
- قلت: ليس ما تتصور حبساً، وإذا كان حبساً فذلك الحبس خير من هذا الانطلاق وما فيه من مصائب وويلات.
- قال: وهي محتقرة مهانة، ثم مع كل هذا قانعة راضية.
- قلت: أفصح.
- قال: لقد زرت الحجاز ونزلت بدار… وكان يندر اليوم الذي لا أسمع به صوت السياط يلهب به الزوج جسد زوجته وأحياناً كريمته.
- قلت: غريب جداً.
- قال: معنى هذا أنك تبرئ بعض الحجازيين من هذه العادة، لقد شهدت الأمر بنفسي.
- قلت: لا أبرئ بعض الحجازيين من هذه العادة، وإنما أؤكد لك أن وقوع ذلك لا يكون إلا نادراً.
- قال: إن المرأة العربية لديكم فاضلة مؤدبة فيجب أن تجد ممن يعولها الرقة والإحسان، إن المرأة العربية من أحسن النساء في العالم، نشأت على حسن الأخلاق، وهي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها كما تدافع أختها في غير الحجاز، كل هذا يقضي بأن تحافظوا عليها، وتحسنوا رعايتها؟ إن المرأة لديكم جوهرة ثمينة، فإذا كنتم لا تحافظون على هذه الجوهرة لمصلحتها، فحافظوا عليها لمصلحتكم. إن المرأة لديكم لا تخون زوجها، فيجب أن لا يخونها زوجها، إن المرأة لديكم لا تقاوم أباها، ولا تشاتم أخاها فيجب أن لا تقاوموها ولا تشاتموها، إن المرأة لديكم تحترم الرجل، فيجب أن يحترمها الرجل. إن المرأة أمانة في عنق الرجل فيجب أن يحافظ الرجل على هذه الأمانة.
كنت أصغي لما يقول، وأقارن بين المرأة في هذا الوطن العزيز، وبين ما رأيته من المرأة الأجنبية فيترقرق الدمع في عيني عطفاً وحناناً على المرأة في هذا الوطن، وفرحاً وسروراً بنعمة المرأة التي تنعم بها.
ساد السكون برهة ثم قال: ما رأيكم في سفور المرأة؟
- قلت: نقاومه بشدة.
- قال: لأي شيء؟
- قلت: لأنه مدعاة للفسق والفجور، ومبدأ للفساد.
- قال: نعم السفور مبدأ للفساد، لقد انتقل السفور من الوجوه إلى الصدور وما تحت الصدور إلى الأقدام فخير لحجازكم أن يبقى على حجابه، ولكن ما رأي المرأة الحجازية نفسها في السفور؟
- قلت: طبيعة نشأتها وتربيتها وبيئتها كل هذا قضى بأن تكره السفور وتحتقره. وإني أؤكد لكم أن الكثيرات من نساء الحجاز يتألمن حين يشاهدن رسوم النساء السافرات في الصحف.
- قال: إن المرأة الحجازية نعمة من الله فحافظوا على هذه النعمة، برعايتها، وعلموها كيف ترتب منزلها، وكيف تربي أطفالها، وثق بأن المرأة التي تهز سرير الطفل بيمينها تهز العالم بشمالها.
مكة المكرمة: أبو عبد المقصود
جريدة "صوت الحجاز" العدد 293
الثلاثاء 1 ذو الحجة 1356هـ
الموافق 1 فبراير 1938م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :646  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 64 من 122
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالله بلخير

[شاعر الأصالة.. والملاحم العربية والإسلامية: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج