صرخة من أعماق الفؤاد |
في العدد 607 من جريدة (أم القرى) الصادر يوم الجمعة 5 جمادى الأولى سنة 1355هـ كتب محمد سعيد عبد المقصود –تحت توقيع (متألم)– ما وعد به في مقاله السابق. وكان المقال بعنوان (صرخة من أعماق الفؤاد). |
- تحدث فيه عن رسالة الأديب تجاه أمته ووطنه، وكشف عن واقع الأدب في الحجاز، وتقاعس بعض أدبائه عن أداء ما توجبه رسالة القلم. ولم يتردد في الإعلان عن هذه الحالة بكل صراحة: (إن الأدباء هم منقذو الإنسانية ومرشدوها. فما بال أدبائنا عن واجباتهم معرضين، وللاستكانة والانزواء مستسلمين؟!). |
وجاء هذا المقال على النحو التالي: |
(الأدب الحي دليل الإحساس والشعور، وهو إحدى صور الحياة الصادقة، يعبر في صدق وأمانة عن الحياة وظروفها وملابساتها، وهو أثر من الآثار التاريخية، كثيراً ما أزاح اللثام عن الصبغات التي صبغت بها حياة بعض العصور. وهو يسير مع الحياة فيتطور بتطورها، ومع الأمم فيعلو بعلوها وينحدر بانحدارها، وكثيراً ما ينطبع بطابعها في شتى مناحيها المتعددة المتلونة. |
الأدب فن وابتكار يفيض على الحياة من روعته وجلاله ما يكسب الحياة قوة وَجِدَة. وهو من اللوازمات الضرورية للأمم. |
وُجد الأدب ليغذي النفوس بروعة فنه، وجلال تصويره، وصدق إحساسه، وجمال مناظره، وقوة جاذبيته. |
وُجد الأدب ليصور الحياة، كما تشاء ملابسات الحياة وظروفها، فهو ترجمانها الصادق ورسولها الأمين، فإذا ما اعتراه التشويه والتلفيق أصبح مهزلة من مهازل الحياة، وبلية على الأمة والمجتمع. |
وُجد الأدب ليصور الحقيقة والجمال، ليصور البؤس والألم، ليصور الفضيلة والرذيلة، ليصور مناحي الحياة المختلفة تصويراً صادقاً، وليفيض على الإنسانية من نوره وجلاله ما يهذب الطباع الخشنة، والقلوب الفظة الغليظة فتتجه نحو الكمال. |
وإذا كان هذا الأدب، فما الأديب إلا حامل مشعل النور ومنقذ الإنسانية من ويلات الحياة، يتعشق الفضيلة فيصورها ملاكاً ظاهراً، ويستقبح الرذيلة فيصورها شيطاناً مريداً. يتأمل الطبيعة فيرى في جمالها الفن الخالد، والحكمة السامية، ويستوحي الحياة فيقرأ في سطورها روعة الفن وجلال التصوير، وجمال المنظر، ثم يعمد إلى قلمه فيسجل تأملاته ووحيه في فن وإبداع. |
وُجد الأدب ليكون من أدبه سراجاً وهاجاً، يسترشد بنوره المسترشدون، ويهتدي بحكمه المهتدون. |
وُجد الأدب ليتتبع أدواء أمته فيصورها في صورها الشيطانية المفزعة ثم يعالجها في حكمة وروية. ووُجد الأدباء ليشدوا عضد بعضهم بعضاً فيؤدوا أمانتهم متكاتفين متحدين ويعملوا على تقوية الرابطة الأدبية بينهم ويتعاونوا على أداء مهمتهم بأمانة وإخلاص. وأدب جميع الأمم وإن اختلفت طرائقه وتعددت مذاهبه مهمته واحدة). |
أراد الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود بهذه المقدمة أن تكون إيضاحاً بيناً عن الأدب ومهمته في الحياة، والأديب وما يمكن أن يؤديه من أدوار هامة في مجتمعه، يكون لها التأثير الإيجابي في تطور مناحي الحياة نحو الأفضل. |
ثم يبدأ الحديث عن أدب أمته (في الحجاز) ليطلق بعد ذلك "صرخة من أعماق الفؤاد": .. (وما الأدب الحجازي إلا أدب من آداب الأمم الأخرى، ومهمته مثل غيره من مهمات آداب الأمم الأخرى. وإذا كانت الظروف الماضية قضت على الحجاز بأن يتدهور أدبه بتدهور وضعياته
(1)
، فالظروف الحاضرة تقتضي بأن يرتقي أدبه لأن وضعياته ارتقت فاختلفت عن تلك الوضعيات الممقوتة. |
إن الأدب الحجازي اليوم خطا خطوة حسنة، وتطور بقدر ما دخل على الحياة الحجازية من تطور، وتأثر بكثير من المؤثرات، وتحلل من بعض القيود التي تقيد بها في إبان ظهوره، وقضى على بعض الصبغات المتلونة المتعددة التي كان الأدب راسخاً تحت نيرها؛ إلا أنه مع كل هذا فقد جنح مؤخراً للركود والسكون، فاختفت أقلام قوية وراء المكاتب وأصبحنا لا نسمع لصريرها همساً، فهي إما وأن تحبر في خفاء ثم تمزق ما حبرته أو تحفظ في أدراج المكاتب وبين طيات الإضبارات، وأما وأنها خلدت للسكون لأن العواصف التي تثور زوابعها من حين لآخر لم ترقها ففضلت العزلة. وهذا في تحليله يؤيد أن حياتنا الأدبية لم تتضح تماماً بعد؛ وأن وطنيتنا لم تنضج تماماً بعد أيضاً، فحياتنا الأدبية لم تنضج تماماً بعد لأنها لا تزال تسير في جو تتخلله الأهواء والأغراض. لا جامعة تجمعها ولا قائد يقودها، فهي مائجة مضطربة مفككة الأوصال، متباينة النزاعات، مختلفة الغايات، وقد أثر هذا في وحدتنا الأدبية فجزأها. |
كل هذا دل على أن رابطتنا الأدبية لم تتضح تماماً بعد. وأنها لا تزال في أشد الحاجة لمن يأخذ بزمامها، ويرسم لها خطة مثلى ينقذها بها من الأخطار التي تهددها، وتحيط بها، لتسير متماسكة قوية.. أما أن وطنيتنا لم تتضح تماماً بعد فلأن قبولنا لمثل هذه الوضعيات الشاذة، وعدم حشو الهمم لمقاومتها، وعدم السعي لتسيطر على المواقف، وفض بعض أدبائنا أيديهم من قضية الأدب الحجازي، وعدم ثباتنا في المواقف، وتسرب الخوف إلى قلوبنا، وفقدان الجرأة الأدبية، كل هذا في مجموعه دل على أن وطنيتنا لم تتضح تماماً بعد، وأننا لا نزال نحتاج لمن يوقظ فينا هذه الروح ويوجهها ناحية تفيد الأمة والوطن. |
إن حياتنا الأدبية لا تنضج ما دامت الرابطة الأدبية في بلادنا مفككة الأوصال، وما دام الأدباء أنفسهم عنها معرضين. وأن أدبنا الحجازي لا ينضج ما دام حملة الأقلام في بلادنا يفضلون الاستكانة والانزواء بدل العمل والظهور في المواقف. |
إن الله لم يهب نعمة الأدب للأدباء ليبخلوا بها على أمتهم، ويحرموا مواطنيهم ثمرتها. إن الأدباء هم منقذو الإنسانية ومرشدوها، فما بال أدبائنا عن واجباتهم معرضين، وللاستكانة والانزواء مستسلمين. إننا نناشدهم الوطنية والمصلحة العامة –إن كانوا للوطنية والمصلحة العامة من المؤمنين– لإرواء النفوس المتعطشة، وتغذية النفوس الضعيفة. |
يجب أن نتمثل الماضي بصوره المفزعة المرعبة، وننهج منهجاً يصل بنا إلى ما نرنو إليه. أم تكفنا آلام الماضي؟ ألم تؤثر فينا حوادثه المفجعة، ألم يأن لنا أن نترك الجمود. ونعرف أن للوطن علينا حقوقاً يجب أن تؤدى كاملة، وأن للأمة على المثقفين واجبات يجب أن توفى لها؟ .. إن حملة الأقلام في بلادنا عليهم واجبات تغافلوا عنها، واستمرارهم على ذلك لطخة سوداء، في تاريخ حياتنا. إننا نهيب بهم عن هذه الاستكانة وندعوهم لتوحيد صفوفهم وسن رؤوس أقلامهم، وخوض غمار الحياة في جرأة وعزم، فيعالجون شؤوننا في حكمة وروية وإخلاص). |
|