شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
دار الندوة وما طرأ عليها في أدوارها التاريخية (6)
كيف نشأ المقام الحنفي؟
في سنة 801هـ بني المقام الحنفي على أربع أساطين من الحجارة من فوقها سقف مدهون مزخرف، وقد كان تقي الدين الفاسي من المعاصرين لها، وقد أشار في كتابه (شفاء الغرام) إلى المعركة القضائية الحامية التي دارت حول هذه البناية في سعة وبسطة، وملخصه أن العلماء أنكروا بنايته، وأفتوا بهدمه، وتعزير القائل بها، وكادت تنفذ تلك الفتاوي فلعبت الوساطة دورها، فلم يهدم. وفي سنة 836هـ عملت له قبة، وذكر القطبي أنه في سنة 933هـ حج الأمير مصلح الدين الرومي، فعقد بمكة مجلساً قضائياً من قضاة الأئمة الأربع وقال لهم: "إن الإمام الأعظم أبا حنيفة جدير بأن يكون له في هذا المسجد الحرام مقام يجتمع فيه أهل مذهبه ومقلدوه يكون أوسع من هذا المقام، فأنكر بعض القضاة قوله وقالوا: "إن عظم الأئمة وفضلهم واحد، وأشاروا إلى المعركة القديمة التي حصلت حينما أنشىء" وانفض المجلس على غير اتفاق، ولكن العصبية المذهبية لم تقف عند ذلك الحد، بل لعبت دورها فذكر القاضي بديع الزمان بن الضياء الحنفي للأمير مصلح أن جده القاضي أبا الضياء أفتى بجواز ذلك، فاعتمد الأمير مصلح على هذه الرواية وشرع في إتمام ما قصده، ولقد وصف ابن ظهيرة شكل تلك البناية فقال: "جعل له قبة كبيرة شامخة على أربع بتر عراض جداً بأربع عقود إلى أن قال: وزاد في طوله وعرضه وأراد إيصاله بالمطاف، فعرف أن ذلك يؤدي إلى قطع الصف الأول الذي يصلي خلف إمام الشافعية، فاقتصر وانتهى بمحرابه الى حاشية المطاف".
وفي سنة 949هـ، ولي على جده الأمير كلدي فهدم القبة والمقام وبناه على شكل يكاد ينطبق على الشكل الحاضر، وفي سنة 1072هـ جدد عمارته السلطان محمد كزلار الأغا، وفي سنة 1282هـ جددها السلطان عبد العزيز بالشكل الماثل أمام أعيننا.
هذا مجمل تاريخ المقام الحنفي كما عرفته مصادرنا في تحقيقنا عن دار الندوة، وهي تنطبق تمام الانطباق لقول المعارضين، ومن هذه الفقرة نستطيع أن ندلل على كيفية نشوء هذه الفكرة القائلة بأن مكان المقام الحنفي هو مكان دار الندوة.
كيف نشأت هذه الفكرة؟
مما تقدم نلاحظ ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: أن الأصل في إقامة هذا المقام التعصب المذهبي لا أكثر ولا أقل وإلا فما معنى أن ترفع قواعد المقام الحنفي بشكل يفوق مقامات الأئمة الآخر؟ وما الداعي إلى أن يعطل مرسوم الهدم لما أفتى العلماء بذلك، وما الموجب لأن يقول الأمير مصلح مقالته وأن يجيبه العلماء بتلك الإجابة؟ لولا التعصب المذهبي لما كان كل ذلك؛ هذه حقيقة يجب أن تسجل، ويجب أن نؤمن بها إلى ابعد حدود الإيمان.
والنقطة الثانية: أن مكان المقام كان خالياً - وإلا فما الداعي لإفتاء العلماء بهدمه وإزالته، وتعزير من قال بجواز بنائه وقد ثبت تاريخنا أن دار الندوة عملت مسجداً مستقلاً في أواخر القرن الثالث ثم ألحقت بالمسجد في أوائل القرن الرابع الهجري؟ وما معنى إسهاب الفاسي في وصف النزاع الذي قام بين العلماء من أجل ذلك، وهو من المعاصرين لذلك الحادث والقائلين بأن مكان دار الندوة هي الزيادة؟ وما معنى أن المؤرخين الذين نقلوا حوادث نزاع المقام الحنفي لم يقولوا بأن مكانه هو موضع دار الندوة ثم مسجدها؟
ولماذا احتج المعارضون على فكرة الإنشاء بإشغال الأرض بما لا فائدة منه؟ ولماذا لم ينقل عن المؤرخين المتقدمين شيء يدل على أن دار الندوة تقع في جهة يمكن أن تفسر وتحدد بالجهة القائم فيها المكان الحنفي؟ لولا أن مكان المقام الحنفي كان خالياً وأرضاً بيضاء لما اعترض المعترضون، ولما صمت المؤرخون المتقدمون. يجب أن نحكم العقل في ذلك. ثم لقد روى أكثر أصحاب السير أن عير قريش الآتية من الشام والتي بسببها وقعت غزوة بدر الكبرى أدخلت في دار الندوة، وأن تلك العير التي اختلف الرواة في عَدَدِها وعُدَدِها، مهما ضعفت وقلّت لا يمكن أن تحشر في دار يكون مقاسها بمقاس المقام الحنفي.
والنقطة الثالثة: أن هذا الحدث ترك في القلوب أثراً سيئاً؛ وإلا فما الداعي لأن يضج العلماء ويؤلفون الرسائل ويتطاحنون في أمر بسيط؟ إن ذلك لم يحدث إلا من تأثرهم، وإذا عرفنا أن العلماء أبعد النفوذ في كل شيء، وأن في يدهم دون غيرهم مقاليد الحكم والأعمال، وإذا فهمنا أن الحالة الاجتماعية كانت يومئذ متضعضعة أيما تضعضع، وأن السلطة كانت للقوي دون سواه، إذا عرفنا ذلك وفهمنا هذا، أدركنا أن مثل تأثر العلماء لا بد وأن يتسرب إلى طبقة العامة فتتأثر هي بدورها تحت عامل الدين، وبالأخص والمسألة دينية أكثر منها اجتماعية، ولما رغبت السلطة الحاكمة في تنفيذ إنشاء هذه البناية لم تر بداً من نشر الدعاية الواسعة لها، وبالأخص فإن معارضيها متسلحون بسلاح الدين، وهو من أعظم الأسلحة، تحت هذه التأثيرات وعواملها نشأت أقوال القائلين بأن دار الندوة كانت بمكان المقام الحنفي، واتخذوا من أدوارها التي مرت سلاحاً يدافعون به، وكانت أبواق مناديهم لها من القوة ما ليس لمعارضيهم، فلاكتها الألسن، وبمرور الزمن ضاعت الصبغة التي صبغت لها هذه الدعاية، فأخذها الخلف كأنها حقيقة، ورواها بعضهم لبعض، وزاد ايمان الناس بها كون تواريخ مكة خطية صعبة المنال، أضف إلى ذلك جمود الحركة الأدبية وموتها. كل هذه العوامل كانت من الأسباب القوية لتحوير الحقيقة؛ ولما أتى المؤرخون المتأخرون، وسمعوا بأقوال العامة لم يروا بُدًّا من تدوينها وقد عملوا ذلك من غير مناقشة ولا تمحيص، ولما كانت أمانة التاريخ يجب أن تؤدى فقد قال الطبري: "قيل أن دار الندوة محل الزيادة، وقيل محل المقام الحنفي "ذكر القولين بدون ما تدليل على مصدره فيهما، ونميل إلى أنه أول من شكك في مكان دار الندوة من مؤرخي مكة، ولكن لم تكن مثل هذه العوامل، وهذه الأقاويل بالأشياء التي يجب أن تغير وجه الحقائق.
وإنا نؤكد أن دار الندوة تبدأ من وسط صحن المطاف وتنتهي عند درج باب الزيادة. لعلّنا نكون قد وفقنا ولو بعض التوفيق لإظهار حقيقة نسج الباطل عليها ثوباً كثيفاً تحت عوامل العصبية المذهبية، ونود أن يتفضل كل من لديه حقائق غير هذه فيدلي بها خدمة للحقائق والتاريخ، وإنا له من الشاكرين.
مكة: ابن عبد المقصود
جريدة "صوت الحجاز" العدد:160
الثلاثاء 9 ربيع الأول سنة 1354هـ
الموافق 11 يونيو سنة 1935م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :604  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 28 من 122
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الغربال، قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه: 1999]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج