دار الندوة وما طرأ عليها في أدوارها التاريخية (2) |
بناء دار الندوة |
وأنشأ داراً لإزاحة الظلمات وفصل الخصومات، فكانت أول دار بنيت في مكة هي دار الندوة، وسميت بدار الندوة لاجتماع النداة فيها يندونها أي يجلسون فيها لإبرام أمرهم وتشاورهم، وفي كتب اللغة لفظة الندوة مأخوذة من الندى والنادي والمنتدى، وهو مجلس القوم الذين يندون حوله أي يذهبون قريباً منه ثم يرجعون، وبدار الندوة كانت تعقد الاجتماعات العامة للنظر في الأمور المعضلة، وكانت ألوية الحرب لا تعقد إلاّ فيها؛ وكانت عقود النكاح لا تتم إلاّ فيها، وكانت حرية الرأي محترمة للغاية وقراراتها تصدر بالأكثرية وسارية المفعول والحقيقة أن مهمة دار الندوة كانت أشبه بالمجالس البرلمانية في الوقت الحاضر. |
وقد كان لدار الندوة نظام خاص بأن السن القانونية لعضويتها لا تقل عن أربعين سنة وعلى أن يكونوا من قريش وحلفائهم، وأن لجميع ولد قصي حق الدخول والاشتراك في المباحثات وإن كانت سنهم أقل من الأربعين. |
التطور الاجتماعي في مكة: |
من الأشياء البارزة التي عقبت إنشاء دار الندوة؛ التطور الاجتماعي الذي حدث في مكة فإنه لم يكد ينتهي قصي من بناية دارة الندوة، ويذيع خبرها حتى أقبلت قريش على البناء، يقول ابن الأثير: "فقسم قصي مكة أرباعاً بين قومه فبنوا المساكن واستأذنوه في قطع الشجر فمنعهم، فبنوا والشجر في منازلهم ثم أنهم قطعوه بعد موته". |
فهذا التطور الذي حدث هو أن بعض الأشياء التي كان يرمي إليها قصي لتثبيت ملكه وتدعيمه من جهة، وليخرج بقومه من البدو إلى الحضر من جهة أخرى، وقد تم ذلك فأصبحت مكة من أواسط القرن الخامس الميلادي وما بعده من أهم المراكز التجارية في جزيرة العرب، وأصبح أهلها لا يفكرون إلا في التجارة، ولا هم لهم إلا السعي إلى استحصال المال واستثماره بجميع أنواع الاستثمارات وإن قوله تعالى: وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أّوْ لَهْواً انفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً لدليل على عظم اهتمام الحجازيين بالتجارة. |
نظام وراثة ملك مكة: |
كان قصي يعمل لجعل الملك في ولده ولذلك قبض على الأمر بيد قوية وساس القبائل سياسة حكيمة فأطاعته عن رغبة لا عن رهبة، وأوكلوا أمرهم إليه وعظموه حتى بلغ من أمر تعظيمهم له ومحبتهم فيه أنهم كانوا يزورون قبره ويعظمونه بعد وفاته، فتلك السياسة جعلت قصياً مطمئناً بعدم قيام ثورة داخلية لسلب ولده الملك، وإنما الذي كان يخافه، نشوب الفتنة بين أولاده بعد وفاته على الملك، ولذلك قسم مناصب مكة الستة بين ولديه، فجعل لعبد الدار السدانة ودار الندوة واللواء، وجعل لعبد مناف السقاية والرفادة والقيادة، فكان عمله هذا أشبه شيء بسن نظام الوراثة للملك، وهو أول ملك حجازي عهد بالملك لأبنائه في حياته، وقد كاد يقع بعد وفاة قصي ما كان يتخوف منه، وتحزبت القبائل للقتال، لولا أن تدارك رؤساء القوم الأمر واحتكموا، وكانت النتيجة إقرار عمل قصي، احتراماً لقصي. |
شكل الحكومة بعد قصي: |
إن التشكيل الحكومي الذي عقب قصي يكون تشكيلاً جمهورياً إذ قسمت السلطة الحكومية إلى أقسام متعددة، وكان كل قسم منها رياسة مستقلة بذاتها، وبتوالي الأيام وتشعب ولد قصي قضى بإحداث مناصب جديدة حتى بلغت قبيل الإسلام خمسة عشر منصباً، وهذا يعطينا دليلاً على التخوف الذي كان يعتور سلطة مكة من نشوب الثورة في أرض الحرم، كما أنه يعطينا دليلاً على التحاسد والتباغض بين الهواشم والأمويين، وقد ظهر هذا العراك عند ظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضح أكثر بعد اغتيال سيدنا عثمان، واتخاذ الأمويين من المطالبة بدمه طريقاً للملك فتم لهم النصر وأسندت لهم الخلافة وبقي النزاع قائماً إلى أن قضي عليه ولد معاوية بشتى الوسائل والطرق . |
وبالرغم من أن التشكيلات الحكومية التي عقبت حكومة قصي كانت على جانب لا بأس به من الأبهة والإبداع؛ إلا أن الضعف السياسي كان شديداً، نعرف هذا جيداً من حادثة الأحباش لما أرادوا غزو مكة وهدم الكعبة وكيف تخاذلت قريش عن مصادمتهم، وتركوا الكعبة ليحميها ربها فحماها. |
ثم لم تشأ قريش أن تترك تلك الحكمة الإلهية تمر بدون استغلالها فاستغلتها وكانت النتيجة أن زاد احترام العرب للحرم وأهل الحرم، وبهذا قويت نفوذ قريش الأدبي حتى ظهور الإسلام . |
توارث دار الندوة: |
تحول منصب دار الندوة مع السدانة واللواء بعد وفاء قصي إلى ابنه عبد الدار، وبعد وفاته صارت دار الندوة بوصاية منه إلى ابنه عبد مناف، وبعد وفاته صارت إلى ابنه هاشم ثم إلى ابنيه عمير وعامر؛ وكان عامر هذا يسمى محيضاً لأن الجارية كانت إذا حاضت (بلغت الحلم) أدخلت دار الندوة فيشق عليها درعها ثم يدرعها إياه فينقلب بها أهلها فيحجبونها. "يتبع ". |
|
|
|
الثلاثاء 26 محرم سنة 1354هـ |
|
|
الموافق 30 إبريل سنة 1935م |
|
|