شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المياه بمكة في أدوارها التاريخية (9)
الشدة التي كان يلاقيها أهل مكة:
للسيول أضرار كبيرة على مجاري العيون التي تصل مكة، وهذا يرجع لكون مجاري العيون تقع في طريق السيول، وقد قضت الضرورة الطبيعية بهذا الوضع، وقد عملت بعض سدود وعقمان لرد هجمات السيول التي تهدد المجاري من حين إلى آخر، إلا أنها ليست من القوة والمتانة بحيث تصادم سيول تلك الوديان، فهي أشبه باتقاء مؤقت ولهذا كانت أضرار السيول سلسلة متصلة حلقاتها ببعض، وقد بقيت وستبقى تهدد مجاري العيون إن لم يوضع لها حد فاصل.
وأمر كهذا كانت تلاقي منه الأمة الأمرين، ويخجلني أن أقول أن بعض من مصلحتهم الشخصية أعمتهم عن كل شيء كانوا يستغلون مثل تلك الفرص فيحتكرون المياه لجمع الثروة من ورائها، وربما سعوا بأنفسهم فأحدثوا في المجاري خللاً من الصعب تداركه في مدة يسيرة. زد على ذلك أن الخمول والجمود والاستكانة وحب الاتكال على الغير - الذي كان مستولي على هذا الوطن العزيز - كان له أثر قوي في استمرار الحالة بشكل بعيد عن العدل والإنصاف والعطف إن كان بالوطني الفقير أو بالوافدين يؤلمني ويخجلني معاً أن أنقل ما ذكره صاحب إتحاف فضلاء الزمن عن مساعي الوزراء لدى الأمراء والأشراف في هذا الوطن الذي لا زال يئن من شرهم إذ هو يقول في حوادث سنة 825 ما يلي: "وفي هذه السنة حصل بعض خراب في عين عرفة فأشار سيدي الشيخ عمر العرابي نفعنا الله به على الشريف حسين بعمارة ذلك فأعطاه لذلك خمسين ألف درهم وصرفها في ذلك فخلصت ولم توف العمارة فعرف الشريف فزاده خمسين ألف أيضاً وأقام على ذلك الصرف نائبه جابر الحراشي، فقال له الحراشي ملوك الآفاق أقوى منك وإذا علم بذلك صاحب مصر نسبك إلى كثرة الأموال وطمع فيك فاستعاد الدراهم فأرسل يقول له الشيخ العرابي إن لم توف لنا وإلا أجمع من أهل الخير ما أتم به عمارتها فأجابه الشريف بأن غيرنا أقوى منا". يفعل هذا أمير مكة ويصغي لقول نائبه، ولم يهتم لهذا الوطن ومن فيه في الوقت الذي كان يتقاضى رسماً من الفواكه والخضر يقدر بخمسمائة ألف قرش فضة، إنها لحادثة مخجلة، وذكرها أخجل منها، ولكن ما العمل وهي حقيقة لا مناص من سردها وليس من العدل ولا من الإنصاف إخفاؤها، وعدم إلقاء التبعة على أصحابها.
قلنا إن للسيول أضراراً كثيرة وإن انقطاع المياه كان كثير الحدوث بسببها، وإن سكان مكة كانوا يلاقون الصعاب من جراء ذلك، يقول القطبي: ".. قطعت العيون وتهدمت قنواتها، وانقطعت عين حنين عن مكة المشرفة وصار أهل البلاد يستقون من آبار حول مكة ومن آبار يقال لها العسيلات في أعلى مكة قريب من المنحنى (1) ومن آبار في أسفل مكة قريب من مكان يقال له الزاهر ويسمى الآن الجوخي في طريق التنعيم (2) وكان الماء غالياً وقليل الوجود وكذلك انقطعت عين عرفات وتهدمت قنواتها وكان الحجاج يحملون الماء إلى عرفات من الأمكنة البعيدة، وصار فقراء الحجاج يوم عرفة لا يطلبون شيئاً غير الماء لعزته، ولا يطلبون الزاد وربما جلبه بعض الأقوياء من الأماكن البعيدة للبيع فيحصلون أموالاً من ذلك لغلو ثمنه. وإني أذكر أن في سنة 930 قل الماء في الآبار البعيدة فارتفع سعر الماء جداً في يوم عرفة وكنت يومئذ مراهقاً في خدمة والدي رحمه الله تعالى، وفرغ الماء الذي كنا حملناه من مكة إلى عرفات وعطش أهلنا، فطلبت قليلاً من الماء للشرب، فاشتريت قربة صغيرة جداً يحملها الإنسان بإصبعه بدينار ذهب، والفقراء يصيحون من العطش يطلبون من الماء ما يبل حلوقهم في ذلك اليوم الشريف، فشرب أهلنا بعض تلك القربة، وتصدقوا بباقيه على بعض من كان مضطراً من الفقراء وعطشنا عقبه وجاء وقت الوقوف الشريف والناس عطاشاً يلهثون فأمطرت السماء وسالت السيول من فضل الله تعالى ورحمته".
ويقول صاحب الأرج المسكي: "فإن أهل مكة في هذه الأزمان يلاقون شدة في بعض أشهر السنة لانقطاع العين عن مكة، فطالما شهدت الحراير يخرجن بالليل وعلى كتف كل واحدة دورق لجعل الماء فيه إن حصل، وطالما رأيت الصغار في البيوت يبكون من العطش، واتفق لي أني كنت ليلة بعد صلاة العشاء بالمسجد الحرام وكان الماء إذ ذاك منقطعاً عن البلدة لضعف العين؛ فرأيت النساء والصغار على باب بئر زمزم بقصد الاستقاء وقد أغلقت، فحصلت لي حالة عظيمة من التبعة والمشقة عليهم، فصحت ببواب البئر، وقلت له حرام عليك أغلقها فإن استمريت على ذلك أفتيت بفسقك، وكان بجانبي جماعة من أهل مكة فأقاموا الضجيج عليه ففتحها فدخل الناس واستقوا منها".
فهاتان الروايتان اللتان نقلناهما عن القطبي والمكي - وصاحب الأولى من أهل القرن العاشر وصاحب الثانية من أهل القرن الحادي عشر أعطتنا مثالاً واضحاً عما كان يلاقيه أهل مكة ووفود بيت الله من الشدة في الحصول على الماء. وإنه لوصف يدمي القلوب ويقطع الكبود، هذه هي حالة الوطن العزيز في ذلك الوقت الذي كانت فيه وارداته نهباً مقسماً تتخاطفها الأيدي وتلتهمها الأفواه وبنوه ومشاريع بلادهم محرومون منها، ولا أدري هل تبعة تلك الفوضى وذاك التعذيب تلقى على من؟ هل تلقى على مواطنينا؟ أم على أمراء مكة؟ أم على الجهة التي كانت تشرف على هذه البلاد، أم على الكل بصفتهم شركاء في المسؤولية، لا أدري ففي ذمة التاريخ العادل المنصف ما لقيه هذا الوطن من إرهاق وهضم في الحقوق.
"للبحث صلة"
(ابن عبد المقصود)
جريدة (أم القرى): العدد: 530
26 شوال سنة 1353هـ
الموافق 1 فبراير سنة 1935م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :824  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 122
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.