كيف كان الحج قبل خمسين سنة
(1)
|
حمداً وشكراً لله العلي القدير- فما أعظم الفوارق بين أوضاع الحج - الراهنة.. وما أحاط به من حفاوة ورفاهية، وتكريم، وما أتاحه لضيوفه من أسباب الراحة والاطمئنان في الحل والترحال.. وفي كل وسائل البهجة والغبطة والرعاية والحماية.. وبين ما كان يعانيه الحجاج من كل جنس ولون وأقليم.. منذ أن تطأ أقدامهم ميناء جدة أو ينبع إلى أن يغادروها بعد أداء الفريضة.. واحتمال المشقات وبذل النفقات الباهظة.. مع الأرواح الغالية بين الحرمين الشريفين! أحياناً كثيرة... |
فأول ما كان يلقاه الحاج - عند نزوله من البواخر إلى الرصيف.. الأعنات الكبير في ركوب الزوارق الخشبية أو السنابيك.. وتكديسه بين الأمتعة التي تكتظ بها وسائط. النقل بشكل لا يتلائم مع كرامة الإنسان لكأنه أحد الطرود المطروحة المهملة، عدا ما يطرق سمعه من القذف والشتم والإزعاج.. وما يبتز منه من الدراهم.. ويضيع عليه من (متاعه) - وحوائجه.. ولا يجد من يسعفه أو ينصفه ممن لا يبالون به رضى أم سخط؟! وصاح أو ناح.. |
وما ينتظره بعد وصوله أشد وأنكى.. فإنه يهمل ويترك تحت أشعة الشمس الحارقة.. ولا وزن له ولا قدر إلا بقدر ما تسمح به نفسه من (البخاشيش) أو الهبات.. على قاعدة (أدهن السير يسير).. وإلا فإنه ومن معه من أهله، وأطفاله عرضة لكل إهانة وإهمال.. أينما سار وحيثما ارتحل. |
ويركب من الميناء إلى المنازل على (عربات الكارو).. تماماً كالطرود.. ويقضي في ذلك الساعات الطوال.. فإذا ألقى عصاه شرب من الماء المالح الاجاج وأكل من كل ما دب ودرج.. وانضم إلى غيره من أمثاله في غرف يكونون فيها شبه "علبة السردين"... |
وما أشد كربه وبلائه.. إذا قصد الركوب إلى مكة المكرمة.. فإنه يلاقي الأمرين وخلف المواعيد.. ويتصبب عرقه.. حتى يركب.. وماذا يركب؟ "الشقدف" أو الشبرية.. أو التقم. |
ويقضي في الطريق يومين وليلتين - نابغتين - يتحمل خلالهما الشظف والقرف والأسف! ويصل بعد أن تبلغ روحه التراقي، وما أقسى وأفظع ما يصادفه من البلاء.. وإذا سلم من (العدوات) في الطريق.. أخذ بيده شاء أم أبى.. إلى.. إلى مسكن ضيق يتكدس فيه مع العشرات أو المئات من أخوانه.. على فراش من (الخسف).. ويبحث عن الماء ليغتسل فلا يجده إلا بشق الأنفس.. فأما ما يشربه.. فإنه غالباً ما يكون من الآبار المالحة.. وقد امتزج بالعكر.. والقذر.. ورتع فيه الدود وركد معه الطحلب.. وكأنه ماء (الدغيبج)!. |
وقد لا يدري القارئ ما هو (الدغيبج).. فأخبره إنه ماء آسن راكد.. بين (ينبع وأملج).. وقد اضطررت مرة إلى احتسائه مع بعض الرفاق.. فكان عندنا مضرب المثل في (النتانة).. والعفن ولا أشك أنه صالح كمنبع - لاستخراج "البنسلين" من سطحه أو عمقه.. إذا كان كما قالوا.. إنه لا يستخرج إلا من (العفن).. وكانت كذلك موارد الحاج ومناهله عبر الطريق التي يمر بها من كل الجهات، ولا يحصل عليه الحاج إلا بأثمان باهظة. |
ولا يحتاج القارئ إلى تذكيره بما في ركوب الشقادف والشباري من تعرض للسقوط.. ومن هياج الجمال و (برطعتها).. ما لم تتعود على الأحمال. فقد كانت في الغالب من (القعدان) - جمع قعود -.. وكم تمردت؟.. وعربدت.. وألقت بركابها.. مهشمي الأضلاع؟ دون اكتراث بهم أو أقل اهتمام. |
وكذلك الحال عند الصعود إلى (عرفات).. فإن شدة الازدحام - وتعدد (القطر) - وضيق الطرق.. كل ذلك - بعض ما يمنى به الحجاج.. ولا سيما بين (المأزفين) - ويسمونها للناس (الأخشبين) خطأ فإن الأخاشب (بمكة المكرمة) وفي مغرب وعشاء يوم (النفرة).. من عرفات.. فما أزال أتمثل بتلك المشاكل المتداخلة.. والأصوات المتواصلة.. والمشقات التي لا نـهاية لـها.. حين الشـد والانطـلاق إلى (المزدلفة) ثم إلى (منى).. بالإضافة إلى ما كان يصحب ذلك من ضجيج وعجيج.. واعتماد الأقوياء على زنودهم وسواعدهم - وعصيهم - وشماريخهم.. بل وأسلحتهم أحياناً من الخناجر والسكاكين و (الجنابى)- و (الجرد).. والويل للضعيف! وبصورة أوضح.. فإنما كان المرور عبارة عن هجوم.. متعاكس.. متشاكس.. لا يسلم منه إلا من - تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأشياعه الذين لم يقرؤا قوله تعالى فَمَن فَرَضَ فِيِهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ في الْحَجِّ. |
وكان من العوائد المفظعة - حين النفرة - أن يطلق (البدو) والخدم، وغيرهم من الجهلة.. الرصاص من جميع أطراف الموقف.. وجوانبه.. كما لو كانت هنالك حرب ضروس بين (عصابات) من البشر.. فلا يأمن الحاج من إصابته بالشظايا.. إن كتبت له السلامة من (المنايا). |
ويستمر ذلك بعد النفرة وبالإضافة إلى (مزدلفة) وأثناء الإقامة بها.. وحين النزول إلى (منى).. بزعم أن ذلك ترهيب للصوص.. واستعداد للدفاع وآخرون يظنون أن ذلك إعلان للفرح بالوقوف والغفران.. وما هو إلا الاستهتار.. وفقدان الشعور بقدسية (الموقف).. ووجوب السكينة فيه.. ولا تستطيع أن تكف هؤلاء - عن تصرفاتهم - الخاطئة.. وإلا كان وعظك لهم سبباً في الدخول معهم في جدال وفسوق ورفث.. يحبط به العمل.. وما كان العقلاء يقولون أثناء ذلك.. إلا حسبنا الله ونعم الوكيل.. (ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".. (اللهم إن هذا باطل لا يرضيك). |
فإذا ما انتهت الجموع - بعد اللتيا والتي- إلى الجمرات.. فإن الصدام والازدحام واللكم والمغل.. والشتم والضرب والدعس والدهس واختلاط الحيوان والإنسان.. كل ذلك هو (السمة) البارزة.. التي يستعد بها ولها أغلب المندفعين إلى الرجم.. وكأنهم يمشون في اتجاه واحد يختلط فيه القوي والضعيف والكهل والشاب.. والرجل والمرأة.. وتخلل الجميع حجاج البوادي الذين يحلقون على بعضهم ويضعون نساءهم في وسط الحلقة.. ويمدون (المشاعيب).. حول دائرتهم.. حتى لا يفترقوا عن بعضهم.. أو يدخل بينهم من ليس منهم.. وكذلك حالهم في الطواف والسعي وهو ما عرف عنهم قبل قرون عديدة.. وما يدعون أمامهم أو على إيمانهم وشمائلهم من يضايقهم وإلا.. تناولته (الشواحط).. أو المشاعيب.. بما يعيده إلى صوابه.. ويرتد عنهم طوعاً أو كرهاً!.. وربما اضطر إلى أن يقبع في مكانه.. أو يعود إذا استطاع.. ولن يستطيع الوصول إلى خيمته.. والتي يضل عنها - فلا يجد من يهديه إليها.. إلا بعد أن يقضي نهاره أو ليله كله في السؤال. |
ولقد مرت بي هذه التجربة.. في (منى) إبان الطفولة.. وما أزال أتذكرها وأتحسس آلامها.. فما ظفرت بأهلي إلا بعد أن ظفروا هم بي.. بفضل الله ورحمته.. قبل أكثر من 65 سنة. |
هذا نموذج صغير - أو صورة معبرة بما كان عليه الحج في العهود الماضية.. ولا يفوتني هنا أن أشير إلى ما كان يتحمله الحاج من النفقات المضاعفة.. والضرائب المتعددة.. وما يتعرض له من الأذى والقذى ولا سيما في طريق (مكة المكرمة - المدينة المنورة).. فكم هنالك من ضحايا وأشلاء؟.. وقد شهدت في حج عام 1342هـ منظراً - يستدر الدموع ويبكي الجماد - حينما - أعيد الحجاج رغماً عنهم، من طريق المدينة - بعد أن كادوا يظفرون بالدخول إليها.. وبعد أن دفعوا من الأموال الشيء الكثير.. فقد اضطرهم (الذين جعلوا من أنفسهم حراساً أو قطاعاً).. إلى أن ينكسوا على أعقابهم إلى (مكة).. في حالة محزنة.. أليمة مؤلمة.. ولم يستطع أصحاب السلطة آنئذ.. أن يكبحوا جماح المعتدين بل وضاع على الحجاج ما سبق أن دفعوه من الذهب باسم الأجور.. وحيل بينهم وبين زيارة المسجد النبوي الشريف.. وهم يعدون عشرات الألوف.. ولا شك أن الله جلت قدرته.. قد كتب لهم ثوابهم على حسب نياتهم.. مع كل ما كابدوه من الأضرار والمشاق.. لفقدان الأمن - وأسباب الاطمئنان. . |
وإذا أردنا أن نلم بالحالة الصحية.. آنئذ.. فإنها "ضغث على الإبالة".. فلا مستشفيات.. ولا مستوصفات، ولا أجهزة طبية، ولا علاجات.. ولطالما تجشم الحجاج من جراء ذلك ما أودى بحياة الكثيرين منهم.. وأشهد أني رأيت بأم عيني - الموتى - مربوطين على عدد الجمال (يوم الحدارة) كما يشد الطرد.. وأرجلهم وأيديهم في الهواء.. أو العراء.. بأعداد لا تحصى.. ذلك يوم الثالث من عيد الأضحى.. من بعد الظهر إلى منتصف الليل.. ولا أدري كيف دفنوا ولا أين انتهى بهم الفناء؟ |
كل ذلك - وأكثر منه - إيلاماً وإزعاجاً وبلاء.. كان معتاداً ولا يهتم به أحد من ذوي المسؤوليات.. خلال القرون الطويلة الغابرة.. وقد أدركنا منه ما يرتعش به القلم في يد الكاتب ويقشعر منه شعر الرأس والحاجب!. |
ثم أذن الله برحمته باستبداله بما هو خير.. فماذا كان منذ أباح الله للمسلمين النجاة من هذه الكروب العظيمة - في عصر المغفور له الملك عبد العزيز - تغمده الله برحمته وفي عهد طويل العمر إمام المسلمين ورائد التضامن الإسلامي وعاهلنا المفدى الرحيم.. حفظه الله؟؟ كان أن بدل الله هذه الكوارث كلها.. بما زالت به المخاوف،.. وتوفرت المياه العذبة النقية، وتأمنت السبل، وأقيمت الحدود.. ومهدت الطرق.. وحطمت الجبال الشوامخ واخترقت وأصبح (خط الأسفلت) ممتداً من الخليج العربي إلى البحر الأحمر وإلى أعالي جبال السراة وإلى الشمال وإلى الجنوب وإلى الشرق وإلى الغرب.. وأنشئت المرافئ والموانئ.. وحلقت طيارات الأسطول العربي السعودي وغيرها.. وتوفرت السيارات المرفهة. |
وتيسر الحج لجميع الموحدين من أقاصي الدنيا - وأعماقها.. وخلال أسبوع واحد أو اقل يحج الحاج ويعود لأهله.. ورفعت كل الضرائب.. وتحملت الدولة من النفقات لمصلحة الحجاج مئات الملايين من الريالات.. وأصبحت المستشفيات والمستوصفات معدة في جميع المدن والحواضر والبوادي.. ونظمت الخدمات، وتحددت المسؤوليات، وأقيمت المضافات.. وتخصصت على كل ما فيه رفاهية (الحجاج) (وزارة) خاصة باسم الحج، تسهر.. وهناؤهم واغتباطهم وهي خلال العام كله تدأب بحرص تام على كل ما يؤمن هذه الغاية الشريفة، وأعدت الفنادق.. الممتازة لهم في أجمل المناطق وأكرمها وأقدسها.. وأقربها من الحرمين الشريفين.. و (ما رأى كمن سمع).. وإنها ورب الكعبة لآيات بينات، وبراهين صادقات على توفيق الله |
لولاة أمورنا وعلى رأسهم جلالة ملكنا المفدى - أمده الله بعونه ورعايته - فما سطر التاريخ.. مثل أياديه في راحة الحج والحجاج وإعزازهم وإكرامهم... وأمنهم وراحتهم.. ولا يستطيع أحد حصر أياديه الكبرى - في هذا المجال.. ولا في غيره من جلائل الأعمال. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.. ناهيك بتوسعة المسجدين الشريفين وما بذل فيهما من الأموال العظيمة حتى أصبحا يستوعبان مئات الألوف من الحجاج في جميع الأوقات. |
وأختم كلمتي هذه بقصة تداولها المعمرون من أهل مكة.. فقد قالوا: "إن رفيقين من الحجاج في الأيام الخالية.. صعدا إلى عرفات ومعهما (خرجاهما).. فأخذا يتوصان مما يجب أن يهتما به في (عرفات) عند القوم.. ليسلم لهما الخرجان.. فقال أحدهما للآخر: يا أخي يجب أن تقرأ على الخرج سورة من كتاب الله أو المعوذات.. ليحفظه الله من اللصوص.. فوعده بذلك وأصبحا فلم يجدا (الخرج).. فقال لصاحبه: "لماذا لم تعمل بوصيتي يا أخي".. فأجابه الآخر: يا سيدي أنا وضعت في الخرج (المصحف الشريف) كله.. بهذه النية.. فأخذوا الخرج وما فيه!! فماذا تريدني أن أصنع بعد ذلك؟.. إنهم لا يخافون الله، وهو بهم محيط. |
أقول: كان القدامى يتندرون بهذه القصة.. وهي دليل على ما كان الحاج - يكابده - ويبتلى به خلال حجه. |
ويقابل ذلك الآن: أن من فقد (كمره) حتى أثناء (طوافه) أو (زيارته).. فإنه يلقاه كاملاً غير منقوص في إحدى دوائر الأمن العام.. ويسلم إليه على الفور.. سواء فقده في الصحراء أو بين المدن والقرى.. ولن يجرؤ أحد ما على لمسه أو الإشارة إليه.. حتى يتقدم إليه المسؤول في حفظه وتقديمه إلى مرجعه.. وبالتالي يسلم لصاحبه خلال ساعات أو دقائق معدودة.. |
إنها لنعمة - تستوجب الحمد والشكر من أعماق كل قلب.. ونسأله جل وعلا أن يديمها على عبادة المؤمنين.. وأن يحفظ عبده وابن عبده - خادم الحرمين الشريفين - (فيصل بن عبد العزيز) مؤيداً بنصره -وبروح من عنده - وأن يملي كلمته وينصر دينه.. ويضاعف ثوابه، ويطيل عمره.. ويوفقه لكل ما يحب ويرضاه إنه سميع مجيب. |
فمرحبا بضيوف الله في بيته العتيق وحيهلا بهم في كل درب وطريق.. والله ولي التوفيق.. وهو حسبنا ونعم الوكيل. |
|