مقدمة: ديوان
(1)
الأنصاريات
(2)
|
عنوان جميل.. وجوهر صقيل.. وهو ديوان شعري أصيل، ومجد طريف وأثيل.. من حقه أن يعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. وأن يحتفظ به.. كإحدى الذخائر النفسية.. الغالية.. فهو كالدر النضيد.. واللؤلؤ الفريد.. لا من حيث.. (الكم) فإن الكثرة.. ليست على كل حال مما يقاس به الجيد من الرديء؟ وإنما من حيث (الكيف).. فقد أوجز وأعجز.. وشنف وطرز، وما أريد أن أزعم القدرة على النقد.. أو التقريظ.. فما يملك ذلك إلا (الأكفياء) والراسخون في العلم.. وإنما بوسعي أن أعبر عما كان لقراءتي إياه من الصدى في نفسي كقارئ.. وقارئ فقط. |
إن أستاذنا الكبير - أبا نبيه - بارك الله في حياته، وضاعف له الجزاء الأوفى إلى حسناته - لم يزل محل الرعاية والتقدير.. منذ منحه الله جل وعلا هذا الدأب والثبات.. والجهاد المتواصل في سبيل (التوعية) العامة في الحين الذي كان الاشتغال بذلك.. ضرباً من الفراغ.. أو (الهواية).. وبذل في إنشاء وإصدار هذا (المنهل العذب) الكثير الزحام.. من عرقه وشبابه وما له.. وشاطه ما يغبط عليه.. أو يحسد وأنه لفوز كبير.. ونجاح عظيم.. أنه برغم كل المثبطات.. والمنغصات.. استطاع بعون الله وتوفيقه أن يكون أول الرواد.. والداعين إلى الخير وإلى سبل الرشاد.. بل أول صاحب (مجلة) عتيدة بدأت تشق طريقها إلى الحياة في خير بقاع الأرض وأقدسها على الإطلاق.. فما كان ذلك بالسهل ولا بالممكن لولا الاستعانة بالله - وحسن النية.. والتجرد من المكاسب المادية.. والتطلع إلى المآرب الذاتية.. فكافح وجاهد.. وصابر وثابر.. وحمل العبء الثقيل.. وما تعثر به ولا تراجع.. حتى في أشد الظروف أعذاراً له.. وإجحافاً به.. وتهافتا عليه. |
هذا - مع كل ما احتوى عليه (المنهل) من معاضدة للنهضة الحديثة.. وتجاوب مع كل تطور حسن.. وتقدم ملموس.. ومع ما هو مكلف به في عمله الرسمي.. من مهام لا بد له أن يقوم بها - في حدود مسؤولياته. |
* * * |
وأراني - وقد ألمحت قليلاً - وبإيجاز ببعض ما تحسن الإشادة به في مجرى هذا الاستعراض السريع.. مضطراً إلى الدخول فيما قدمت بين يديه بهذا التمهيد.. وهو الاغتباط والازدهاء.. معاً.. بديوانه الجديد.. "الأنصاريات".. فقد (أفضل) فأهدى أخيه نسخة مكرمة منه.. وتصفحت بعض مقطوعاته.. فأطربني كثيراً ما أودعه فيها من طموحه وبثه من سبحات روحه، وأخذت أترنم بذلك.. معتزاً. وأكرره في شجو وشجن مهتزاً. |
وكان منخلاً.. أو مختاراً.. أو مشتاراً.. فلا تقرأ فيه إلا ما يهزك سماعه.. ويطربك إيقاعه لا سيما تلك "العقيقة" الرائعة.. التي لا بد له أو عليه من أن يذكر بها سلائل الأنصار.. وكل من تجري في عروقه دماء أجداده من العرب الأحرار.. يذكر بها هؤلاء وأولئك.. بما كان عليه هذا "العقيق".. إبان مجدهم الغابر.. وكيف كان - منتجعاً للقادة والذادة.. وذوي الأقدار العالية من الأمراء والعلماء.. وحتى الفنانين ومن الذين أخذ عنهم الناس من كل جيل وقبيل في طول البلاد وعرضها. |
وما كان لي - أن أقرظ.. هذا الديوان.. وقد تناول ذلك من هم خير مني وأبلغ بياناً.. وأسمع ميداناً..من غير حيف ولا جنف.. وإنما هي خوالج الصدر.. وهمسات الوجدان.. ومرجحات الميزان. |
* * * |
لقد عرفت الأستاذ الأنصاري وهو بعد في غضاضة الصبا.. وبلهنية الشباب.. فما تمثلت فيه إلا "صبا" معنى.. أو كلفاً مهني.. بالعلم والأدب.. وما بلوت من أخلاقه ومعاشراته.. ومسامراته إلا كل ما هو مشرق.. ومغرق.. وبالرغم من كل ما عانى ويعاني.. في سبيله.. لم يزل ثابتاً على ما اتجه إليه وعاش له.. ودافع عنه.. وحرص عليه، به، من مجد العرب وسؤدد الإسلام. |
وكذلك يجزي الله - كل من أخلص فيه.. ودعا إليه.. ولم يرد بجهاده غير وجهه الكريم.. وكان من حقه على مواطنيه.. وقد سار (بالمنهل الأغر) هذا الشوط الطويل.. وكتب لنا به صفحة شائقة رائعة في سجل عصرنا الراهن بالنسبة لما كان متداولاً من المجلات العربية قديمها وحديثها.. في شتى الأقطار العربية.. أن يزفوا إليه (التهاني).. من " طيبة" منشئها الأول إلى "مكة" منشئها الثاني.. أو من كل مكان قرأت فيه واطلعت عليه.. في أرجاء هذه المملكة الفتية الناهضة.. ذلك أنها كانت الأولى من نوعها.. وأنها حفلت بكل طريف وطارف وتليد من أمجاد العرب ومفاخر الإسلام.. في مهابط الوحي.. ومن مهاد الرسالة.. وبين (ضرائر) مغريات وعمات وخالات وأخوات وبنات كلهن وجدن في (بيئـات) ذات سبق في كـل مجال.. فما لبث صاحب المنهل.. يسابقهن.. ويرقى.. وينافسهن ويبقى حتى احتل منزلته العليا.. التي هو أحق بها وأولى. |
ولم يكتف أستاذنا (الأنصاري).. أحسن الله مثوبته.. بذلك.. فأخذ يؤلف ما تفرق من (آثار المدينة المنورة).. وما لم يكن قبله.. من تاريخ (جدة).. فأصدرها في أجمل الحلي والحلل.. وعلى أحدث طراز.. فازدانت بهما (المكتبة العربية).. وعلى كل سفر منهما أضواء الماضي والحاضر والمستقبل.. وجال وصال في باب (القصة).. وأصدر كتابه (التوأمان) وعالج فيه ما لا غنى عنه من إصلاح المجتمع الإسلامي.. ثم التفت إلى (لغة الكتابة والأدب) فصحح ما كان شائعاً من الغلاط والأخطاء اللغوية في الدواوين أو في الأدب.. وإلى (التراجم).. فحفظ ما خشي ضياعه من سير رجال العلم في المدينة المنورة.. ممن أدركهم وعرف فضلهم وفضائلهم.. ثم عرج على (الأمكنة المجهولة في الحجاز وتهامة).. فحقق ودقق وأسمع وأمتع.. ووفى بما دوّن سبعة أسفار.. لكل واحد منها أثره البالغ.. ونفعه العظيم.. مغالباً بذلك العوائق.. والمشاغل.. ومقتنصاً من وقته المستغرق جله في (مجلة المنهل) ما أتاح له بتوفيق الله المقام المحمود.. والأثر الباقي المشهود. |
ولقد قرأت له بعض القصائد.. في أحيان متفرقة.. وطربت لها.. وهي عابرة سائرة.. أما اليوم.. وقد تخير بعد الارتباع.. وجمع ما ترتاح له الأفئدة.. وتصغي إليه الأسماع.. فقد آمنت أنه (رب الصناعتين).. وأنه من كبار الشعراء - طبعاً القدامى - ولا فخر وأنه صاحب الإحساس المرهف.. والخيال الخصب.. والرقة الآسرة.. وأنه جمع بين التعمق اللغوي.. والتفوق البحتري وما أرسل القول في ذلك جزافاً.. ولا كفافاً.. ولكن تقديراً وإنصافاً.. وإكباراً واعترافاً.. وأحيل كل من لم يحظ بقراءة هذا الديوان إلى رياضه الفواحة.. وعنادله الصداحة. وأنا ضمين بعد ذلك أن يعيد (أبو نبيه) طبعه مرة أخرى ويضيق بي المقال لو ذهبت أدلل ذلك بالقصيدة الواحدة.. أو بالبيت المفرد.. مطمئناً إلى أن في الاطلاع عليه والتمتع به ما يغني عن ذلك.. متمثلاً بقول الشاعر: |
وليسَ يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ |
إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ |
|
وهنا - لا أجد بداً من أنني - وقد تجاوزت الستين - معذور أن أستحسن وأصطفي وأعتز بهذا الإنتاج.. الذي يزخر بالمعاني الزاكية الزاهية.. ويعيد لنا ذكريات الأدب العربي في عصوره الذهبية.. ومهما وصف الكاتب (الجمال) - في كلامه فإنه لا يمثله كما هو في حليته وأكمامه وكما هو في تألقه.. وإشراقه وابتسامه فكيف بي أحاول ذلك.. وما عندي ما يستعجل به القارئ الكريم.. وقديماً قال المعري في ميمته الخالدة: |
سبحانَ مَنْ وهبَ الحظو |
ظَ فلاعتابَ، ولا ملامة |
أعمَى وأعشَى ثـمَّ ذو |
بصرٍ وزرقاء اليمامة |
|
فبارك الله فيك أبا (نبيه).. وزادك بسطة في العلم والجسم ورضي عنك وأرضاك بما كابدت وجاهدت.. وكتبت وحررت.. ودونت وخلدت.. ولك مني أخلص الدعاء بأن يهبك الله - وأخويك النصوحين - العون والهداية والتوفيق والصحة والعافية.. ليرى المسلمون والعرب (تاريخ مكة المكرمة) في حلته القشبية.. وزينته الباهرة.. وإحاطاته الشاملة.. وما ذلك على الله بعزيز. |
|