بشائر التقدم
(1)
|
عنّ لي أن أطرق باب البحث في هذا الموضوع بعد أن شاهدت بعيني ما يشرح القلب ويثلج الصدر من بوادر الفلاح في سائر مرافق الحياة العامة بالحجاز. |
ولما كان غرض الإلمام ببعض ما حدث من التطوير في خلال العام المنصرم من الوجهة الأخلاقية والعملية والإدارية والصحية والاقتصادية والعمرانية تحدثا بنعمة الله والإهابة بالأمة إلى مواصلة جهودها في السبيل الذي تدرجت فيه حتى الآن أبدأ بذكر ما يتعلق بالأخلاق فأقول لا جرم أن كل منصف غيور على وطنه وبلاده إذا أرسل نظرة صائبة على الحالة الأخلاقية في البلاد الحجازية في الآونة الحاضرة وقارن بها مثلها في الماضي القريب يشرف بوقوع تحول كبير يدعو إلى الاغتباط والتفاؤل بحسن المستقبل. |
فاليوم لا يجد المتتبع لأخلاق الناس تلك الرذائل التي تغلغلت بين طبقات الشعب في العهود الاستبدادية إذ كان يضطر بعضهم لارتكاب موبقاتها لفساد البيئة والخشية من المظالم ولقد دلت التجارب على صحة النظرية بأن الناس على دين ملوكهم. |
ليس من ينكر أن النفاق والكذب والخديعة والغيبة والنميمة والحسد والوشاية والوقيعة والرشوة وما إلى ذلك من القبائح من أكبر المعاول لهدم نظام المجتمع وتقويض بنائه وتدني أبنائه وأن هذه الجرائم الفتاكة كانت منبثة بين كثير ممن تغري مظاهرهم فتفتك بعامة الخلق وقلق صروح تقديمهم وتقف سداً منيعاً وحاجراً مريعاً دون انتعاشهم ورفاهية معاشهم أما الآن وقد فتح ولاة الأمر ما كان موصوداً من أبواب النصفة والعدل وزال شبح المخاوف من تميمة كاشح او وشاية متناصح، وزلت أقدام أولئك الذين لا يبلغون أمانيهم إلا في جو مكدر بغيوم المفاسد وبالجملة بعد أن تساوى الفقير والأمير أمام مناهج الحق وتحطمت هياكل الغرور والغطرسة بسيف العدالة الصارم، فقد خفّت وطأة الشر وخَفّ صوت الباطل وانصرف الناس لإصلاح شؤونهم وقرت عيونهم بما يتمتعون به من أمن شامل في النفوس والأموال والأعراض، وبات كل امرئ عن دهره راضٍ، أجل تعالى معي أيها القارئ لأشرف بك على مجاري الأمور في (عاصمة المملكة الحجازية) وتنقل معي دواوين الدولة الإدارية والقضائية والصحية لترى سهر القائمين بإدارتها على مباشرة وظائفهم بدقة ونزاهة ونشاط وتشهد المجالس تعج بالإصلاحات للمختلفة فيما يؤول بالخير والسعادة وبناء هذا الوطن المقدس الذي يجب أن يكون كما هو قبلة المسلمين مصدر اتحادهم ومظهر وجودهم ومبعث هديهم. |
حقاً إن الجد والنشاط في الأعمال الحكومية لهما من أقصى ما يمكن أن يكون في أيّ بلد شعر بواجبه قام بسعي لإحياء ما اندثر من مفاخره ويهيئ لنفسه مقاماً بين الأحياء في القرن العشرين وهناك العيون اليقظى والرقابة النزيهة تحاط الشؤون الإدارية والقضائية والصحية والتنفيذية فلا تهوي قدم بصاحبها حتى يكون عبرة لخلفه. |
بذلك سرت روح الحياة وجرت رياح المقاصد بما تهوي نفوس المصلحين وأطل فجر المستقبل يلمع ببشائر التقدم الصحيح. ولا يفوتني بعد إذ أفعمت صدور القراء بالانشراح أن أنوه بذكر مجمل الحالة العمرانية (في أم القرى) فلعلّ كثيراً منهم في الخارج لا يعلمون بما يبذل من العناية في هذا السبيل بحيث لا يمضي وقت قريب جداً حتى تصبح (مكة المكرمة)عروس البلدان العربية في مبانيها وحوانيتها وشوارعها وما ذلك بعزيز على همة المجلس البلدي ورجاله الغيورين على وطنهم وقد أوتوا حظاً وافراً من الكفاءة والحرية في مزاولة عملهم والبلوغ به إلى ذروة الكمال. |
ثم لا يسعني قبل أن أختم مقالي أن أغفل أمر الحركة الاقتصادية وما يبدو فيها من حيوية وتقدم مطرد، فالمكاتب التجارية تواصل سعيها في جلب حاجيات البلاد وبيعها بأقل ربح مشروع وقد أخذ المتنورون من أبناء الوطن يعقدون الشركات في أنواع المتاجرات وانزاح كابوس الوهم الذي كان يخيم على القلوب من جراء الضرائب الفادحة التي كانت تثقل كاهل التاجر بين حين وآخر ولا نسل عما وراء ذلك من الفوائد المتبادلة واحتكاك الوطنيين بعملائهم في المعاملات التجارية واكتسابهم خبرة عملية وتجارب فعلية تساعد على زيادة معدل الثروة العامة التي هي أساس كل خير إذا استعملت في طرفها المقدر. |
أما المشاريع التي تبذل الحكومة فيها جهوداً مضاعفة بالنسبة لراحة الحجاج والوافدين فحدث عنها ما شئت أيها القارئ الكريم لم تدخر وسعاً في تحسين المواصلات وتعميم السيارات بين جدة ومكة والمدينة المنورة وهي تفكر باتخاذ طريقة أسهل لقصاد البلد الأمين وزيارة مسجد سيد المرسلين ومع اليوم غد ولكل أجل كتاب. |
وقد قامت المستوصفات الصحية في محطات الطرق ومعابر الشوارع وأماكن الحج ووضعت نظاماً حافلاً بالمواد الإصلاحية الصحية في بحر هذا الموسم. |
ولأول مرة في التاريخ اخترقت الصحاري من تهامة إلى قلب الجزيرة تقل (صقر العرب) في عصر النور وعلاقة هذا بموضوعي من جهة شمول الحياة المدينة في البلدان الخاضعة لسلطان الله تعالى وشريعته المحمدية ثم لحكومة جلالة الملك عبد العزيز الفيصل آل سعود أن الموسم قد مد رواقه وأقبلت وفود الله من الشرق والغرب تنتاب أقدس بقعة تحت الشمس وخير أمة أخرجت للناس فترى شوارع مكة وطرقاتها تموج بأجناس تدفقت من أقصى الأرض سيولها وتوحدت رغم اختلاف بلدانها ميولها. |
فنحمدك اللَّهم على ما أنعمت وتفضلت ولن يبلغ لسان الشكر لجلالك ما يمليه العمل الخالص لوجهك الكريم. ونسألك التوفيق في السر والعلانية. |
|