شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الغربال ومنتقدوه
بيان للحقيقة:
لقد أنصف الدكتور محمد بن سعد بن حسين - بحق - الغربال، عندما كتب عن حساده ومنتقديه، لنتابع ما قاله، (ونورد نصه كاملاً) (1) .
(لقد هدف (خوجه) – أي محمد سعيد عبد المقصود خوجه، صاحب الغربال – من وراء مقالاته تلك إلى غربلة عادات وتقاليد مجتمعه ليتبين هذا المجتمع ما كان منها حسناً فيلتزمه، وما كان منها سيئاً فينبذه، وهذا يعني أنه كان يقصد الإصلاح، ولذا لقي من المخلصين المنصفين من بارك نهجه وأيده وأثنى به عليه.
غير أن رجالاً آخرين نفسوا على الغربال نفسه، وحسدوه على نجاحه، فأرادوا هدمه ولا يعنيهم بعد ذلك أن كان في هدمه هدم مجتمعهم أم لا. أرادوا هدمه فما هدموا إلا أنفسهم لسببين:
الأول : أنهم شحنوا كلماتهم بالتهكم والسباب.
الثاني: أن نقدهم لما هدف إليه لم يبن على أساس من فهم طبيعة المجتمع الحجازي وطبيعة ما دعا إليه الغربال.
ومن أجل مقارنة منهجهم بمنهجه سنورد شيئاً من أقوالهم نجده في مجموعة من المقالات التالية، لكن نود أن ننبه إلى أمرين:
الأول: أن بعضهم - مثل محمد راسم - لا تحتمل مقالاته أن تورد بكاملها لما فيها من هزال في الشكل المضمون.
والثاني: أن نورد بعضاً منها كاملاً مثل كلمات (المنسف) إذ يبدو أن الرجل صاحب ملكة إنشائية لكنه أكثر التصاقاً بلغة الشارع وغوغائية المجتمع.
فإذا كان الأدب واللغة على نحو ما يكتب (المنسف) فأظن أن من سعد طالع الغربال ألا يتقن ذلك الأدب الذي لا يحكم الخلق، وتلك اللغة التي تجري بمثل قول المنسف: (على مين)، (يا سلام)، (يا لطيف)، (ربنا سلم)، (ولا مؤاخذة)، (يا أخي كده لوحدك بس)، (التهجيص)، (الناس تفهم)، وما إلى ذلك مما يسك الأسماع، ويقذي العيون، وتتأذى به الألسن والشفاه، فعفا الله عنا وعنهم، لقد كان في مقدورهم أن يقولوا خيراً، أو يصمتوا، وفي الصمت منجاة لغير العارفين، ولو قد بلغ من أمر المنسف وافترائه على الرجل أن أتهمه بسرقة مقالات نشرت في صحيفة عربية أخرى وحين تحداه ابن عبد المقصود ( الغربال) أن يذكر الصحيفة والمقالات التي ادعى أنه أخذها، صمت ولم يحر جواباً.
وقد حاول السباعي أن - يحكم الخصوم - فكتب مقالاً تحت عنوان الفرسان الثلاثة الغربال ومحمد راسم والمنسف - ورغم محاولته أن يكون وسطاً إلا أنك تحس من مقاله احتراماً للغربال وتقدير الكلمة، وإن حاول جاهداً إخفاء ذلك الاحترام والتقدير، ولو أن صدع بالحق لكان ذلك أجدى. فلعله أراد إيقاف هذا الجدل الذي لم يكن لخدمة الحق من طرفين من ثلاثة، ومما يؤيد ما استوحيناه من حكم على هذا السباعي ما كان يجري بينه وبين ابن عبد المقصود من مناقشات في موضوعات أخرى.
ويبدو أن هدوء خوجه. وترفعه عن المسابة والمشاتمة، والتزامه اللياقة الأدبية فيما يكتب، يبدو أن ذلك وغيره هو ما جعلهم ينفسون عليه ويحاولون استفزازه ليدع حلمه ووقاره، لكنه ظل ملتزم الرصانة والهدوء، وحدود اللياقة الأدبية.
ثم يختم الدكتور ابن حسين حديثه عن الغربال بقوله: (وقد يظن البعض أني قد بالغت في الرفع من قدر الرجل، وأني قد تجنَّيت على خصومه، ومع أني لا أدعي العصمة ولا أنفي عن نفسي احتمال الخطأ، إلا أني كتبت ما كتبت مطمئناً إلى أنه الحق، في نظري على الأقل. ثم إني قد حرصت على أن أثبت جملة من أقوال الرجل وأقوال خصومه ليتبين القارئ بنفسه حقيقة الأمر، وقد يظهر له ما لم يظهر لي والله أعلم).
وفي اعتقادي، أن الدكتور ابن حسين مكان الثقة والاعتداد برأيه، فهو الباحث الناقد والأستاذ الأديب الملم بأصول النقد والأدب، وهذا الرأي الذي سجله في كتابه عن (الغربال) يعتبر بياناً منصفاً يضاف إلى تلك الأصوات المخلصة لكلمة الحق، والتي (باركت) نهج الغربال وأيدته وأثنت به عليه.
ولعل القارئ في شوق إلى الإطلاع على جانب من الصراع النقدي الذي كان يدور بين الغربال وخصومه، والذي نبدأه بمقال محمد أفندي راسم الذي نشر في جريدة (صوت الحجاز) تحت عنوان: (من هو الغربال؟) وقد اكتفيت بما اختاره الدكتور ابن حسين من مقالات تمثل ذلك الجدل والصراع، تجنباً لما قد يرد من محاورات غير ذات فائدة، أو تداخل ألفاظ تخرج عن حدود اللياقة الأدبية.
من هو الغربال؟
كتب محمد راسم في العدد 29 بتاريخ 23/6/1351هـ من "صوت الحجاز".
(طال تستر حضرة الكاتب المسمى نفسه بالغربال وإن كنا نعرفه معرفة نشك منها أهو حقاً أم غيره. ولكن ماذا يهمنا عرفنا اسمه وشكله أم لم نعرفها، وهذه كتاباته، زادت على أن تقرأ، تارة على صفحات (أم القرى) وتارة على صفحات (صوت الحجاز) فهي تصور لنا صورة شخصيته الحقيقة التي قد أسأمت.
كم من مرات رأيناه يحاول أن يكون مربياً، مدرساً، أستاذاً، تاجراً، اقتصادياً، فلم تكن له إحداهما إلا لشيء سوى أنه أراد كل شيء، ولم يخش وصمة التطفل.
وبعد اعتقاده بلوغ ما أراد كمرب ومدرس ذي منهج قويم، ومقتصد مدير لا يخطئ وغير هذا مما لا أحصيه يتعرض حتى للطب، ويرغب حتى تسييره تحت منهجه، فراح يخبط كما خبط في غيره خبط العشواء على عجلتها العشواء.
انظر أيها القارئ - لا بأس ثانياً - مقالة تحت عنوان (بحث في الزواج) تاركاً نشرتيه الأوليين في هذا البحث ناظراً إلى الثالثة فحسب، تجد من عجائب مدركات هذا الغربال ما تدهش له أيامك، إذا علمت أنه يسعى في إيجاد ما لا يجد الغرب بحضارته ونفاذ أفكاره إلى إيجاده من سبيل، ويسخط على عادات فينا لا تستحق منه سخط ليأتي بكلام آخره مفسد لأوله..الخ).
من خلال ما كتبه (محمد راسم) نشعر من أول وهلة بسلبية النقد الظاهرة بين السطور، فالكاتب يهدف إلى الهجوم بلا مبرر سوى دافع الغيرة من هذا الانتشار الصحفي الذي حققه الغربال تارة على صفحات (أم القرى) وتارة على صفحات (صوت الحجاز) ولا ندري كيف يُعاب على (الغربال) أن يكتب في شؤون متباينة (في التربية أو الاقتصاد أو الطب).. والمعروف أن الصحفي الناجح يكتب في كل شيء طالما كان واسع الفكر، غزيراً في معلوماته، قادراً على التعبير بوضوح. زد على ذلك انعدام التخصص في ذلك الزمن، واهتمام معظم الأدباء بما يدور في فلك الأدب فقط.
والغربال حين تحدث عن مسائل تربوية واقتصادية وطبية فإنه لم يعرضها كبحوث علمية ليدرسها الجيل، وإنما تناول المشكلات المتفرعة عن هذه المسائل عندما شعر بخطورتها على المجتمع، فقدمها كعادات مضرة، وأوضح سلبياتها، ثم أدلى برأيه فيها. وهذا كل شيء لكن كيف كان رد (الغربال) على ما كتبه (محمد راسم)؟
إيجابية الحوار:
في العدد التالي 30 وتاريخ 1/7/1351هـ من جريدة (صوت الحجاز) نشر رد الغربال، تحت عنوان (النقد شيء والشخصيات شيء آخر) وألحق البقية في العدد 31 بتاريخ 8/7/1351هـ ويمكننا أن نستشف من محتوى المقالين ما يمكن وصفه بـ (إيجابية الحوار) وأدبيات الجدل التي تحكم النفس عن الخروج على حدود اللياقة الأدبية. يقول الغربال:
(كتب الأديب (محمد أفندي راسم) مقالاً بالعدد الماضي تحت عنوان (من هو الغربال؟) ملأه بما أملت عليه نفسه من تحقير واستهزاء وشتم ثم ختمه بالتهديد والوعد والوعيد (حط في الخُرْج) – وهذا تعبير شعبي أورده الغربال يشير إلى عدم المبالاة بما يقال -.
حضرة الأديب عفا الله عنه يريد أن ينقد مقال الغربال المنشور تحت عنوان (الكشف الطبي ضروري للمتزوجين من الرجال) ولكنه هداه الله ضل الطريق، فبدلاً من أن ينقد المقال ويحلله ويظهر نقاط الضعف التي فيه، تركه ظهريا ثم راح يستفسر عن شخصية الكاتب فصورها كما أراد، ثم تطاول فشتم حتى أشفى غلته (ألف سبة ما تشق قميصاً) - وهذا أيضاً تعبير شعبي يدل على أن الشتيمة لا تضر سوى صاحبها، ومهما تعدد السباب فليس له أثر الضرب في الجسم، وإنما هو مجرد كلام، والتعبير أيضاً يوحي بعدم المبالاة بما يقوله الخصم..
من المصائب التي بلي بها بعض الكتاب - ولا أقول كلهم - أنهم يجعلون النقد سبباً لتنفيذ غايتهم، وشفاء لما في صدورهم - ثم يقولون هذا النقد، فنجدهم بدلاً من أن يدحضوا قول من رد أو نقد كتاباته وآدابه بالحجة الدامغة يتركون ذلك وينهالون على الكاتب بالشتم والسخرية، وقد اتبع حضرة الأديب (محمد أفندي راسم ) عن سهو في مقاله هذه الخطة، وزمجر، وسخط، وشتم، عفا الله عنه وسامحه.
النقد مقدس ولكن إذا كان بريئاً، أما إذا اتخذ منه طريق لتنفيذ شهوة في النفس لا أكثر ولا أقل فإن ذلك يعد ذلة وخسة أجل عنهما حضرة الأديب، لأنهما من العيب والعار الذي يجب أن يترفع عنهما كل واحد.
يجب على الناقد البرئ أن يناقش خصمه بالحجة، ويفند آراءه بالبينة، ويظهر له خطأ ما ادعاه، أما كونه يقول: أنت مخطئ دون حجة، وبغير بينة، فهذا هو عين الخطأ إن الناقد إذا نقد أقوال خصمه بحرية تامة، ودفع أقواله بالحجج القوية يكون قد أحسن إلى نفسه وإلى الجميع، ثم يجب على مريدي المصلحة ألا يترفعوا عن قبول الحق، بل يقبلونه برحابة صدر وسعة خاطر شاكرين له صنيعه، بل يقبلونه برحابة صدر مقدرين له جهده ولو سار حضرة الأديب (محمد أفندي راسم) على هذه الخطة لشكرت له عمله، ولأكبرت له مجهوداته ولقدرت له إخلاصه، أما أن يترك النقد جانباً ويتناول شخصية الغربال بطريقة لا تتفق مع آداب الكتابة فأمر لا يقر عليه عاقل.
أعود بعد هذا فأستسمح خاطر الأديب لأناقشه فيما زعمه من جهة الكشف الطبي غاضاً النظر عما كتبه من تحليل شخصيتي ومعارفي، ومبلغ كتابتي، لأن ذلك ليس له عندي من الأهمية بمكان ما دمت أدري بما في نفسي، وما دام المثل العربي يقول: (مهما تبطن تظهره الأيام).
كان هذا كلام من الغربال بمثابة إيضاح لما يجب أن يكون عليه النقد الهادف. ورأينا كيف أنه لم يحاول أن يشهر سلاح الشتيمة في وجه خصمه، بل كثيراً ما يدعو له بالهداية ويسأل الله أن يسامحه ويعفو عنه.
ثم يبدأ المناقشة الهادئة (الموضوعية) لكشف الحقائق، ورد التهم التي أوردها (محمد راسم) ليتبين للقارئ جانب الخطأ والصواب فيما ذهب إليه الكاتبان. ويظهر الغربال الصورة المثلى للنقاش الهادف في المقال التالي:
الحقيقة واضحة:
(يقول حضرة الأديب) الكشف الطبي غير موجود في أوروبا وإنهم حاولوا تطبيقه فلم يفلحوا، فلأجل ذلك يجب علينا أن نتركه نحن أيضاً لأن أوروبا لم تسبقنا إليه، هذا معنى ما رد به الأخ العزيز فيما يتعلق بالموضوع، ومع كون هذا القول فيه ما فيه من مخالفة للحق والحقيقة، إلا أني أسلم لحضرة الأديب ذلك جدلاً وأناقشه من الوجهة الثانية فأقول: أي رابطة تربطنا بأوروبا؟ وما هو المانع من كوننا لا نقبل على أمر إلا بعدها؟ من الخطأ والخطأ المهلك أن نبقى مكتوفي الأيدي عن أي عمل لا تسبقنا إليه أوروبا وإذا طبقنا هذه النظرية على أنفسنا وبقينا تحت رحمة أوروبا فستنقض علينا أوربا بخيلها ورجالها ونحن مفسدون في الأرض لا قدر الله.
أوروبا يا أخي تعمل لمحونا، تعمل لهلاكنا، تعمل لتمزيقنا، فإذا لم ننافسها ونسر معها حذو القذة بالقذة لنجحت (لا قدر الله) وفشلنا ولا سمح الله، ولماذا لا نقدم على شيء إلا بعدها؟ لماذا نقبل أن تكون هي السيدة السائدة وهي وحدها المتفننة المخترعة؟ لماذا؟ كما لأهل أوروبا رؤوس لنا رؤوس، وكما لهم أفكار لنا أفكار، إنما هم سعوا ومهدوا فتقدموا، ونحن تقاعسنا ونمنا فتأخرنا، وإذا عملنا اليوم واجتهدنا ونافسناهم في كل شيء فسننجح، أما إذا بقينا متمسكين بمثل ما تفضلت به فسنتأخر دون شك فأيهم أجدر؟ إن أوروبا ما بلغت الذي فيه إلا بعد أن كدّت وجدّت، ولو بقيت تنظر غيرها يخترع وغيرها يتفنن ثم تأتي هي فتأخذ عنه ذلك لكانت اليوم نائمة في دياجير الجهل، وما رأينا لها هذه الصولة، ولما سمعنا لها بهذا الصيت، ولما قلت أنت ما قلت، أوروبا تعرف من القديم أنه لا حياة لها إلا بتمزيقنا، والشرق مع الأسف أصبح يعتقد أنه لا حياة له إلا بمنافسة أوروبا والقضاء عليها، فهل بعد هذا يحق لنا ألا نقدم على أمر إلا بعد أن تسبقنا أوربا؟ وهل هذا دليل على الحياة؟ لنرجع قليلاً إلى ما به (أي الغربال) قبل أن يدلي برأيه في شيء أن يشيد دعائمه منعا من التهافت والانفراج، كان حضرة الأديب يقول: (وإذا كان الكشف الطبي مقصوراً على الرجال دون النساء فلا فائدة منه) وهو اعتراض جميل لو سلم من السخرية، وحضرة الأديب محق في بعض الأمر، ولكنه نظر بعين واحدة إلى جهة واحدة، وترك الجهة الثانية وأغمض عينه عنها.
وقد نظرت إلى تلك الجهة التي نظر إليها وهي: "مسألة النساء" ورأيت من الإصلاح إسدال الستار عليها، لأن الأفكار والمعارف في الحجاز لم تبلغ درجة التعرف للنساء، وهم يرون أن بحث ذلك جرم لا يغتفر ذنب فاعله، هذا من جهة، ومن جهة ثانية هن بعيدات عن الأشياء التي تسبب الأمراض - والعارف لا يعرف - لذا وذاك عدلت عن ذلك ووضعت هذه الجملة الاعتراضية، ولا أقول للزوجة معه لأسباب لا تخفى على من تدبر وتبصر، الذي لا شك في أن ذكاء الكاتب قد عرف مضمونها إذ هي تدل على ما كان ينتابني من الأفكار من هذه الوجهة، والظاهر أن الأخ المحترم أحب أن يتجاهل ذلك.
هذا هو السبب الذي جعلني أقول باختصار الكشف الطبي على الرجال دون النساء عملاً بذلك المثل (ما لا يدرك كله لا يترك كله) أما كونه إذا اقتصر على نوع دون الآخر فيكون عديم الفائدة فهذا بعيد عن الصواب لو قال حضرة الأديب تكون الفائدة غير تامة لسلمت له بذلك، لأنه ليست الأمراض محصورة في النساء دون الرجال لا.. بل هي في النوعين. أطلب من الأطباء الموجودين في الحجاز أن يتفضلوا بكتابة كلمة عن هذا البحث لأنهم أصحاب خبرة ودراية. وختاماً استسمح خاطر حضرة الأديب إن حصلت مني هفوة لم أقصدها أو زلة لم أتعمدها، شاكراً له ما تفضل به عليّ، وما أسداه إليّ من جميل ومعروف، هدانا الله سواء السبيل).
نظرية ((ملن)):
بعد هذا الرد المهذب من الغربال على مقال الأديب (محمد راسم) ماذا يمكن تصوره كقراء، للصدى الذي سيحدثه لدى "راسم"؟ المتوقع أن نجد الصمت كدلالة على الإقناع، وقفل باب النقاش حول الموضوع. لكن هذا لم يحدث! فقد رد "راسم" بمقال نشر في "صوت الحجاز" العدد 44 تاريخ 11/10/1351هـ جاء فيه:
(لا فائدة للنقد عند الغربال إذا تناول من شخصيته. هذا تجديد في طرق النقد ينفرد به الغربال، كان كميناً في نفسه حتى برز به علينا في هذه الصحيفة معنوناً بها مقالته في الرد عليّ لما كنت مهدت لنقد كتاباته بتعريض بسيط كان يتعلق بالفحص الطبي على القادمين على الزواج، وهو موضوع كما يعلمه الكثير أشغل الغرب أكبر رؤوسهم المفكرة زمناً طويلاً، لم يستطيعوا معالجته بهذه الطريقة المباشرة. الآن ليرى القارئ كيف يفكر الغربال ليكتب، وكيف يتخيل ليحكم، متعرضاً بذلك لشخصيته التي أنكر على النقد تناولها.
الغربال ينظر إلى مواضيع المجتمع كأمور تافهة يكفي لمعالجتها أن يسطر على القرطاس بضعة سطور هي نتيجة أفكار لا تزيد على الساعة أو الساعتين اللتين يجلسهما ليلاً أو نهاراً فيرسلهما إلى الصحيفة لتنشر، ومن ثم ينظر إليها في غده منشورة ليعجب بها، ويجد عزمه على كتابة غيرها. وهكذا تقرأ له كل يوم مقالاً في هذا وذاك والمواضيع عنده كثيرة، من الاقتصاديات، من الصحيات، من الاجتماعية، ومن الكثير، ولا ينظر نجحت عند القراء أو لم تنجح، أو بمعنى آخر أفادت أو لم تفد، حسبه منها أنه خاض في جميعها مزاحماً الاقتصادي والاجتماعي والطبيب، وغيرهم في صناعاتهم التي صرفوا في تحصيلها ومعرفتها الأيام الطوال من نضرة شبابهم إلى أزمان كهولتهم.
من كانت هذه شخصيته أيصلح يوماً ليحسن ويجيد ما يلعب به اليوم في يده كلما جلس ساعة للكتابة؟ وإن صلح أيكون ذلك إلا بعد درس ومران طويلين؟
كأني بالغربال الآن يجمع أصابعه ليكلمني لأني وإن أفهمني أن النقد شيء والشخصيات شيء آخر، ما زالت أتعرض لشخصيته، ولكني أجيبه بأن لطف غيظك يا صاحبي وكب على الدرس والمطالعة حتى تقرأ "ملن" الذي يقول عندما سئل عن رأيه في النقد، وهو رأي قد أعجب به أحسن الكتاب لأنه أصوب من أجاب عليه: (إن النقد الوحيد الذي قد يساعد المنقود أية مساعدة هو ما يجئ من ناقد أقام الدليل على أنه يألف شخصية المؤلف وأسلوبه ونظرته إلى الحياة، ثم هو يأسف لأن ذلك المؤلف قد تخطئ شخصيته في هذا الموضوع أو ذاك) وأنا ما خرجت على خطة هذا العظيم لما تناولت من شخصيتك لأرى إن كنت تخطيتها فاظهر لك أسفي لا كما زعمت لأشفي غلا في صدري، أترى أني اتخذت الصحيفة ميداناً للقتال معك بعد ما عجزت عن لقائك؟ كلا إن هذا وهم والوهم لا يلبث أن يظهر كذبه لو انتظرت له قليلاً، ولكنك حتى فيما توهمته عجول لإثباته قبل تحكيم العقل فيه.
ما كان أحراك أن تنظر - قبل تأييد هذا الوهم - إلى أني لم أكن يوماً لا أدرك أو تراني كان بيننا من الضغائن ما يوجب العداوة هذا إذا كنت تقول معي إنك كنت واهماً وإلا فأنت لم تجد ما تقول للذود عن نفسك أوقع من أن تدعي بهذا الزعم. انتهى كلام محمد راسم.
على هامش الرد:
وكقارئ، أجد نفسي ميالاً إلى تحليل بعض ما جاء في رد الأديب (محمد راسم)، وهذا ليس دفاعاً عن الغربال - فقد رحل الاثنان إلى دار البقاء لملاقاة وجه الله تعالى - ولكن للوقوف على مدى صحة الاستشهاد بالأدلة في العملية النقدية.
أولاً: يبدو أن الأديب (راسم) متعلق بالرؤوس المفكرة في الغرب، وإن إخفاق تلك العقول في الوصول إلى حل المشكلة، يعني إنهاء المسألة لعدم إمكانية قدرة الغير على مجاراتها، لأنهم أهل التقدم الفكري، وغيرهم ما دون ذلك، والنظرية القائمة في ذلك العصر تقول: (الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان). وهكذا "استكثر الأديب" محمد راسم" على "الغربال" أن يخوض في مسألة الفحص الطبي على المتزوجين لأنه (موضوع أشغل الغرب أكبر رؤوسهم المفكرة زمناً طويلاً فلم يستطيعوا معالجته بهذه الطريقة المباشرة) وهذا وهم كبير كان يجب على الأديب التحرر منه لكي لا يقع في عبودية المذاهب الفكرية التي تتنافى مع عقيدتنا الإسلامية.
ثانياً: يرى الأديب (راسم) إنه لم يكن مخطئاً في تناوله لشخصية "الغربال" لأنه لم يخرج على خطة العظيم (ملن) الذي قال: (إن النقد الوحيد الذي قد يساعد المنقود أية مساعدة هو ما يجيء من ناقد أقام الدليل على أنه يألف شخصية المؤلف وأسلوبه ونظرته إلى الحياة، لأن المؤلف قد تخطئ شخصيته في هذا الموضوع أو ذاك) هنا يؤكد الأديب راسم - يرحمه الله - تمسكه بالآراء النقدية الغربية، فاتخذ من رأي أستاذه (العظيم) - كما وصفه - منهجاً لممارسة العملية النقدية.
ومقالة "ملن" - كما تبدو لنا - تعني ضرورة دراسة السيرة الذاتية للأديب للاستفادة منها في تقييم عمله الأدبي، ومؤالفة الشخصية لا يعني التهجم عليها أو السخرية منها، وإنما لتكون عوناً للناقد في تصور انعكاس أحداث السيرة الذاتية "سلباً وإيجاباً" على مجريات العمل الأدبي.
ثالثاً: الغربال في نظرته ومعالجته للمواضيع الاجتماعية والأدبية يعتمد على المنهاج الإسلامي، لا يحيد عنه قيد أنملة، وأدلته تعتمد على كتاب الله الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم على السنة الشريفة المطهرة.
وقد لاحظنا في رد "الغربال" تمسكه بأدب الحوار. فلم يسخر، ولم يلمز، ولم يشهر بصاحبه، وإنما كان يدعو له بالهداية، ويطلب له العفو والسماح من المولى عز وجل، لأنه يتمسك بهدي القرآن العظيم، والله تعالى يقول: يَأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُم ولا نِسَاءٌ مِن نِسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّم يَتُبْ فأُوْلَئْكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (2) .
هجوم (المنسف):
وبعد الأديب (محمد راسم) ظهر خصم آخر للغربال هو "المنسف" - الاسم المستعار للكاتب - ولم أعثر على اسمه الحقيقي.
نشر "المنسف" مقالين متتاليين في (صوت الحجاز) الأول في العدد 44 وتاريخ 11/10/1351هـ والثاني في العدد 45 وتاريخ 18/10/1351هـ، تحت عنوان ساخر (معجزة عصرنا الزاهر الغربال) وقد كتب المقالين على هيئة مقاطع نثرية تفسر كلمات انتقاها "المنسف" للسخرية والاستهزاء بشخصية الغربال. ويلاحظ على كتابته ذلك الحشو (غير اللائق) من العبارات العامية المبتذلة التي تميل إلى "السوقية، أو لغة أهل الحارة" ويبدو أنه وقع في هذا المأزق لحماسه السلبي الذي دفعه للكتابة والذي أوضحه في (الأسباب) لإرضاء أصدقاء (المركاز) الذين أرادوا الوقيعة بينه والغربال.
لنقرأ ما جاء في المقال الأول:
مقدمة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله أولا وآخراً.
الأسباب:
يعلم الله أني دعيت للكتابة مرغماً من قبل أصدقائي وإلحاحهم الشديد لأبدي رأيي الخاص - في الغربال - مع علمي بأنهم يقصدون اشتباكي والغربال، مع حرصي الشديد من الوقوع بزمرة المتغربلين ولكن (على مين) وما زادني حيرة وتأخراً سوى طلبهم في أن أكتب ما في ضميري من الشوق نحو - سيدي الغربال - فمعذرة أيها الزميل (وجزى الله الأسباب ألف خير).
الغربال:
قطعة من الخشب على شكل إطار يغطي أحد سطحيه وجه مثقب يختلف اتساع وضيق ثقوبه حسب الطلب.
غربالنا:
معروف أو غير معروف ليس المهم، والأحسن ألا يعرف فهو شاب في رأسه شعر قليل، ولذا هو غني عن التواليت وليس للمشط قيمة لديه، وملابسه ليست على آخر مودة بل من الطراز الاقتصادي الحديث وهو لا يميل إلى ركوب الدراجة إلا للضرورة، ويمقت كلمة (آلو) في التليفون.
قلمه:
سيال من نوع - فياض - ذو معان لطيفة خفيفة ترجع إلى العقل الوقاد والفكر الصائب (يا سلام) ولا يمكن وصف رشاقة يده وخفتها في تسيير قلمه - المعنى - حينما تتضارب (يا لطيف) الأفكار العصرية بعبقرية تصوير الحقائق، وكم من المرات وحبر الدواة انتهى قبل أن يخط حرفاً خشية أن يقال حبر على ورق (ربنا سلم).
أفكاره:
زي بعضها بمعنى متشابهة ميالة إلى الظهور (ولا مؤاخذة) فهي مشوبة بالشذوذ الاجتماعي المعروف ولذا نراها ناقصة بالنسبة للتطور الفكري المنشود ولا مانع من أن تكون حذاء الأفكار المنتظرة إصلاحها إن شاء الله.
"آراؤه":
لا بأس بها تحاول أن تكتسي برداء العصرية الحكيمة ولكن مع كل أسف فهي لا زالت نحو القهقرى بانتظام مدهش وقد يفهم أحياناً من كتاباته الشيقة التي تقرأ بشوق زائد وإعادة في النظر (بدون مبالغة) أن آراءه ابتدأت تتحسن ولكن عند الإمعان والتدقيق فإذا هي بالقديمة السابحة في عالم الخيال الذي يتصوره (يا أخي كده لوحدك بس)!
برنامجه:
ملخبط، القصد متنوع فتارة على الدراجة وأخرى على المطوفين ومحاضرة مع التجارة ومناقشة مع المربين، وساعة أمام المرآة والتواليت. كل هذا جار ونحن سكوت فكنت أتمنى له كتابة تصلح ما فات ولكن بالعكس فهي لم تزده إلا ثباتاً على المبدأ. ولا نعلم ما الذي يحويه برنامجه في المستقبل. وأملي ألا يكون ما في - الخرج - قد نفذ (يا الله يا كريم).
أدبه:
ليس بالكثير (بحسن نية) ولا مانع من حشره ضمن ناشئة الأدب من درجة - معليش - ولو أنه متقن للأدب الإغريقي ونقاده في الأدب الفرنسي (والعادات) ولكن معلوماته لم تتسع بعد في الأدب العربي وهذا - طبعاً - عائد إلى ميوله الخاصة، وقد اقتصد أخيراً على دراسة الاجتماعيات لأنها مهمة وهو يفضل - المهم على الأهم -.
فوارحتماه على الأدب الحديث فقد انهدم ركن من أركانه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم يتابع "المنسف" في مقاله الثاني عرض مقاطعه الساخرة بالغربال على نفس المنوال:
مناقشاته:
مناقشة طويلة ومملة وعلى غير أساس وحجج معقولة وقد تعجبنا عناوينه كقوله (النقد شيء والشخصيات شيء آخر) فكأنه يفهمنا بلطف - أنه من ذوي الشخصيات التي لا يجوز التعرض لها، أما بلاغته فحدث عنها ولا حرج لا سيما في قوله سامحك الله، عفا الله عنه، من هنا يتبين لنا تسامحه الواضح من نقده ومريديه بارك الله فيه.
لغته:
مع أنها جيدة (يمشي حالها) بمعنى مقبولة، ولا نزال نستغرب وضعيتها من حيث أنها لغة أهي عربية فصحى فهي مكسرة محشوة بالأغلاط النحوية (وهذا كلام سادتي اللغويين) وإن نظرنا إليها من الوجهة الصحفية فهي شاذة من حيث التركيب العديم المعني والقصور بالطريقة المخترعة حديثاً (تشكر) وكم تمنيت أن يكون لي حق لا نصبه عليه أستاذاً يوضح قليلاً في حقك يصفه إلى جمهور.
مطالعته:
كثيرةً جداً وخصوصاً في المجلات الأسبوعية والجرائد اليومية - القديمة - وهو يميل إلى التلخيص والتحويل إلى القلب الذي يصفه إلى جمهور قرائه، وقد عثرنا (يا ساتر) على آراء ومباحث وجمل سبق نشرها في صفحات الخارج ولكن شطارته في النقل السريع قد رفعته في عين قرائه (كلها حظوظ).
قرؤاه:
من العال فهم يرتقبون حركاته القلمية من حين لآخر ولا تسل عن شوقهم العظيم لمعرفة شخصيته الفذة (سابقاً) وطالما تحدث المجلس عنه مطنباً على جرأته وأدائه الحكيم (برضه سابقاً) حتى أن كثيراً من الأدباء تراهم في تعجب شديد من ميدانه الخطير وجولاته المهمة في عالم السياسة.. الأدب والاجتماع (كمان سابقاً) والكل صامت ليس عن جبن كلا وإنما لمعرفة النهاية. والحمد لله فقد ظهرت الحقيقة لاحقاً وتبين للجميع أن (مخلاة) الغربال فرغت وإن ما كتبه ليس إلا كماليات مفهومة وقشور اجتماعيات ليست بذات أهمية (يا ناس انصفوا نحن عندنا كم غربال؟)
النصيحة:
مستحسنة لأمثال سيدي الغربال، فلذا سأبدي له ما يجول بخاطري (رضي أم غضب):
1 - أن يمتنع عن التحرير مدة لتستريح أعصابه الهائجة ثم يعود بتؤدة وسعة بال في التفكير.
2 - لا يكتب فيما يجهله (الناس تفهم).
3 - إعادة ما كتبه ليصححه.
4 - عدم التدخل فيما لا يعنيه (تذكر المثل).
5 - انتقاداته يراعي فيها أن تكون مقبولة في محلها من التهجيص.
النهاية:
فقد سطر قلمي الحاد المزاج ولكن ليس لغرض سوى المداعبة، فالمرجو السماح وإن كانت المسألة فيها رد - فالميدان فسيح - وهناك نسمع صهيل الخيل المستعارة ولمعة السيوف الخشبية وهروب الأصدقاء (الذين حمسوني) من جبهة الدفاع. والخلاصة (ما رأيكم فيمن ورط نفسه بنفسه) إلى الملتقى.
* * *
ولعل القارئ يشاركني في أن المسائل التي طرحها المنسف بطريقته الساخرة لا تعدو إثارة لا مبرر لها، فالجدية تكاد أن تكون معدومة في ثنايا السطور التي بلغت "مقالتين". وكان الأجدر أن تشغل تلك المساحة من الجريدة فيما يفيد. والمداعبة التي تمس شخصية الكاتب ليست مقبولة في عالم الصحافة. بل يحاسب صاحبها، وحين يعترف "المنسف" بأن قلمه حاد المزاج وأن غرضه المداعبة، فإنه يظهر تناقضاً عجيباً يخلط حدة المزاج بالمداعبة، ثم هو يدعو إلى (الميدان الفسيح) إذا كان المسألة فيها رد، وكأن العملية النقدية شبيهة بساحة (المزمار) تلك اللعبة الشعبية المعروفة في ذلك العصر.
لكن كيف كان رد "الغربال" (حول مقال المنسف)؟
كتب "الغربال" في العدد 46 وتاريخ 25/10/1351هـ من جريدة (صوت الحجاز) ما يلي: (إنني لا أريد أن أقابل سيئات الأخ بمثلها، ولا أريد أن أقول أن الكتابة التي كتبها سيئة وبعيدة عن روح النقد البريء، إني آسف على كون كتاباته الأخيرة أعطتنا دليلاً على نفسيته ونزعته.
إن اعتقاد الأخ، أو بمعنى أصح وهمه بأن سخط قسم من الأمة على الغربال جعله يكتب ما كتب مداهنة لهم، عله يكتسب رضاهم، وما حسب حضرة الأديب لتطور الأفكار في المستقبل حساباً، لذلك فقد اعتزمت خدمة للحق والحقيقة طبع الغربال في كتاب مع إضافة مقالات جميع الكتاب الذين جالوا، وسيجولون بأقلامهم حول مواضيعه في الماضي والمستقبل.
يقول حضرة الأديب في قسم قرائه: "والحمد لله قد ظهرت الحقيقة - لاحقاً - وتبين للجميع أن مخلاة الغربال قد فرغت، وأن ما كتبه ليس إلا كماليات مفهومة وقشور اجتماعيات ليست بذات أهمية". ومع كون هذا التعبير لا محل له فإني أعذر الأخ لأنه لا يعرف أن للغربال عدة مواضيع لدى جريدة "صوت الحجاز" ومنها موضوع بتوقيع (الغربال) وآخر بتوقيع (حجازي) وثالث بتوقيع (صحفي)، وكلها لم تنشر، وإذا كان الغربال يكتب ويرسل إلى (صوت الحجاز) ولا تنشر فما ذنبه؟ وإذا كانت وسائل النشر مسيرة (3) في الحجاز فماذا يعمل الغربال؟
إني آسف جد الأسف على الخطة التي سارت عليها "صوت الحجاز" مؤخراً إذ هي قد أهملت عدة مقالات لا تخلو من الفائدة والمنفعة.
ونحن نعتب هذا العتب على جريدة "صوت الحجاز" لأنها هي الجريدة الوحيدة التي يمكننا أن ننشر فيها أفكارنا وآراءنا ورغبتنا أن نراها للأمام.
هذه كلمة بريئة أقولها مع احترامي لصداقة وشخصية جميع موظفيها.
وإذا كنت شكرت الأديبين "المنسف" و "م. راسم" في مقالي السابق على مقاليهما فليس معناه أن ما جاء فيهما حق وحقيقة، ولكن ذلك من باب التشجيع ليثابرا في النقد، لأن نتيجة المثابرة، نجاح مؤكد، ووالله أنه يسرني نجاحهما وأطلب لهما التوفيق.
وإني الآن أستسمح "المنسف" لأناقشه في بعض ما جاء في مقاليه، وموعدنا مع "راسم" في مقال آخر.
شرف الكاتب:
لفظة المنسف بفتح الميم وكسر السين معناها في اللغة (فم الحمار)، وبكسر الميـم وفتـح السـين "المنسف" معناها الغربال الكبير، وأصلها نسف من باب فعل، وتجمع على "مناسف" ونسف الشيء قلعة من أصله.
لم يكن قصدي في أول الأمر أن أرد على مقالات الأديب "المنسف" لعدة أمور:
1 – لأن الأديب أفادنا في أول مقال نشر له أنه يعبر عن رأيه الخاص، وما دامت المسألة محدودة، وتعبيراً عن آراء خصوصية، فهو حر في آرائه وأفكاره، حر في قبول ما يريد ورفض ما يكره، هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن الآراء الخصوصية لم تكن في يوم ما ميزاناً لرأي الأمة، ولا يستند عليها، لأن رأي الفرد، قد ينطبق على رأي الأمة وقد يشذ.
2 – لكونه مبنياً على غير أساس، وليست هناك حجج تؤيد أقواله، فهي أقوال بلا بينات.
3 – لكون المقال من أوله لآخره استهزاء وصلافة، وخروجاً عن الحدود الأدبية، فإني أقر بعجزي عن مساجلة حضرة الأديب في هذا الباب، لكون آداب المناظرة أرفع وأعظم من أن تسير على هذا المنوال، لأن النقد ليس معناه السباب والشتم.
هذه بعض الأسباب التي جعلتني أغفل في مقالي السابق الرد عليه متمثلاً بقول القائل: "ولي أذن.." ولكن ظهر مقاله الثاني على وضعية وأسس المقال الأول، وكاد يكون نصيبه عندي كسابقه لولا أنه توجد فيه افتراءات لا يمكنني السكوت عنها، وإني أجل حضرة الأديب من التمادي في مثل ذلك، خدمة للمصلحة العامة، والحق والحقيقة ونزاهة الضمير.
قد يمكن أن أتساهل مع حضرة الأديب في كل شيء إلا في أمر كهذا، لا يمكن أن أتساهل فيه لكونه افتراء محضاً مشوهاً للسمعة القلمية.
يقول حضرة الأديب في قسم المطالعة - في المقال الثاني - ما نصه (وقد عثرنا "يا ساتر" على آراء ومباحث وجمل سبق نشرها في صفحات الخارج) وهذا زور وبهتان كنت أود أن يترفع عنه حضرة الأديب، وأن يفكر قبل أن يخط بقلمه تلك الكلمات التي تمس شرف الكاتب، أو أن يأتي بالجمل والمباحث التي يقول: أنه سبق نشرها ويدلنا على المكان الموجودة فيه إذا كان صادقاً في مدعاه، أما كونه يقدم على مثل هذه المغامرة غير الحميدة فيصيب غيره في الصميم مكتفياً بقول: "وقد عثرنا.. إلخ" . فلا يحق له ذلك ولا تقره نزاهة الضمير، ولا قوانين الكتابة، لأن القول المجرد غير المدفوع تبجح لا يفيد صاحبه. إن الواجب الأدبي يقضي على حضرة الأديب ألا يرمي الأحكام جزافاً بغير روية بل يجب أن يعرف معنى ما يكتب، أو يسترشد إذا كان جاهلاً بقوانين الكتابة، وإذا كان قصده من الكتابة التحبير والتسطير، فقط، فيجب ألا يتعرض لشرف غيره دون وجه حق).
رأي الأديب السباعي:
المؤرخ الأديب أحمد السباعي من المشهود لهم في مجال "الأدب والصحافة" وله مكانته الأدبية. وقد تابع الحوارات التي جرت بين الغربال وخصميه، فنشر مقالاً في (صوت الحجاز) العدد 49 تاريخ 16/11/1351هـ تحت عنوان: "الفرسان الثلاثة الغربال - راسم - المنسف" وضع الثلاثة في ميزان النقد، حسب تصوره لمجريات الجدل فيما بينهم. يقول الأستاذ السباعي:
(استمر الجدل بين الغربال ومنتقدي الغربال، كل له رأي وكل له منزع وكل يأبى إلا أن يكون صاحب حق فيما يرتئي وينزع ونحن.. نحن القراء شهود هذا السباق واستهوتنا مشاهده بادئ ذي بدء، وقلنا جديد ممتع نسرح فيه الطرف ونسري به عن النفس من غير ما خلجة ساورتنا في أن هذا الجانب ستندلع جوانبه لهيباً، وإن فرسان الرهان فيه ستتراشق بالحمم والمقذوفات حتى تتابعت الفصول، وكان ما كان مما لا نغتفره للغربال ولا منتقديه.
أي غربالنا - إني لأعلم أنك اليوم في موقف المدافع، لك أن تتدرع بنفس سلاح مقابلك، وأظنه لا يفوتك إنك أنت الذي هيأت لنفسك هذا الموقف، فكنت قاسياً في كثير من أحكامك، وكان البعض يعتذر لك بأنها نفثات مكروب وآهات كليم، ولكن البعض الآخر إذا قام يحاسبك اليوم فمن حقه ذلك، ثم إذا قسا عليك فضع في الجراب وقل في سرك لنفسك أنها واحدة بأخرى حتى إذا اشتط فحسبك عزاء أنك كتبت ما كتبت لترضي ضميرك.
وأنت يا سيد راسم لأن أهيبك فإنما أهيب فتى من غواة الفنون الجميلة، والفنانون صافوا الأرواح عالوا النفوس لا يختلطون بأوصاب الحياة ولا ينزلون إلى أوحالها، أهيب بك أن لا تستهويك مساجلة الغربال فتوليها شطر وجهك في وقت نحن أحوج فيه لأن تكلمنا عن فنونك وتسترعي انتباهنا إلى جمالها.
ثم إنك كفى عليك أن تكون رقيق العواطف لطيف الحواس، وإنه لكثير جداً إذا سمعناك تغلظ في قول عندما تساجل الغربال.
استفز كامن غيرتك موضوع الكشف الطبي؟ ألا فاعلم أن في هذا النوع من الذين ينتصبون لإصلاح الناس جيد الخيال يتصورون العالم ما شاؤوا وحسبهم نواياهم، وإنه إذا جاز لنا أن نغضب فعلى قسوتهم على ألا نكون قاسين مثلهم كما فعلت، وإني لأصغر من أن أسترعي انتباهك قول الشاعر: (لا تنه عن خلق وتأتي مثله...).
ثم ما رأيك يا حضرة المنسف عساني لا أغضبك إذا قلت لك أن مداعبتك للغربال كانت حرباً عواناً أعلنته على غاو دنف في حرب الإصلاح، وفي رأي أن المدنف والمحب إذا غوى أو اشتط أو جن فمن الحكمة أن نربت على صدره حتى يهدأ وتسكن أعصابه، ولا بأس من ثواب بارد نطفئ به حرارته حتى إذا هدأ بدأنا نتفاهم وإياه ولنا إذا استعصى بعد ذلك أن نقارعه بالحجة وننازله بالبرهان.
يدعي البعض إنك تحب المداعبة والتهكم، وإنك نازلت الغربال بدافع ذلك، فإذا صح وإني استبعده فصدقني إنها كانت مداعبة قاسية وإن تهكمك على لغته وأدبه ومطالعته كانت حدة لا طاقة معها.
أفكاره - ما هي أفكاره - إني أوافق على أنه يكتب أكثر مما يقرأ، أما أدبه فهات يا أخي عشرة في كل البلاد العربية يكتبون للأدب كفن ثم لا يسيئون، ثم قل لي ما رأيك في أدبي وأدبك (ربنا يستر) ولغته - ألا تدري إن كثيرين من أمثاله لا يجعلون اللغة أكثر من كونها أداة يصلون بها إلى مسامع القراء ثم وظيفتهم بعد ذلك الحياة نفسها يتصلون بها ويبحثون في مرافقها.
ومطالعته - أليس في وسعك أن تقول: أنه طالع كثيراً فتأثر وأثر ثم اندفع يكتب مستقلاً، أسمح لي أهمس في أذنك أنك قاس إلى أبعد حد، وقسوتك هذه جعلتك تؤاخذ بنفس ما أوخذ عليه الغربال، فعلى رسلك، وهون على نفسك).
على هامش الرأي:
نستشف من مقال الأديب أحمد السباعي حول "الفرسان الثلاثة" ما يلي:
أولاً: كان الأستاذ السباعي يرحمه الله يهدف - في هذا المقال - إلى تهدئة الصراع بين الغربال ومنتقديه، ولم يكن مقاله تحليلاً نقدياً لما كتبه الثلاثة ليبين جانبي الخطأ والصواب فيما أوردوه. وهو في هذه الحالة التزم جانب الحذر من الميل إلى أحد الأطراف المتصارعة.
ثانياً: لم يكن الأستاذ السباعي راضياً عما كتبه "المنسف" لكن تحليله لبعض ما كتبه عن "الغربال" أفكاره، لغته، مطالعته، لم يكن مقنعاً لرغبته في التمسك بأسلوب التهدئة الذي رسمه لمقاله.
ثالثاً: يقول الأستاذ السباعي - مخاطباً الغربال - (أي غربالنا، إني لأعلم أنك اليوم في موقف المدافع، لك أن تتدرع بنفس سلاح مقابلك…)!!
لا أدري كيف فات على أديبنا الكبير أن سلاح المقابل كانت السخرية والتشهير والاستهزاء والغربال لم يستخدم هذا السلاح لكونه ملتزماً بقيمه ومبادئه عقيدته الإسلامية التي تحرم ذلك.
بقي أن نورد رأي الأستاذ الدكتور محمد بن سعد بن حسين في موقف الأستاذ السباعي من الفرسان الثلاثة: وقد جاء في الصفحة (224) من كتابه (محمد سعيد عبد المقصود خوجه، حياته وآثاره): (وقد حاول السباعي أن يحكم بين الخصوم فكتب مقالاً تحت عنوان "الفرسان الثلاثة" الغربال ومحمد راسم والمنسف).
ورغم محاولته أن يكون وسطاً إلا أنك تحسّ من مقاله احتراماً للغربال وتقديراً للكلمة، وإن حاول جاهداً إخفاء ذلك الاحترام والتقدير، ولو أنه صدع بالحق لكان ذلك أجدى.
فلعله أراد إيقاف هذا الجدل الذي لم يكن لخدمة الحق من طرفين أو من ثلاثة، ومما يؤيد ما استوحيناه من حكم على هذا السباعي ما كان يجري بينه وبين ابن عبد المقصود من مناقشات في موضوعات أخرى (سأوردها لاحقاً).
ثم يبدي الدكتور ابن حسين رأيه بصراحة في صاحب الغربال الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود: (ويبدو أن هدوء خوجه، وترفعه عن المسابة والمشاتمة، والتزامه اللياقة الأدبية فيما يكتب، يبدو أن ذلك وغيره هو ما جعلهم ينفسون عليه ويحاولون استفزازه ليدع حلمه ووقاره، لكنه ظل ملتزم الرصانة والهدوء، وحدود اللياقة الأدبية. وقد يظن البعض أني قد بالغت في الرفع من قدر الرجل، وإني قد تجنيت على خصومه، ومع أني لا أدعي العصمة، ولا أنفي عن نفسي احتمال الخطأ، إلا أني كتبت ما كتبت مطمئناً إلى أنه الحق، في نظري على الأقل).
بين السباعي وابن عبد المقصود:
التنافس الشريف بين أديبين فاضلين كالسباعي وابن عبد المقصود لا يمكن أن يلغي صلة المودة والتقارب، والصداقة التي كانت بينهما، ومهما ذكر من خلاف في الرأي بينهما فإن "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية".
يؤكد هذا القول أستاذنا الأديب محمد حسين زيدان في كلمته التي ألقاها ليلة تكريم "الاثنينية" للشيخ أحمد السباعي 19/5/1404هـ - 20/2/1984م) يقول:
(عندما أصبح رئيساً لتحرير صوت الحجاز، وأصبح مديراً لها - أي الأستاذ السباعي - .. لا أذيع سراً أنه كان المفروض فيه أن يكون منافساً لمحمد سعيد عبد المقصود، فمحمد سعيد عبد المقصود له مواقف إيجابية وسلبية.. وكان بعض الناس لا يريدونها منه إذ يريدون منه أن يتواطن فلم يتواطن.. فأرادوا أن يستغلوا السباعي في هذا الموقف، ولكن السباعي لم يكن إمعة، ولم يكن بموضع الطاعة، فإذا هو أصبح الصديق والرفيق لمحمد سعيد عبد المقصود، ذلك لأن الشباب مثل السباعي وأمثاله لا يمكن أن يسخر أديباً ضد أديب.. قد يختلف أديب مع أديب، ولكن بدافع التنافس الشخصي أو العناد الشخصي، أما أن يسخر أديب على أديب من قوة خارجة فأنا أتحدى من يبرز لي مثل هذا الأديب.. لا أريد أن أسمي الأشخاص فالسباعي أبى أن يسخر ضد محمد سعيد عبد المقصود) (4) .
ولكن ماذا جرى بين الأديبين الصديقين؟
هذا ما سنعرفه من خلال متابعتنا لمقال لابن عبد المقصود وآخر للسباعي.
((ملاحظات حرة)):
كتب "ابن عبد المقصود" صاحب (الغربال) مقالاً في العدد 213 تاريخ 10/4/1355هـ "صوت الحجاز " تحت عنوان" إلى الصديق السباعي" جاء فيه:
(ما أحوجنا أيها الصديق إلى النقد البريء، وما أحوجنا إلى تتبع مواطن الضعف ومعالجتها في حكمة وروية، وما أحوجنا إلى تجنب المياعة في القول وإرضاء النفوس الضعيفة بتسويد الصحف، وما أحوجنا إلى التشجيع والتعضيد، ما أحوجنا أيها الصديق إلى كل هذا، وما أجدرنا بتحويل أفكارنا إلى معالجة أشياء كثيرة لا تزال تنتظر منا المعالجة.
أنت أيها الصديق إلى كل هذا. أنت أيضاً أحد حملة الأقلام في هذا الوطن العزيز، وأحد الذين ينقمون على الكثير من عوائدنا السيئة فيحاربونها، وأحد الذين يتابعون أدواءها ويعالجونها،. أنت أحدهم، شكرنا لك ذلك وشجعناك عليه، إلا أن هذا لا يمنعنا من أن نناقشك الحساب إذا احتاج الأمر إلى مناقشتك الحساب، أنت تعرف أيها الصديق أني أنقم عليك أسلوبك في الكتابة ومياعتك في الأسلوب، وأتمنى لو فكرت فقدرت فعدلت عن هذه المياعة في الأسلوب، وذلك الأسلوب في الكتابة إلى ما يتفق وروحك إن لم يكن إلى أبعد حد فإلى حد ما، ولكن أبيت وأصررت فلك رأيك، ثم أنت تعرف إني أنقم عليك طرقك بعض الأبحاث والملاحظة عليها لأنها لا تستحق ذلك ولأن لدينا ما هو أجدر منها بالبحث والملاحظة، وطالما ناقشتك الحساب ولكنك كنت تقول: "هي الفرض أو وجدت ذلك؟".
وأنا لا أنقم عليك هذا أو ذاك إلا لكونك صديقاً عزيزاً تربطني وإياك أقوى الروابط وأقربها، ثم أنت مخلص، يدفعك إخلاصك إلى مثل هذه المواقف في أكثر الأحايين، فيغفر لك إخلاصك زلاتك إن وجدت، وما كنت أود أن أتنازل وإياك في صحيفة سيارة على مثل هذا الموضوع من الخلاف ولكنك تجاوزت فوجب الرد، وليس هذا شفقة عليّ وإياك، وإنما شفقة على ما لدينا من أمور يجدر بنا تناولها لأنها منا فـي الصميم وإلى أشغال متراكمة تنتظرنا في عجل).
نستوحي من خلال قراءتنا لمقال "ابن عبد المقصود" إنه كان يتطلع إلى أن يكون الأستاذ السباعي جاداً في أسلوبه الكتابي، وأن يعكس بالفعل إيمانه بما ينادي به الغربال. فالسباعي كما وصفه ابن عبد المقصود (أحد حملة الأقلام في هذا الوطن العزيز، وأحد الذين ينقمون على الكثير من عوائدنا السيئة فيحاربونها، وأحد الذين يتابعون أدواءها ويعالجونها..) وكان يأمل منه مناصرته إذا ما وجد الحق في جانبه وأن يكون مشجعاً لكل من يريد الإصلاح.
ولعل "ابن عبد المقصود" لم يعجبه أسلوب السباعي الذي يُحلِّق في أجواء المفردات الأدبية، التي لا تنحو إلى المباشرة أو المواجهة، وإنما تميل إلى التلطيف بلغة مسالمة غير محتدة، فهو يريده كاتباً اجتماعياً يترجم موقفه بوضوح حول ما يثار من مسائل بينه وبين خصومه هذا ما أتصوره، والله أعلم.
على هامش ابن عبد المقصود:
وحمل العدد 214 تاريخ 17/4/1355هـ "صوت الحجاز" رد الأستاذ السباعي تحت عنوان "على هامش ابن عبد المقصود" قال فيه:
(قلت لصاحبي (ك) أتذكر يوم كنت أحاولك لتقتنع بأن إيثار النفس ومشايعاتها فيما تهوى طبيعة جبل البشر عليها، وأن ما يبدو - حيناً في بعضهم من تواضع للحق ونزول له ليس - إذا استثنينا المعصومين - سوى فذلكة محبوكة يجيدها أكثر من يجيدها البشر وكبار عقلائهم.
ذلك ليؤدوا بها مراسم تقتضيها ظروفهم وتفرضها عليهم اعتبارات خاصة يسمونها أحياناً أخلاقاً وآونة سجايا ومرة اسما أكثر لمعاناً.
قال: أجل أذكر كل هذا كما أذكر أنك حاولتني لأقتنع بأن هذه الفذلكة أو التواضع للحق ومناصرته لا يلبث إذا حدث رد فعل يضاد نزعة النفس وما تشايع أن يضعف تأثيره، ويتلاشى بالتدرج حل فوق قوته، أو ينتهي بها لأي دور سلبي يقوم فيه نكران الحق والمكابرة مقام التواضع والمناصرة له؟؟ جبلة طبع البشر عليها من يوم أن خلق البشر، أذكر هذا كما أذكر أن حجتك لم تنهض يومها بدليل مادي يقرك عليها. قلت: يرخص ما تطلب، والحياة كلها أدلة تنهض بدعاوى فإني مدل إليك بحادث الأسبوع، على أن أعدك بأقوى منه في الظروف غير..
إليك ابن عبد المقصود، شخصية حرة، تحب الحق وتناصره، بلوته طويلاً فعرفت فيه مئات الشواهد الدالة على صدق ما ظننت حتى إذا صدمته فيما تشايع نفسه وتنزع، إذا شخصية جديدة أدهش ما عرفت نكراناً ومغالطة للواقع، وإذا مخلوق غريب يبالغ في التحدي والهجوم والعنف، هاك نموذجه فاقرأه في هامشه على ملاحظات وعدل صاحبي في جلسته، وابتدر يقرأ حتى أتى على آخر سطر في المقال.. ألقى بالصحيفة جانباً، وما زاد على أن وجم وجوم المأخوذ ولم يحر جواباً).
ظهر القسم الأول من مقال الأستاذ السباعي على هيئة حوار مع صاحبه (ك) ينتهي إلى انتقاد حاد لموقف "ابن عبد المقصود" منه. ويبدي تألماً واضحاً من الهجوم الذي شنه عليه صديقه، ووصفه لأسلوبه بالميوعة، ولكن هذا لا يخفي اعتراف السباعي بأن شخصية ابن عبد المقصود (حرة تحب الحق وتناصره) غير أن لها أسلوبها الحاد، والجاد في الطرح.
ثم يوجه في القسم الثاني من المقال كلامه إلى "ابن عبد المقصود" يرد به على ما اتهم به من مياعة في الأسلوب. يقول: (كذلك كنت يا ابن عبد المقصود في جانبي دليلاً قوياً دعمت به خصماً عنيداً وتلك إحدى مننك التي عود فيها فضلك وإحسانك.
والآن.. لا أحسب أنه ظهر في أن أواجهك فأناقش تقلدك في ميدان هادئ لا يعكره النقع الذي أثرت. ينقم حضرتك على أسلوبي في الكتابة، جميل ليكن لك رأيك فلست آبهاً له ما دمنا لم ننصب لك بعد قبة الذبياني (النابغة) ترى ما هو الأسلوب الذي تستذوقه؟ أهو هذا الاسترسال في عطف جمل فاترة الروح أخذ بعضها رقاب بعض، في سلسلة طويلة تنتهي بالإمضاء لا يجد القارئ فيها متعة، ولا تروح فيها عنه نكتة؟ لئن كنت تعني هذا الهزل فما أهونه أسلوباً وأبرده فنا.
و (المياعة) أو الميعة - بالأصح - ماذا تعني بها؟ لئن كنت تعني هذا الهزل في الجدل الذي أنحوه فثق أن في أحبائك من يعيب عليك أكثر ما يعيب عليك فقدانه من كتابتك أظنك تثور الآن وتغضب في حدة – "لا.. لا أنتهي لنفس هذا".
على رسلك يا عزيزي في صنيعك كغضبك.. ألا فاستجب في هدوء إلى الفن واستوحه جمالاً ليقرأ الناس لك أدباً يصافح القلوب بعذوبته ومرحه، ولنتعرف أن ما تسميه (ميوعة) ليس أبعد بينه وبين الميوعة وتريديني أن لا أطرق بحثاً إلا ما كان يستحق الاهتمام، وما أجملها أيضاً فكرة لو وضعت لي بموجبها قائمة بما تراه مهماً، وأجمل منها، لو أشرت إلى ما لا ترضاه فأنتهي عنه).
وهكذا من خلال رد الأستاذ (السباعي) على صديقه (ابن عبد المقصود) يمكننا الاستدلال على جانب مهم يعكس لنا أدبيات الحوار، فرغم التأثير لكلمة "الميوعة" في نفس أديب متمكن مثل "السباعي" إلا أنه تلقاها بهدوء وحاور صاحبه بلطف مؤكداً التزامه بالأدب الذي "يصافح القلوب بعذوبته ومرحه".
الأديب السباعي، لطيف في معاشرته، يريد للنكتة أن تكون متعة الحديث ولو كان جاداً، يحلق في فضاء الفن والجمال، صاحب أسلوب أدبي رشيق في كل ما يكتب، حتى في التاريخ. اقرأوا له (تاريخ مكة) تجدوا لذة السرد القصصي الموشي بأسلوب الأدب الرفيع.
والأديب ابن عبد المقصود، منح لكل فن مذاقه، فحين يكتب في الأدب يعتمد الأصول في طروحاته، وفي التاريخ طرائق بحثه ومنهجه، وأما في الصحافة التي بلي بمتاعبها، فإنه التزم "الأسلوب الصحفي" المعروف الذي يخاطب عامة الناس، ليصل إلى الأذهان مباشرة.
ولعل ذلك ما يوضح الاختلاف بين الأديبين في الطريقة والأسلوب.
اطمئنان:
واجه الغربال آراء منتقديه بروح لا تحيد عن الحق وإيضاح الحقيقة، لأنه يهدف إلى الإصلاح، ولا يحمل سوى كلمة الحق. ويدرك تماماً أنه سيلاقي في طريقه من يحاول تثبيط همته، أو إجهاض أفكاره.. لكنه ظل مؤمناً برسالته نحو وطنه ومجتمعه، واثقاً فيما يقوله ويدعو إليه، مطمئناً إلى الصدى الطيب لما يكتبه من مقالات اجتماعية تعالج قضايا الناس وهمومهم. عَنَّ له ذات يوم أن يكتب تقييماً ذاتياً للمقالات الأولى التي كتبها تحت توقيع "الغربال" وكان سعيداً بالتجاوب الذي لمسه من أفراد مجتمعه.
- نشر المقال في جريدة "أم القرى" العدد 381 تاريخ 24/11/1350 هـ، تحت عنوان "مناقشة هادئة" بقلم "الغربال".
حضرة صاحب الغربال:
حبذا نزاهتك، وحبذا إخلاصك، وما قامت الأمم إلا على هذا النقد البريء، فسر في طريقك مغلغلاً داخل أمتك، وليس في أمتك من لا يقدر لك هذه النزاهة وهذا الإخلاص، وأن أول مقال طالعت فيه الناس تحت عنوان "مغربل" جديد وشرحت الطريق الذي ستنحوه، تفاءلوا بخطوك نحو الأمام وما طلعت إليهم بعد ذلك بمطلعك "عائلتي" حتى تهافتوا على قراءتك، وأعجبوا بمعرفتك مواضع الداء وتدرجت بعدها إلى المدارس فكنت بحاثة جريئاً.
ودلت سطورك على نفس غيورة متألمة.. ذكرت تنظيم المدارس وعلقت عليها ثم تطرقت إلى الأستاذ ببحوث كثيرة "لفظة أستاذ عظيم يجب أن تكون رجلاً عظيماً.. عظيماً في نظر العالم في نظر الأدب وفي نظر الأخلاق، عظيماً في نظر الفضيلة" . هذه أمتك أو طلبتك تدل على إخلاصك، وأن تريد أن تكون لابنك أستاذ عظيم لينشأ ابنك عظيماً، والتلميذ سر أستاذه - ولكن الواقع غير ذلك إلا في المائة خمسة وعشرون فكيف العمل؟ الأمر هين: تعال نبحث عن الموضوع من جهة أخرى.
العظمة قبل كل شيء ولكني أقول: إن الاستغناء عن الناس من لزوميتها، فقل بربك لماذا كان كسقط المتاع عند الناس؟ ولماذا كانت أهميته في نظر العالم لا تزيد إلا بقليل عن أقل موظف؟ وإذا كان هو الذي يهيئ رجال الغد، ولنا عليه أن يكون عظيماً أفليس من الحقوق أن نساعده على عظمته، فنحيطه بالعناية والتقدير أو نكفيه على الأقل عيشه ليجد هو من نفسه قوة على حفظ مركزه اللائق به، والاستقرار في وظيفته المتوجه إليها.. أجل يجب على الأمانة أن تعمل لما فيه صلاح أبنائها من بث الأخلاق المرضية وتقبيح الرذائل والسخافات وإفهام كل واحد بأسلوب هادئ لا بالشتم والعنف، لأنه قد يدرك باللين ما لا يدرك بالعنف. فيا أيتها الأيدي العاملة أعملي لتلافي هذا الداء، ويا أيتها الرؤوس المفكرة فكري في مصلحة بلادك لأن هذا واجب عليك فما عذرك؟ وأنت أيتها الأمة انتشلي أبناءك من هاوية الجهل وارفعيهم إلى منار العلى وأحسني تربيتهم لأن ذلك واجب عليك.
أما أنتم أيها الآباء فنائمون - لأنه يوجد نائمون كثيراً - استيقظوا من سباتكم فلقد كفاكم نوماً، ألم توقظكم كل هذه الهزات العنيفة وتؤثر فيكم كل هذه الصرخات العالية؟ ألم تسمعوا بالتيارات الجارفة التي تكتسح النائمين أمثالكم؟ اعملوا جميعاً لتهذيب أخلاق أبنائكم، وثقوا بصدق قول الشاعر:
وإنما الأمم الأخـلاق ما بقيـت
فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبـوا
بهذه الصرخة الداعية إلى مكارم الأخلاق، والعمل الجاد، كان الغربال ينادي أمته، وكأننا في يومنا هذا بحاجة إلى دروس ذلك الإنسان النبيل: "محمد سعيد عبد المقصود خوجه" نستقي منها عناصر حية، تنفعنا في رسم الخطوط العريضة لمنهاج "التربية الوطنية" .
لقد كان "ابن عبد المقصود" :
- بارعاً في الصحافة والأدب.
- أميناً في التاريخ.
- معلماً في التربية.
- خبيراً في الاقتصاد.
- داعياً إلى الإصلاح.
- لا تأخذه في الحق لومة لائم.
رحمه الله رحمة واسعة، وأثابه خير الجزاء لقاء جهاده في سبيل كلمة الحق.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :716  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 73 من 111
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان الشامي

[الأعمال الكاملة: 1992]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج