رسالة الصحافة |
قبل أن يشهد العالم هذا التطور السريع الهائل في مجال "الاتصالات" كانت الصحافة ومعها المذياع هما الوسيلتان الأكثر اقتراباً والتصاقاً بالجماهير. ورأينا في القسم الأول من هذه الدراسة الأثر الفعال الذي قامت به الصحافة (في أوائل القرن الرابع عشر الهجري وفي منتصفه) سواء في تسجيلها للأحداث السياسية والاجتماعية، أو توثيقها للبدايات الأولية للحركة الأدبية في الحجاز. |
ووسيلة الاتصال المطبوعة لها وظائفها وأهدافها في المجتمع. وقد لخص العالم الأمريكي "هارولد لازوبل" هذه الوظائف في الآتي
(1)
: |
1 - مراقبة البيئة، وتوفير المعلومات عن الظروف أو الأخطار المحيطة بها. |
2 - ربط، أو التقريب بين، أو تحقيق الاتفاق بين أجزاء أو أفراد المجتمع، وكذلك التقريب بينها وبين البيئة نفسها من خلال التفاعل معها، فيما تتعرض له من ظروف أو أخطار. |
3 - نقل التراث الثقافي من جيل إلى آخر، وتعريف الأجيال بالقيم الاجتماعية، والأعراف والتقاليد الموروثة، للمساعدة في التنشئة الاجتماعية للأجيال الجديدة. والرسالة الإعلامية: (هي التي تفلح في تحقيق هذه المعادلة) : "الفهم + الإقناع = السلوك العلمي" . ومن الواضح أن الفهم في مجال الإعلام مقدمة إلى الاقتناع، وهذا أمر يتعلق بإعداد الرسالة وتهيئتها لتكون واضحة بالنسبة للمرسل إليه..)
(2)
. |
أما الكاتب الصحفي الناجح، فهو من يعي هذه الرسالة، وتلك الوظائف وغيرها مما يتناسب مع قيمه وعاداته، ويسخر قلمه في معالجة قضايا أمته بنزاهة وإخلاص، بعيداً عن الإسفاف والمهاترات، وحب الذات، ونجاح الصحفي في مهمته يعتمد على سعة تفكيره، وإلمامه بالقديم والجديد للأمور والأحداث التي يريد الحديث عنها، ومن ثم قدرته على الصياغة اللغوية التي لا تخرج عن حدود اللياقة الأدبية. |
والإبداع في فن الكتابة يتوقف على شروط منها: (التمرس بالأساليب الأدبية الرفيعة) يقول الدكتور محمد صالح الشنطي عن هذا الشرط
(3)
: |
لا يتأتى هذا الشرط إلا بالمطالعة الغزيرة الواعية للكتب الأدبية المشهورة، وقراءة الآثار النثرية والشعرية المتميزة، بما في ذلك الدواوين الشعرية التي أبدعها شعراء معروفون بموهبتهم وقدراتهم، مع العمل على تذوقها وتمثلها وفهمها، ومن شأن ذلك أن يسهم في تكوين ذائقة لغوية مدربة قادرة على التمييز بين الأساليب، والتمكن من اختيار الألفاظ المناسبة، وليس من شك في أن القاعدة الأساسية التي تبنى عليها القراءة والمطالعة هي دراسة كتاب الله دراسة عميقة، ومداومة الاطلاع على تفاسيره المعتمدة، فالقرآن الكريم هو المصدر والمرجع في فهم اللغة وتذوقها، واستيعاب الأساليب وتمثلها، فلغته لغة البيان المعجز ومنهل الفصاحة والبلاغة، والإلمام بآي الذكر الحكيم يربي الذوق ويصقل اللسان، ويؤسس ملكة الكتابة، ويزود الكاتب بمدد لا ينقطع من الحجج والأسانيد، ويأتي الحديث الشريف في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم، فالرسول صلى الله عليه وسلم افتخر بفصاحته حيث جاء في الحديث الشريف "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر"..). |
أردت بهذه المقدمة، إيضاح أن ما جاء فيها يكاد ينطبق تماماً على شخصية "الغربال" (الأدبية والصحفية)، فقد تعامل مع صحافة ذلك العصر وفق الرؤى والأهداف التي ينادي بها الآن خبراء الإعلام الحديث. |
فكاتبنا الغربال توفرت لديه كل الشروط اللازمة للعمل الصحفي الناجح. |
1 – فهو لم يستهلك قطرة حبر إلا في سبيل أن يكتب شيئاً يخدم به وطنه وأمته. فقد راقب البيئة، واستوعب ما فيها من عادات (حسنة أو سيئة)، وسعى إلى (تعريف الأجيال بالقيم الاجتماعية والأعراف والتقاليد الموروثة) ليساهم في تنشئة جيل جديد يدرك واجباته، ويعمل لإعمار الحياة. |
2 – ولم يقدم على إطلاق يراعه في عالم الكتابة إلا بعد أن توفر لديه شرط (التمرس بالأساليب الأدبية الرفيعة) مطالعة غزيرة واعية، قراءة مركزة في الآثار النثرية والشعرية، والاعتماد على القرآن الكريم ثم الحديث الشريف كمصدرين أساسيين في (تربية الذوق وصقل اللسان، والتزود بمدد لا ينقطع من الحجج والأسانيد). |
وكان من السهل على كاتب تتوفر فيه مثل هذه الصفات أن يحظى بقاعدة شعبية تصغي إليه، وتؤيد آرائه، فتدفعه إلى التواصل بشوق مع الكلمات الهادفة، رغم ما تحدثه من نزيف فكري مرهق، وهذا لا يخلو من وجود بعض المناوئين لتلك الآراء، أو المنتقدين لها، تبعاً للأذواق والأمزجة المتضاربة، وهو ما سنتناوله في الفصل التالي الذي نعرض فيه بعض الردود الانتقادية، والتعقيبات على مواضيع اجتماعية أثارها "الغربال" ويهمنا خلال قراءة تلك الحوادث أن نبرز الأسلوب الصحفي الرفيع الذي تميز به الغربال في الرد على منتقديه. وهو ما ننادي به الآن، ونأمله في صحافة اليوم. |
ونبدأ هذا البحث بتعقيبات "الغربال" على بعض المقالات التي تناولت ما تطرق إليه من مسائل تتعلق بالعادات الاجتماعية، أو الرد على افتراءات مضللة لحقيقة عادات وتقاليد أهل الحجاز. |
|