فكرة الاسم المستعار |
ولإيمانه بأن العمل الصحفي يتطلب ممارسة ميدانية تقربه من أحوال الناس، فقد خطر له ذات يوم أن يخترق "الشارع العام" من أوله إلى آخره، فماذا رأى؟ لقد سجل هذا الموقف في مقال له نشر في جريدة أم القرى ننقل منه هذا الجزء
(1)
: |
(اخترقت الشارع العام من أوله إلى آخره، وقد رأيت كثيراً، ولكن لم أجد من نفسي دافعاً يدفعني للكتابة، وأخيراً وأولاً، وقع نظري على (غربال) بيد أحد المارة فلم أشعر إلا ولساني يقول: غربال يغربل غربلة، وغربل غربلة على وزن فعلل فعللة، وفعلاً سرعان ما عرفت أن قريحتي الجامدة لا بأس أن تكتب عن الغربال، وأنا لا أعرف كيف يوضع ولا كيف يحاك، ولا كيف تنجر خشبته، لا أعرف شيئا من ذلك، صمت قليلاً لأفكر، ولكن لساني كرر غربال.. غربال.. يغربل غربلة، على وزن فعال – يفعلل فعللة. شيء غريب، مالي والغربلة، غربلة الحَبَّ أو الدخن أو الذرة أو الشعير أو الرمل.. لا بل أريد غربلة الأمة، غربلة المجتمع، غربلة العادات، غربلة كل شيء فينا. وأظن أن حاجتنا إلى النخْل أكثر بكثير من حاجتنا إلى الغربلة، ولكن ماذا أعمل ونظري السقيم لم يقع إلا على الغربال، ولا اختار إلا الغربال، ولا أعشق من دون كل شيء إلا الغربال، ولساني لم ينطق إلا بالغربال والغربلة ولا حلت عقدته إلا على الغربال والغربلة. فسيكون اسمي الآن غربالاً، وستكون صنعتي أو مهنتي أو حرفتي (حيا الله) الغربلة، وأرى من الواجب أن أغربل نفسي قبل كل أحد، ولكن كيف ذلك؟ في الاستطاعة أن أضع نفسي في الغربال، لأنه ممكن، ولكن ليس في استطاعتي أن أهز نفسي حتى يتخبط رأسي في إطار الغربال، لأن هذا غير ممكن، ولن يمكن إلا بشخص آخر. ومن هذا الشخص يا ترى؟ |
إذن فلتكن أنت أيها القارئ مغربلي، فغربلني كيف شئت وكيفما أردت، وكيفما تملى عليك أغراضك، وكيف تسول لك نفسك، وثق أني سأغربلك، وأنخلك، وأعجنك، وأخبزك وآكلك. وأقول لك بصراحة: إنَّك إذا تساهلت معي، فلن أتساهل معك أبداً، وأنت حر إذا أحببت أن تأخذ الثأر لنفسك مقدماً، أو تقبع في ركنك إلى أن يأتي الدور عليك فتندم، ولات ساعة مندم). |
* اختار محمد سعيد عبد المقصود – بعد هذا الموقف – اسم "الغربال" ليخاطب به مجتمعه، ولما لهذا الاسم المستعار من دلالة توحي بمصداقية الطرح، ومعالجة القضايا الحياتية اليومية بمنظار النقد الاجتماعي الموضوعي، لتنقية عادات المجتمع من الشوائب.. تماماً كما ينقي "الغربال" الحب. |
* والغربال في اللغة يأتي بهذا المعنى: |
(غربل) فلان في الأرض: ذهب فيها، ونحوه غربل الحب: نقاه بالغربال من الشوائب، ويعرف الغربال بأنه: أداة تشبه الدف، ذات ثقوب ينقى بها الحب من الشوائب. |
وتنطق (الغربال)؛ بكسر الغين وسكون الراء. |
* وقد استعمل الأديب (ميخائيل نعيمه) لفظة الغربال لعنوان كتاب له صدر عام 1923م، جمع فيه مقالاته النقدية في الشعر العربي الحديث. |
* كما حفل الأدب العربي بالعديد من الأسماء والتواقيع المستعارة، وفي زمن محمد سعيد عبد المقصود كثر استعمال الأسماء المستعارة التي ظهرت على صفحات جريدة (صوت الحجاز) و (أم القرى) نذكر منها ما يجده القارئ في الجدول التالي: |
الاسم المستعار |
صاحبه |
الاسم المستعار |
صاحبه |
أديب |
فؤاد شاكر |
راصد |
محمد عمر توفيق |
ابن جلا |
محمد حسن فقي |
الغربال |
محمد سعيد عبد المقصود |
الصحفي العجوز |
محمود شويل |
كاتب |
محمد سعيد العامودي |
أبو صفوان |
هاشم زواوي |
جرير |
سيف الدين عاشور |
باحث |
عبد القدوس الأنصاري |
قارئ |
يوسف ياسين |
الطائي الصغير |
عبد الله الغاطي |
الفتى القرشي |
حسن عبد الله القرشي |
الفتى النجدي |
حسين سرحان |
|
|
|
وهناك تواقيع لأسماء مجهولة مثل: (ابن رشيق – أبو عرب – ابن واصل – كاتب خبير – أعرابي – وطني – جهينة – المنصف – المنسف – المجهر – عربي – حقوقي – متألم – السيد – أبو عصام – يتيم – جيم - (ع) – (ع.ع.خ) – (ع.ظ.ج)) وغيرها كثير. |
لذا لم يكن بدعاً أن يدرج اسم "الغربال" ضمن تلك السلسلة الطويلة من الأسماء المستعارة، غير أن هناك من كان يعترض – أو ينتقد – مثل هذا اللجوء إلى السترة خلف اسم مجهول، لما فيه من طمس لمعالم شخصية أدبية، يفترض أن تكون معلومة لدى القارئ ليتفاعل معها بوضوح، فقد كتب الأديب حسين سرحان مقالاً تحت عنوان الأسماء المستعارة، يوضح فيه أسباب غرام بعض أدباء ذلك العصر بالأسماء المستعارة، وموقفه من هذا الأمر. |
(من الأشياء التي يجب أن نفاخر بها في نهضتنا الأدبية أن كل كاتب من كتابنا طفق ينشر أفكاره بين القراء كل حسب مقدرته الكتابية، وقام يعبر عما يخالج نفسه، ويلابس حياته الفكرية من الخواطر وشتى الإحساسات، وهذه ظاهرة فكرية تستحق التقدير والإكبار وقد برز واشتهر في عالم الأدب أناس لم نكن نعرفهم من قبل ولم تكن لهم شهرة ذائعة، وإنما بدأت شهرتهم تتسع وتروج على صفحات هذه الصحيفة الرشيقة بما تنشره لحضراتهم من نفثات أقلامهم وخلجات نفوسهم ودررهم الفكرية وملاحظاتهم القيمة. |
ولكن الذي يؤسف له حقاً، وننادي بعدم وقوعه بعد الآن هو ولعهم بالأسماء المستعارة وغرامهم بالاختفاء، وهذا شيء يحبذ من جهة كونه يدل على بغض الظهور، والكراهة للعظمة الكاذبة، ولكن لم يتسن ذلك الوقت الذي يحفزهم هذا الدافع الشريف إلى مثل هذا العمل المجيد، خصوصاً والشعب في حاجة ماسة إلى التعارف بأدبائه ومتنوريه وكتابه والاتصال بهم عن طريق معرفتهم والارتباط بأحوالهم، ولهذا الغرض وحده لا داعي إلى استعمال ألقاب: ابن رشيق، وابن واصل، وابن جلا..) |
ثم أوضح الأستاذ حسين سرحان أهمية إظهار الاسم الصريح: (أقترح على حضرات الكتاب والأدباء والشعراء أن يصرحوا بأسمائهم ويظهروا بمظهر الجرأة والإقدام أمام العالم العربي، ويكون هذا فيه من ذيوع الصيت وبعد الذكر في كل الأصقاع العربية مثلما اشتهر العقاد وشوقي وطه في مصر، والزهاوي والرصافي في العراق، وبدوي الجبل وجميل مردم وشكيب أرسلان في الشام. وغيرهم من الكتاب الأبطال الذين كانوا لأنفسهم ذكراً خالداً وصيتاً ذائعاً)
(2)
. |
وفي حقيقة الأمر أن الأديب محمد سعيد عبد المقصود صاحب (الغربال) كان – كما عرف عنه – من الزاهدين في الشهرة، وإن توقيعه تحت هذا الاسم المستعار كان من نصيب مقالاته (الاجتماعية) التي أثارت خصومه وحساده، فردوا عليه بأسلوب، يجنح كثيراً إلى النيل من شخصيته الوقورة، ويبتعد عن مجال النقد الموضوعي النزيه، كما سنلاحظ ذلك في ردود "المنسف" و "راسم" - ويأبى ابن عبد المقصود أن يكون اسمه (الصريح) مضغة في أفواه الحاقدين. وبما أن الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود كان إذ ذاك مديراً لتحرير جريدة (أم القرى) ومشرفاً عليها، فإنه الأقرب التصاقاً بالصحافة، والأكثر إلماماً بمفاهيمها وأهدافها، فهو حين يكتب مقالاً يتناول عادات المجتمع وهمومه فإنه لا يتحدث (من فراغ) وإنما يدلي برأيه من خلال رؤية واعية لكل ما يجري في محيط مجتمعه. (فقد درس العادات والتقاليد بعد أن نظر إلى واقعها في مجتمعه نظرة المصلح الغيور، فساءه كثير من تلك العادات والتقاليد، فأقبل عليها بفكره وقلمه، وأخذ يتابع تلك العادات، مثنياً على حسنها، مشنعاً على سيئها، داعياً مجتمعه إلى إصلاح ما أعوج من عاداتهم وتقاليدهم)
(3)
. |
|