الحياة العلمية والأدبية |
الأدب حياة الأمة، ومصدر قوتها وسر رفعتها، وأمة تعنى بالعلوم والآداب، هي أمة ترنو إلى مستقبل مشرق، يشعل النماء والتطور في سائر ميادين حياتها، يقول الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود، في كتاب (وحي الصحراء): |
(الأدب ميزان ثقافة الأمة، ودليل حياتها، وهو فن الحرية والجمال، يزدهر إذا تعهدته الفطر القويمة بوسائل الإنعاش، وأدب كل أمة صورة دقيقة لحياتها، ومقياس لتقدمها ورقيها؛ وكما أن الحياة تتقلب في أدوار مختلفة، وتحيط بها ملابسات متباينة، وتسير طبقاً لسنن الكون في النمو والارتقاء، والذبول والاضمحلال، فكذلك الأدب، يزدهر بازدهار الحياة ويذبل بذبولها)
(1)
. |
• والحجاز الذي فيه (مكة) مهبط الوحي، ومنه انطلقت (اقرأ)، بُلي بقرون مظلمة، حجبت عنه ضياء العلم والمعرفة، لولا بعض الأماكن التي حافظت على شيء من قداسة العلم. |
وفي العهد العثماني - كما في العهد الهاشمي - "بقي العلم على وتيرته التي ورثها من القرون السابقة، يتلخص في طلب العلم في حلقات الدروس التي ينظمها العلماء في المسجد الحرام أو في المدارس التي ينشئها المحسنون لإيواء الطلبة أو تدريسهم، وفي بعض دور العلماء الذين كانوا يمنحون طلبتهم دروساً خاصة"
(2)
. |
ولم يكن افتتاح مدرسة أو أكثر في ذلك العهد يوحي باهتمام يسعى إلى نهضة الحجاز وتقدمه بل كان همّ الدولة العثمانية تطبيق سياسة (تتريك العرب). فأنشأت عام 1302 هـ المدرسة (الرشدية) في المعلاة، وكان لسان التدريس فيها اللغة التركية، وجميع مدرسيها في بداية عملها من الأتراك، ثم عين فيها بعض المدرسين المكيين، ولكن لم يقبل عليها أبناء الأهالي، فلم يلتحق بها إلا أبناء الموظفين، وأبناء أصدقائهم، وممن جرى في فلكهم)
(3)
وفي عام 1328هـ أنشئت مدارس برهان الاتحاد، ثم المدرسة الصناعية، وأوفد لها مدرسون من استانبول (وإلى جانب هذه المدارس التي كانت تعتمد اللغة التركية، فقد نظم فرع جمعية الاتحاد والترقي دروساً مسائية لتعليم اللغة التركية في مكة المكرمة، وكل هذا يحمل دلالة على رغبة الحكم التركي في طبع المجتمع المكي بلغته وتراثه وتقاليده، ودمجه في القومية التركية)
(4)
. |
وقد فتحت بعض المدارس الأولية في العهد الهاشمي، إلا أنها كانت على طريقة الشريف وتفكيره، فقد كان التعليم محصوراً على حدود ضيقة لخشيته من انتشار الوعي والثقافة بين صفوف المتعلمين، وكان يأبى أن ترسل البعوث العلمية إلى الخارج لأنه يرفض العلوم الخارجية ويرى فيها الخطر على مكانته. |
نهضة التعليم |
وأهلَّ العهد السعودي الجديد؛ (فكان عليه أن يستشرف حركة تعليمية ناهضة يؤسس بها لبناء الدولة الناشئة مما ورثته من المدارس الحكومية القائمة، ومما تنشئه من الجديد الذي تستفتح به بعث التعليم النظامي الحديث). |
ويذكر التاريخ أنه لم يكن في مكة عند دخول الملك عبد العزيز سوى أربع مدارس أهلية – وفي رواية سبع مدارس أهلية – أما المدارس الهاشمية فعددها أربع مدارس فقط. |
ويشير
(5)
(أبو رواس وزميله) إلى أن الملك عبد العزيز وجد أشكالاً منقولة من النظم التعليمية، ظلت قاصرة عن تلبية حاجة المواطنين لابتعادها عن طبيعتهم، كالأنظمة التركية. لذا اتجه الملك عبد العزيز إلى إعادة النظر في النظام التعليمي، وإنشاء المؤسسات التعليمية النظامية القائمة على فكرة المراحل التعليمية، أنشأ المدرسة الحديثة، واستعان بالعلماء والمدرسين الوطنيين، واستقدم مدرسين من الأقطار العربية، وأعاد صياغة تلك الأنظمة في نظام وطني متكامل، مستعيناً بالعناصر والخبرات الواعية من رجال التربية والتعليم في الحجاز، مثل: صالح بكري شطا، ومحمد ماجد كردي، ومحمد أمين فودة، ومحمد نور فطاني، ومحمد علي بن حسين المالكي، وغيرهم، فانصهر المجتمع الحجازي في بوتقة النظام الجديد لاقتناعه بجدارته، وإيمانه بأنه يستشرف بعث التعليم في كل قطاعات الأمة. |
(وكانت أولى خطوات الملك عبد العزيز عندما دخل مكة المكرمة الدعوة إلى اجتماع تعليمي في جمادى الأولى عام 1343هـ، استقطب فيه العلماء وأقطاب التربية والتعليم، وقادة الرأي، وشاورهم واستشارهم في أمر التعليم، وشجعهم على نشر العلم بين المواطنين، وأتاح لخبراتهم التربوية وطموحاتهم الوطنية المجال للتخطيط التربوي، ورسم السياسة التعليمية. وحتى يكون التنظيم التعليمي محكماً يأخذ الصبغة الرسمية في ظل مؤسسة حكومية رسمية تنهض بإدارة التعليم في البلاد، فقد صدر الأمر السامي بإنشاء مديرية المعارف في غرة رمضان 1344هـ، وجعل على رأسها السيد صالح بكري شطا، وكلفه بمهمة نشر التعليم في البلاد)
(6)
. |
وكانت مديرية المعارف تقوم بدور وزارة المعارف التي أنشئت فيما بعد (عام 1373هـ) والتي تولى قيادتها – آنذاك – رائد النهضة التعليمية خادم الحرمين الشريفيين الملك فهد بن عبد العزيز يحفظه الله. |
حالة الأدب |
• في مقدمة "أدب الحجاز" أطلق "محمد سرور الصبان" يرحمه الله آهاته على تلك العهود التي قضت أن يكون الأدب غريباً في هذه الأمة. وذهب يصف ما آلت إليه العلوم. (كأن العلم كل العلم عند القوم قشور من الخلافات المذهبية، والفروضات الفقهية وتعمق في فهم الخصومة القائمة، والضرب المستمر بين زيد وعمر، وأما ما عدا ذلك من بقية العلوم الأدبية وغيرها فلغو والاشتغال بها عبث)
(7)
. |
• كيف ينهض الأدب في أمة تسود أجواؤها القلاقل والفتن، وسياسة معادية تدعو إلى انصهار الأمة العربية في بوتقة القومية التركية؟! |
• والأدب ينهض بالانفتاح على العلوم والمعارف، فهل كـان بالإمكـان أن تقـوم تلك الكتاتيب أو المدارس البدائية بدور – ولو ضئيل – في زرع المفاهيم الأولية للفكر والعلوم والآداب؟! |
• الشباب كان يتطلع إلى نهضة فكرية تؤازر النهضة الاجتماعية التي يرنو إليها، فمن أين له ذلك في ظل الأجواء المعتمة؟! |
- ويطول الحديث لو أردنا الحصول على إجابات مقنعة، وللقارئ أن يرجع إلى ما كتب عن الأدب في الحجاز في ظل الحكم العثماني أو الهاشمي، فالمراجع لا تختلف كثيراً في نظرتها حول كساد السوق، بل انعدامه، لأن العطاء الفكري كان ضئيلاً. |
لكني لن أترك القارئ حائراً دون إضاءة تمنحه رؤية ولو بسيطة حول الموضوع. وليكن ما كتبه الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود عن تلك الفترة في كتاب (وحي الصحراء) خير شاهد يعلمنا الحقيقة المدعمة بالعلم والمعايشة. |
في أواخر الدولة العثمانية: |
• (لم يمض إلا القليل من القرن الرابع عشر حتى أعلن الدستور العثماني، وكانت فكرة إنشاء إمبراطورية تركية قد جدَّ جدَّها، وأخذ دعاتها يعملون، فكانت خطتهم في هذا البرنامج الجديد إدماج كل القوميات الإسلامية وتحويلها إلى قومية تركية. وكانت القومية العربية إحدى القوميات التي دخلت ذلك المعمل، ومن هنا قوي أمر التتريك واشتد اضطهاد العثمانيين للعرب، وعلى أثر ذلك ظهرت فكرة إنشاء إمبراطورية عربية تضم أجزاء بلاد العرب، وهذا التغيير الذي حدث في البلاد العربية، كان للحجاز نصيب منه، إلا أن الحجاز كان قد اصطبغ بالصبغة التركية أكثر من غيره من البلاد العربية، فكانت اللغة التركية، والزي تركيا، ومع ذلك فقد اتجهت النفوس إلى طلب حياة جديدة غير حياتها الأولى، متأثرة بما تأثر به العرب، وقد كان رجالات العرب يسعون في إنشاء إمبراطورية عربية قاعدة حكمها الشام، ثم لم يلبث أن اتجهت الأفكار إلى اتخاذ الحجاز قاعدة هذه الإمبراطورية لعوامل سياسية، فأثار هذا الاتجاه حماس الحجازيين وشعورهم، ولكن ثمرة هذا الحماس والشعور لم تظهر إلا بعد إعلان نهضة الحسين بكثير)
(8)
|
في عصر الشريف حسين: |
ثم يصف الكاتب "محمد سعيد عبد المقصود" يرحمه الله، عصر الشريف حسين بأنه كان عصر حياة جديدة فالحجاز وأهله، تميز بالنشاط في النفوس، نتيجة إعلان الدستور العثماني ونهضة الحسين، وما أعقبهما من عوامل أخرى. (وكان هذا النشاط بشير تطور لولا سياسة الضغط والإخماد التي اتبعها الملك حسين ضد التعليم والحياة. وبالرغم من ذلك ومما لقيه الشباب المتأدب في هذا العصر، من كمّ للأفواه وحجر على الحريات فقد كان لسعة العيش، وتوفر الرخاء، ونشاط حركة التعليم في المدارس الأهلية والأميرية الأثر الحسن في التكوين والتأسيس، أي أن النهضة الفكرية الراهنة إنما هي ثمرة الجهاد السياسي والتعليمي في عصر الحسين)
(9)
|
انتعاش الأدب: |
• ويتحدث الكاتب عن الحالة في عصره إبان نشاطه المتوثب، وهي فترة انتعاش الأدب في ظل العهد السعودي الطموح إلى نهضة فكرية راقية تأخذ بيد المجتمع نحو مدارج التقدم والازدهار. (لم يستدبر الحجاز عصر الحسين ويستقبل العصر الحاضر، إلا وكانت قلوب الشبيبة المتأدبة تتأجج ناراً يندلع لهيبها ويتأجج أوارها، فكانت أفكارها تظهر كلما سنحت لها الفرصة بذلك، وأول ما ظهرت في كتاب (أدب الحجاز) ثم في (المعرض) وبصورة واسعة على صفحات (صوت الحجاز) في بعض أدوارها. ومما ساعد على انتعاش الحركة الأدبية وتقدمها في هذا العصر رفع بعض الحواجز التي كانت مفروضة في العصر السابق، وقد تدرجت الأيام في الحركة الأدبية - شأن كل الأمم - حتى وصلت إلى الشكل الحاضر الذي يراه القارئ ماثلاً في هذا الكتاب)
(10)
، يريد به (وحي الصحراء) الذي جمع بين دفتيه نتاج عقول الشبيبة الواعية، والتي أصبحت فيما بعد الشموع المضيئة في الأدب العربي السعودي في العصر الحديث. وهذا الكتاب الذي قام بجمعه وترتيبه ونشره الأستاذان محمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير يعتبر من أهم المصادر الأدبية لتلك الفترة. |
|