شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-12- مخرج من ذكريات عبد الله بلخير
تضافرت في تكوين شخصية عبد الله بالخير مجموعة من الصور والرؤى والشؤون الحسية والفكرية نقشت في ذكراته القوية عبر أكثر من نصف قرن، وهو يشق درب الحياة الوعرة، منذ الطفولة في مكة، طالباً عمره اثنا عشر عاماً في "المدرسة الأهلية" بمكة المكرمة، ومروراً بمدرسة المسجد "مدرسة الفلاح" وتخرجه منها شاباً عمره عشرون عاماً، والتحاقه بالجامعة الأمريكية في بيروت بعد عامين وتخرجه منها بعد خمس سنوات، وانتهاء بالعمل ضمن حاشية الملك عبد العزيز إبان الحرب العالمية الثانية في ديوانه الملكي، سياسياً إعلامياً أديباً شاعراً.
ونستطيع أن نقول: أن صباه وفتوته وشبابه في بيئتين مختلفتين: مكة وبيروت. رفدت شخصيته بمؤثرات سياسية وأدبية وفكرية ودينية، تمخضت عنها تلك الصورة المتميزة المتكاملة في شخصيته الفذة في مختلف جوانبها ووجوهها: السعودية والوطنية والعربية والدينية والتاريخية والسياسية والإعلامية والتعليمية والثقافية والخلقية. فجاءت تلك الذكريات لتعيد إلينا مسيرته التعليمية والرسمية من خلال سيرة ذاتية واكبت حقبة زمنية، وجيلاً من الرواد، من أهم الحقب والرواد في تاريخ أمتنا العربية المعاصرة.
فكانت سيرة ذاتية مواكبة لأبرز الشؤون المصيرية في حياة الأمم، فلم تقع على شؤون جانبية هي من سفاسف الأمور، فهو أرفع من أن يقترب منها، أو يخوض سبخاتها، لأنها سيرة الشخصيات والرواد أو الأعلام العظام في مواقعهم من المكان والزمان، حتى صار واحداً منهم يشارك في مصير أمته، ولقد وجدنا هذه الروح في أعماق أديبنا بلخير منذ البدايات، وكما أوردها في هذه السلسلة من الذكريات والاستطرادات مع الشخصيات في أمكنة شاخصة في الآفاق وفي خارطة الأوطان.
ولقد استطاع أن يرسم الشخصية والبيئة (المكان) معاً: المكان وما يخضر فيه من أشجار باسقة تظلل ما حولها بظلال المعرفة والعلم والفكر والثقافة.
على أننا لم نجد – كما مر بنا – اهتماماً كبيراً بتصوير المكان أو البيئة من جانبها المادي المحسوس، وإنما كان يهمه ما يتوهج من ذلك المكان أو تلك البيئة من وهج روحي وفكري وديني. فقيمة المكان أو الشيء عنده تقدر بما يوحي من رموز ودلالات، كما أن قيمة الرجال بما يتركون حولهم من بصمات ولمسات خفية مؤثرة.
وإن تحتم عليه الموقف أو المناسبة أن يذكر شيئاً عن ذلك الجانب المادي من البيئة فإن ذلك ليجري المقارنة بين ما كان عليه وما أصبح، والمقارنة متروكة لذهن القارئ، لأنه لا يمارس المقارنة المباشرة إلا في شؤونه الإعلامية كما مر بنا. أما البيئة المحلية الشعبية في مظهرها المادي فيصفها ثم يترك لقارئه حرية التصور والتخيل ولا يتدخل إلا قليلاً. إنه يذكر مثلاً، وفي بدايات تعليمه، المدرسة الأهلية في مكة والتي تقع في شارع متعرج صغير اسمه "زقاق الجنايز" في محلة "الشبيكة"، وثمة قصر وارف كبير يسمى "بيت الخنجي" وفي مدخله "اتريك" فانوس يعمل بالجاز – معلق بالسقف ومسجد "المحجوب" وأمامه ساحة هي مقر لمجموعة من العربات الشعبية التي تجرها الخيل والبغال منذ أكثر من مائتي عام "قبل أن تُعرف السيارات أو يسمع بها". ووصف لنا لباسه وهو تلميذ بالمدرسة الأهلية: العمامة الحجازية المعروفة بـ "الألفية" مع الروب "الجبة".
وإذا كانت هذه البيئة الشعبية محفورة في ذاكرته وهو طفل في بدايات تعليمه، فإن ثمة بيئة أخرى مرسومة في أعماقه عن بيئة أخرى لأرقى حي في الرياض، وهو رجل بلغ الثلاثين يعد نفسه للسفر مع الوفد الملكي الرسمي إلى أمريكا. فذكر لنا كلاماً عفوياً لا يخلو من البراءة، ولكنه يصور جانباً من البيئة آنذاك، فيقول عن بيته قبل أن يرحل عنه ويسافر إلى أمريكا وقد جهز أمتعته وعدة السفر: "ولكن بقي البئر الذي في البيت وله دلوان معلقان بعجلة (محالة) ترتفع في فوهة البئر، يجر الدلوين نازح الماء من البئر كل يوم، فلا بد حينئذ أن نطوي حبال الدلاء، وأن نعلقهما بعيداً عن الأرض حتى لا تأكلهما الفئران، ثم علي أن أفرغ القربة التي كانت في البيت معلقة ومملوءة بالماء، وأن أطويها وألفها بحبل وأعلقها أيضاً بالجدار في وتد معمول لمثل هذا العمل أيضاً حتى لا تأكلها الفئران، وأن أبعد صفيحة الغاز الذي نسرج منه السراج الوحيد في البيت الذي أتجول به في الليل مصعداً ومنحدراً كغيري من سكان الحي، وهو من أرقى أحياء الرياض في ذلك الحين".
وحتى مطار الرياض لم يكن يذكر، فقد قال بعد ذلك النص عن سفره: "والطائرة كانت صغيرة لأرامكو، ولم يكن في الرياض مطار، إنما هي بقعة مختارة من أرض محدودة مستوية هبطت عليها الطائرة".
وإذا كان هذا هو إحساسه بالمكان والأشياء فإن الأعلام والشخصيات الذين يتوجون المكان هم في ذروة الذكرى وقمة الأهمية والتقدير. وقد امتلأت ذكرياته بأسمائهم وشخصياتهم. ومنذ بداياته التعليمية أيضاً في تلك المدرسة: فهؤلاء الشيوخ: محمد سعيد يماني – جد الوزير أحمد زكي يماني – عمر حمدان (الذي يدرس في حصوة باب العمرة) وعمر باجنيد (يدرس في حصوة باب الوداع)، وعلي المالكي (مفتي المالكية في عهد الشريف حسين ويدرس في باب النبي)، وعباس المالكي (يدرس في رواق باب السلام الكبير) وأحمد ناظرين (يدرس في رواق المحكمة الكبرى). ومحمد علي التركي (يدرس قريباً من المقام الحنفي). ويذكر مناهج ومقررات المدارس آنذاك ففي المدرسة الأهلية تلقى القرآن الكريم ومبادئ العلوم، ثم ما استجد من علوم مع تطور المدرسة مثل: الحساب والمحفوظات الأدبية والخط والمواد الدينية كالتجويد والفقه والتوحيد، والنحو ومبادئ الأدب. واختار الحاج محمد علي زينل لمدرسته الفلاح مناهج دينية وعلمية مقاربة لتلك التي تدرس في الأزهر، وسمى شهادته التخرج بـ (الشهادة العالية). وتتعدد قائمة أسماء أعلام التعليم الرواد في الحجاز بالشكل الذي وقفنا عنده في شخصيته التعليمية. أما في بيروت فكان ثمة شخصيات أخرى في الفكر والأدب والسياسة والشعر، وقفنا عند بعضهم وعلى رأسهم شخصية أمير البيان (شكيب أرسلان) الذي أحبه حباً كبيراً لدرجة أنه أحب كل ما يتصل به من فكر وأشياء وفاء لصداقته. ولهذا فقد عايش أديبنا بلخير الأماكن التي كان يعيشها إذ أخذ يتصل بكل حسه ووجدانه بتلك الأشياء والأماكن، ولم يجد أفضل من الشعر في التعبير عن تلك المشاعر والأحاسيس، فراح يخطب (لوزان) أحب المدن إلى قلب شكيب أرسلان حيث أقام فيها نحو ثمانية عشر عاماً.
لوزان هل ما زلت رغم مدى النوى
في ذكرياتك تذكرين شكيبا
المالئ الدنيا بذكرك والنوى
صحفاً تفوح سطورها تشبيبا
ألقى عصا التسيار فيك مجاهداً
عشرين عاماً في الكفاح غريبا
كانت له (لوزان) حصن كفاحه
و (جنيف) رفقاً للجهاد رحيباً
وإن في سيرة أديبنا عبد الله بلخير معلومات كثيرة عن شكيب أرسلان استقاها كما رأينا – من الرواة والأصدقاء ومن ذاكرة الأيام المعاصرة. فقد ذكر لنا شيئاً عن حالته المادية وعجزه في النفقات وأصدقائه ومن كتب عنه. وشخصيات سياسية ممن كان يغشى مجلسه في مكتب صديقه (حسين العويني) أمثال: (مفتي لبنان الشيخ محمد خالد، وأمين الريحاني، والسياسي اللبناني حبيب أبو شهلا، ودولة الرئيس رياض الصلح، وتقي الدين الصلح، وكاظم الصلح والزعيم علي ناصر الدين "من مؤسسي عصبة العمل القومي في لبنان وسوريا". ويشهد معترفاً بالنعمة والفائدة التي جناها من أولئك العظماء فيشكر ويحمد لما حصل له من نقلة موفقة، من مجتمع ضيق إلى عالم أرحب: "وأغبط نفسي على هذه النقلة التي خرجت بها من المحيط الاجتماعي الضيق في مكة إلى مثل هذا المحيط الزاخر والصاخب برجالات ذلك الرعيل المجاهد من البلدان العربية". وكثرت شخصياته ومعارفه وأصدقاؤه من رواد الفكر والسياسة والأدب كما ذكرنا، ولا سيما من عرفهم عن طريق الجمعيات التي عمل فيها وانتسب إليها كجمعية (العروة الوثقى) أمثال: (رشدي المعلوف، وعيسى العيسى، ونصر المعلوف، وحسين وعبد الحميد سراج، وأمجد غنمة، وأحمد عبد الجبار، وعبد المنعم الرفاعي، ومحمد كنعان الخطيب، عارف العارف). والشخصيات الأخرى التي تعرف عليها في مناسبات وطنية وقومية سواء أكانوا في بلده مثل (محمد الغنيمي التفتازاني وفخري البارودي وغيرهما) أو في البلدان العربية من أساتذة وطلاب أمثال: (قسطنطين زريق، وفؤاد مفرج، ومحمد شقير). كما يعدد الكثير من الشخصيات الشعرية ممن التقى بهم أو سمع شعرهم أمثال: (عمر أبو ريشة، ونقولا فياض، وبدوي الجبل، وعيسى العيسى، وعبد المنعم الرفاعي، وأحمد الصافي النجفي، ومحمد عبده غانم، وقدري طوقان، والأخطل الصغير (بشارة الخوري)، و (أحمد حامد الصراف) أو ممن شهد محاضراتهم مثل (سعيد عقل) وقد استمع معه (عزيز ضياء) و (مي زيادة). كما رأينا.
وفضلاً عن شعراء كان الحديث عنهم مليئاً بالمواقف الأدبية والنقدية أو السّياسية، أمثال: (عبد الكريم الكرمي أبو سلمى، وعبد الرحيم محمود)، ثم قصص كثيرة من بداية تعرفه بأدبائه واللقاء بهم أمثال: الروائي توفيق عواد، والناقد مارون عبود، والباحث ناصر الدين النشاشيبي وغيرهم. وأعلام ورواد الفكر الإسلامي ممن التقى بهم في مناسبات الحج في الحج في بلده كما مر بنا أو من خلال جمعياتهم الإسلامية (الشبان المسلمين، والهداية الإسلامية) وما قاموا به من خدمة المسلمين من جميع النواحي الدينية والفكرية والأدبية، وقد احتوت تلك الجمعيات الوافدين من العرب والمسلمين أمثال: ( عبد الحميد سعيد) ومحمد الخضر حسين (من تونس) ومحب الدين الخطيب (من دمشق).
وأصدقاؤه الأدباء كثيرون ممن أوردهم في هذه الذكريات، ويمكن أن تختم قائمتهم بهؤلاء الأصدقاء: (عمر فروخ، وصلاح الدين المنجد، وعلي الطنطاوي).
وقلما يقف أديبنا بلخير على وصف مظهر شخصياته الخارجي، فهذا لا يهم بقدر ما يهم جوهرهم وفكرهم وآثارهم ومواقفهم. وحين تقتضي الضرورة فيكون وصفه وجيزاً عابراً، ويجيء تعبيره مثل هذه الكلمات في وصف أمين الريحاني في أول مرة يراه فيها أمام دار القنصلية العراقية في بيروت: فإذا بشيخ مهاب يهبط من تلك الدرج، وفي يده اليمنى التفاف ظاهر، وقد تأبط مجموعة الصحف، وهو يحمل عصاه، فلفت نظري شخصيته وهامته الكبيرة وشعره الأبيض الكثيف وأناته في تخطي درجات القنصلية".
وكذلك في وصفه لمي زيادة – كما سنرى – وصفه لعلي الطنطاوي لأول مرة يراه أيضاً إذ يقول: "وكان هاشاً باشاً منطلقاً، وكان في عنفوان شبابه، وبهاء طلعته، وأناقة ملابسه، وكان يتخير الألوان الأرجوانية، فيما رأيته بعد ذلك، والطرابيش المكوية البهية".
وهكذا فإن شخصياته طاقة هائلة من الفكر والحماسة والإنتاج والعطاء.. ويشكلون امتداداً لعطاء الأجداد القدامى من رواد العلم والحضارة عبر تاريخ الأمة العربية والإسلامية في أوج ازدهار أمجادنا الذهبية، الذين ظلوا مرتبطين بالأمكنة التي تحولت إلى إشعاع علمي، وتوهج فكري، ومراكز للدرس والتحصيل.
إذن فشخصيات أديبنا تظل مقرونة دوماً بمراكز الإشعاع العلمي والديني، وقد مر بنا عدد كبير من تلك المراكز والدور في مختلف بقاع العالم العربي والإسلامي.
ولهذا فهو لا يغفل أي منتجع علمي وثقافي، أو مكان عريق بتاريخ المعرفة، فإن مر به فإشعاعاته الروحية والثقافية والعلمية تنير ذهنه ووجدانه، وتدعوه إلى أن ينقل ذلك الإشعاع والتوهج إلى ذهن ووجدان قارئه.
فيقول عن بعضها في الحبشة: "وكانت (هرر) بجوامعها وعلمائها ومدارسها وأربطتها وخلاويها محجة الأجيال والقبائل ينتظمون حول علمائها، وينشئون أبناءهم على ما نشأوا عليه من القرآن وعلومه والفقه وأحكامه، فيخرج منها القضاة والدعاة ينتشرون فيما جاورها، ويلتحقون بالجامع الأزهر بمصر، وبالحرمين الشريفين في الحجاز، وبأربطة العلم في (زبيد) و (حضرموت)، ثم يعودون علماء إلى بلادهم يفقهوا قومهم والأقوام المسلمة الأخرى المجاورة لبلادهم".
وحتى في رحلاته فإن مشاهداته ومروره بالأمكنة، يظل مرهوناً بما يثيره المكان في ذلك البلد من قيم أدبية أو فكرية أو حضارية. فما يقوله مثلاً عن السويد – ويحسن ذكره – هو زيارته للأماكن الأثرية والقصور والأشياء المرئية، ثم ما له صلة بالأدب والأشياء الروحية والثقافية. فهذا الجانب يعتمد على ذاكرته ومخزن معلوماته:
"ولم أجد في السويد يومئذ ما يلفت نظري إلا معرفتي السابقة، بما لأحد ملوك السويد في أول هذا القرن من اهتمام بالأدب العربي، وأنه قد وضع جائزة أدبية لمن يكتب عن العربي كتاباً يستحق الجائزة.. وأن أحد علماء بغداد قد ألف كتاباً في ذلك ونال به الجائزة وطبع الكتاب وعمم وهو في مكتبتي".
وإن جمعت بأديبنا بلخير الصدف، في بعض الحفلات الرسمية من التي كان يغشاها، بشخصيات رحلية أجنبية ممن يثيرون اهتمامه في الجزيرة العربية الاستكشافية، فيحس كأنه وجد كنزاً ثميناً سيضيفه إلى كنوزه المعرفية: "ومن ذكرياتي عن ذلك الحفل أن كان بجواري على مائدة الطعام السياسي الإنكليزي المشهور (برترام تومس، الذي كان مستشاراً لسلطان مسقط وعمان قبل الحرب العالمية، والذي سبق صديقنا المستر (عبد الله فلبي) بتحقيق أمنيته الكبرى وهي اختراق واكتشاف ما كان مجهولاً من (الربع الخالي)، فتم للمستر تومس ما تمناه، فاشتهر بهذا العمل، وانتشر صيته واكتشافه في وسائل الإعلام العالمية في أطراف العالم، ولهذا فقد كان حديثي معه حول هذا الحدث".
وقد نسي كل ما كان يحيط بذلك الحفل من مناسبة سياسية وأجواء دبلوماسية إلا حديث الفكر والاكتشاف والمعرفة، وهو الحديث الذي عرفناه منه دوماً في مثل تلك الأجواء المعرفية التي يمتزج بها التاريخ بالتراث بالأعلام وبغيره من شؤون، على أن حديث أديبنا بلخير عن تلك الشخصية الرحلية سيأتي تعريفاً مركزاً مستبطناً دفين الأهداف التي يسعى إليها أمثال هؤلاء المكتشفين، وستتكشف للقارئ أيضاً تلك المرامي الغائبة عن تصوره، وسيعيدها له بمثل هذه الأحاديث: التي لا تخلو من الحس العربي، والحصر على الإشارة إلى أعداء أمته العربية: "وهذا الرجل كان من مؤسسي ما عرف بعد ذلك بالمعهد البريطاني، لتعليم طوابير من شباب بريطانيا وأمريكا اللغة العربية، تمهيداً لانتشارهم في الأقطار العربية يدرسون ويتعلمون ويبحثون عن أحوالها وشؤون سكانها، ويفتشون عن خباياها وفي زواياها عن كل ما يبصر حكوماتهم ويرشدهم إلى ما يظهر عليها وعلى حكامها، ويحصي عليهم أنفاسهم ونبض قلوبهم ودحض عواطفهم".
وهكذا تختلط دوماً، وكما رأينا، قضاياه وشؤونه السياسية والإعلامية والوطنية والتاريخية والثقافية ببعضها، بل قد تطغى واحدة على أخرى، أو قد يتناسى أو يصرف نظره عن أمور قد يرى غيرها أجدر بالإشارة والتنويه فالوقوف والتركيز عليها.
فحين ذكر لنا مناسبة شهد فيها وقائع سياسية وبترولية بين الملك عبد العزيز والمسئولين الأمريكيين (الاكسندر كيرك) والصديق (فؤاد صروف)، فإن الحديث الذي أخذ يعلو على السياسة حديث الأدب الشائق عن الشعر والشعراء مما له صلة مكانية بالموضوع. فقد أجاد في جمع القرائن وتوظيف المناسبة بشكل رائع:
"وحل الوفد الأمريكي في خيام الضيافة وبلغ أن الملك عبد العزيز سيقابله في ضحى يوم غد، ولقد كانت مفاجأة سارة في أن يصحب المستر (كيرك) فؤاد صروف، وكان الدكتور صروف حينئذ قد بدأ حديثاً من الإذاعة المصرية يذيع سلسلة أحاديث شهرية في نهاية كل شهر من ذلك العام عن الشاعر المشهور (ذي الرمة)، فكنت أستمع إليها في حرص شديد وفي مواعيدها المعلنة من تلك الإذاعة، وفي الصحافة المصرية.. فلم أكد أضع يدي في يده مرحباً على معرفة سابقة لي به، حتى قلت له: أو تدري يا دكتور أن هذه (الروضة) التي تقف عليها الآن بين رمال وتلال الدهناء هي منازل وديار صاحبك وصاحبنا (ذي الرمة)؟، فدهش لما سمع، وتجمعنا حوله في مساء ليلة وصوله نسمر معه ونتحدث عن هذه المفاجأة التي لم تكن له في خاطر أو بال، وقضينا السهرة والحديث عن ذي الرمة وعن صاحبته، ونحن في ليلة مشعة بأضواء القمر المشرق على تلك الرمال".
ويظل عبد الله بلخير، كما رأينا، يحمل هم أمته أينما حل، ومنذ شبابه وحتى اليوم، فهو رجل التاريخ، والهم العربي الكبير، وإن أفراح الاستقبالات والحفلات الرسمية والعربية لا تنسيه همه الكبير، فإن فرح لحظة، سيتألم لحظات، وإن ذاق نشوة الأمل والسرور قيراطاً، فسيتجرع مرارة الأسى العربي قيراطين. ولهذا فإننا نراه، وهو في حديث مع عميد الجالية العربية في أمريكا وإثر الأفراح واسترجاع تاريخ العرب الحضاري والتفوق على الشعوب الأوروبية يقول: "وكما سبقناها بهذا الترف والرفاه، فقد سبقناهم بحمل مشاعل العلم والثقافة في مشارق الأرض ومغاربها، وإذا كنا قد ضيعنا تلك الأمجاد وأبقينا على فتات ما تبقى لنا من ذلك الماضي، فإننا نتلقى جزاءنا على ما نحن فيه اليوم ضرباً وصفعاً وركلاً.. ومرة أخرى "ومن يهن يسهل الهوان عليه" ولا حاجة لإكمال البيت، فالمهانون يحفظونه ويرددونه، ويفهمون معناه ومبناه، ويعصون الله على بصيرة، وما ربك بظلام للعبيد"، وهذا الحس العربي الذي وجدناه في كل مكان من ذكرياته ورحلاته هو ما جعله يتألم لمصير العرب وواقعهم، ولا سيما في رحلته لأمريكا. ورغم إعجابه بالشعب، ورغم احتفاظه ببعض الأصدقاء منهم، ولكنه ضد السياسة الأمريكية... ويستنكر مواقفها الاستعلائية والعدوانية على الشعوب، وبخاصة الشعب العربي في – ليبيا – أو وهي تناصر إسرائيل.
ولقد كنا نرى أديبنا بلخير دائماً يقرن كلامه في نهاية المطاف، بالتحسر على أيام مضت، ويدعو الله أن يعوض العرب كل خير، ليقشع عنهم كل شر.
وفي كل نص نقرأه من ذكرياته نجده كما رأينا لا يستقبل بجانب ثقافي واحد، ولا يبرز حساً مستقلاً عن بقية الأحاسيس الأخر – ما عدا الحس العربي – بل تتضافر وتتداخل بعضها ببعض. ولهذا كما قلنا في بداية مدخلنا لهذه الدراسة أن نصوصه جذابة آسرة لما يتوهج في صياغتها من معان وأفكار وقيم وحقائق وقصص وأحداث وأخبار ومواقف ومشاهد وغيرها من معرضه المعرفي.
على أنها ترسم لنا في النهاية صورة واضحة لشخصيته المتكاملة، وحتى في الضئيل من الأخبار والمعلومات فإنها تنداح وتتسع لمعان أعرض وأشمل. وإذا كنا – مثلاً – رأينا ذكرياته، ومن خلال حاسبه الآلي، قد أظهرت لنا أسماء كثيرة من الأعلام التي لها شأن كبير في الفكر والسياسة، فإنها تحتفظ ببعض الأسماء العادية، وهي من الأخبار الضئيلة، التي لا شأن لها، ولكنها تكمل لنا صورة اللحظة، ولا يتحرج أو يتوانى من ذكر أسماء بعض المرافقين أو السقاة والخدم.
وثمة نصوص كان أديبنا بلخير يترجمها ويحملها (كيرك) مبعوث الرئيس الأمريكي (روزفلت) إلى الملك عبد العزيز، فكانت تبرز صورة بداية العلاقات السعودية الأمريكية، ومضامينها السياسية والاستراتيجية أثناء الحرب العالمية الثانية.
وفي كثير من قصص رحلاته وشخصياته التي يلتقي بهم، نجد نصوصاً تشع بالمعاني، وبخاصة في البلاد الاسكندنافية عن أحوال الجاليات الإسلامية هناك، وقد مرت بنا مثل تلك الشخصيات وقصصه معهم – وحتى في قصته مع صديقة (زكريا سن) في (كوبنهاجن)، تلك القصة الشائقة فقد كانت تحمل الكثير من الرؤى الفنية والوجدانية.
إذ وجدناه – كعادته دوماً – يسترجع ما اختزن في ذاكرته من معلومات عن واقعه المعاش، فيقوم بعملية مزج الماضي ومعلوماته بالحاضر ومعاناته، فتجيء كلماته عن المناسبة الآنية تحمل إشعاعها وتأثيرها، لأنها أصحبت كلمة هادفة وضعت في موضعها المناسب والمقام المناسب. ولهذا لم تعد تقريراً جافاً عن معلومات مكدسة في طيات الذاكرة، وإنما أصبحت تلك الكتابات منتزعة من الذاكرة لتلتحم وتمتزج بدفق الحياة ورسالة الإنسان وأهدافه في هذه الحياة. وحين كان في (كوبنهاجن) عاصمة الدانمارك تراءت له المدينة من خلال واقعه، ثم من خلال ذكرياته. فماذا يرى؟ وماذا سيستحضر عنها؟ وماذا يحمل لها في ذاكرته؟ إن ما يحمله عنها ليست معلومات تاريخية أكل الدهر عليها وشرب، وإنما هي معلومات استمدها من واقع الرحلة التي قام بها، فما زالت خميرتها طرية لم يجف ماؤها بعد... ولم تكن تلك المادة جافة، لأن من عجنها صديق معروف لديه، وله معه ذكريات جديرة بالتدوين والاسترجاع. فتتسلسل المعلومات في خيط، مترابطة متناسقة، لتشكل النسيج الفني لكتاباته. ولكننا من خلال ذلك الاسترجاع أو الاستطراد الذي يريده.. تبدأ رحلة جديدة لذلك الصديق (زكريا سن) ومع بدايات قصة التعارف والصداقة وتبدأ أحداث ومشاهد جديدة شائقة لينتهي أخيراً إلى (كوبنهاجن).
وفي كل تلك النصوص والقصص وغيرها من كتابات تتضافر الصور الشخصية وتتلاحم الرؤى الفكرية. ففي اللقاء التاريخي بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، يروي لنا أديبنا بلخير شيئاً من هذا اللقاء وشيئاً مما قيل بينهما، ولذلك جرياً على عادته الاستطرادية، فمن حديث الشيخ للإمام كان "عن سوء العافية، وشر المنقلب الذي تضطرب فيه البلاد بخروج البادية بأسرها تقريباً عن مبادئ الإسلام، وبخروج البلدان الحاضرة على مثل ذلك – إلا من رحمه الله – وهم قلة متباعدة في أماكن قليلة من بلدان نجد".
وإن استشهد أديبنا بلخير ببعض النصوص، فإنه يختار ما له وقع خاص في نفس قارئه أو سامعه... مثل هذا النص عن كلام الشيخ للإمام في بداية اللقاء، والاتفاق على أساسيات العمل المشترك بينهما:
"إني عارض عليك هذا الأمر، أدعو إليه، وأحثك عليه، وأبرئ ذمتي من عدم التبليغ، وأرى أن في هذه الدعوة من مثلي لمثلك، وأنت في عز ومنعة وحكم، ما يثبت خطاك ويؤيد مقامك، ويجعلك من الدعاة الصالحين، الذين أرجو أن تكون به من أمراء الإسلام، وخدمة الشريعة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر".
كما أنه كثيراً ما يترك بصمات وجدانية ووطنية ودينية إثر المواقف التي ذكرها ووصفها.. كقوله إثر التجاوب والتعاضد بين الإمام والشيخ:
"وكان الموقف موقفاً بطولياً بارك الله فيه وأيده ووفقه، ومن هنا ومن تلك الحجرة المتواضعة التي ضمت الرجلين في بيت متواضع جداً، من بيوت تلك البلدة المغمورة التي لا حول ولا طول على ما جاورها، من بلدان نجد، انبثقت هذه الشعلة النورانية تضيء دياجي الجهالة والعماية في قلب جزيرة العرب، ثم تفيض بعد ذلك على أطراف الجزيرة العربية".
وإن ذلك التلاحم بين الحس الديني والحس التاريخي ليبلور الكثير من مظاهر الدعوة السلفية (دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، ولقد أشار إليها من منظور إسلامي وفكري، وذلك من خلال رؤية تشف عن أثر الشخصيات الفكرية والأدبية القوية في مواجهة أعداء الدعوة السلفية، وتسليط أضوائها الكاشفة التي أزاحت ظلمات أباطيل الآخرين عنها وبددته.
فيقول: "ولقد قام عدد كبيرٌ من علماء الإسلام ودعاتهم وكتابهم وشعرائهم وصحافتهم في العقود الأخيرة من قرننا هذا بإلقاء أضواء منيرة مشرقة على هذه الدعوة، بددوا بها بواقي الدعاية الظالمة الغاشمة التي انتشرت عن هذه الدعوة".
وهذا ما يؤكد دور الأدب والشعر والإعلام في خدمة الدين ومناصرته، ومما يمكن أن نشير إليه ونحن نكاد نخرج من ذكريات أديبنا بلخير، أنه كان يقدم دائماً معلومات عن شخصياته لها صلة بالاتجاه الإسلامي الصحيح، وتقترب من الفكر العربي الأصيل.
يقول مثلاً عن (محمد طاهر المجددي) أبرز الشخصيات التي كانت تفد إلى الحج في الثلاثينيات: "كان وزيراً مفوضاً لبلاده أفغانستان يومذاك في مصر ثم في المملكة العربية السعودية لسنوات عديدة، وكان شخصية إسلامية مهيبة المنظر، قوية الشكيمة والمخبر، لعب دوراً بارزاً في حياة أفغانستان السياسية، وقاوم الملك (محمد أمان الله خان) يوم تولى العرش".
ولا يترك عبد الله بلخير فكرة انطباعه عن موسم الحج مقصورة على الشخصيات البارزة في الحياة الدينية والفكرية والسياسية، وإنما لا بد له من وقفة عند حكمة الله في حج بيته، والقيم الإسلامية التي يحملها الحجاج معهم إثر حجهم، فضلاً عن قيم جديدة كثيرة يكتسبونها ويحسونها.
وكما وجدنا في هذه الذكريات من مظاهر ثقافية كثيرة لا تعد ولا تحصى، فإنه يعرف ما المعلومة القيمة التي يتحلى بها شخوصه وأعلامه، فيختار منها المغذي في مائدتهم الروحية والفكرية. فمما يذكره عن (محب الدين الخطيب) أنه "يتخير أطايب الشعر والأدب العصري والقديم، يقدمه فيها للشباب الطالع المتوثب".
وهذا عمل جليل لصقل الذوق الأدبي عند الشباب والقراء، ودفعهم دوماً إلى حدائق المعرفة، لأن أديبنا بلخير يعرف ما للمختارات الشعرية والأدبية من أهمية في تاريخ الأدبي العربي.
وإن وصفه لشخصياته يبدأ بالكلام العام، والتقويم الشامل.. ثم يتخذ كلامه عنهم الوصف الخاص الدقيق بعد أن يراهم أو يلتقي بهم، ويعيش معهم تجارب الفكر والصحافة، والكتابة نفسها.. عندها يصدفهم عن قرب ومعاناة.. فيضيف لها أوصافاً جديدة، وخصائص ثقافية ومعرفية عديدة، وبعد أن أصبحت لديه، بل هي من عاداته استمرارية المتابعة الصحفية والإطلاع على كل ما يكتب وينشر في الصحف العربية، واللبنانية بوجه خاص، ليستخلص ما هو أعمق وأرفع ويشير إلى اتصاله الوطني المستمر بأدباء المملكة. ويخبرهم عمن يكتب عنهم وأدب بلدهم:
"وكنت أشعر أيضاً بأن عليّ واجباً وطنياً نحو بلادي السعودية أن أنتهز كل فرصة تسنح لي أثناء المدارسة والعطلات الأسبوعية والشهرية، فأتعرف على بعض دور الصحف وعلى أصحابها تعريفاً لهم ببواكير الحركة – الأدبية والشعرية والقائمين بها يومئذ من الشباب في المملكة. كما كنت حريصاً على الحديث إليهم عن نواح من نواحي حياتنا الثقافية والاجتماعية والإصلاحية والأحداث التي تقع في بلادنا".
ولكم كانت لأديبنا بلخير – كما رأينا – زيارات لأصحاب الصحف والمجلات في بعض عواصم الدول العربية. وإن زياراته لهم تجسد حبه للمعرفة، وإقباله على مناهل ومصادر النشر والإعلام.. كما تجسد روحه وشخصيته في عرض الفكر الوطني والقومي والديني من خلال لقائه بتلك الشخصيات، وتبادل الآراء، والطرح الفكري والسياسي والأدبي بينهم. وكثيراً ما تتحول تلك الزيارات واللقاءات إلى صداقات حميمة تدوم وتمر طويلاً وتثمر بأينع ثمار المعرفة والمودة والحب والتقدير والتواصل.
ويشير، وهو يعرف بشخصياته التي يلتقي بها من الأصدقاء إلى المكانة التي أصبحوا عليها بعد ذلك اللقاء.. وجملتهم من المفكرين والأدباء.
وقد يصف شخصياته السياسية بأوصاف لها ارتباط بالفكر أو الثقافة أو الأدب على نحو ما. فحين وقف بنا عند شخصية (نوري السعيد) اختار ما له صلة بفن الخطابة، فهو يتلكأ في أداء خطبه، بل لا يتمكن من الإلقاء. وقد سرد لنا بعض ظروف تلك الشخصيات التي جعلته لا يحسن الخطاب أمام الآخرين، ووجده رجل أفعال لا رجل أقوال.. واستقى هذه المعلومة من أحد المقربين من نوري السعيد.
ولقد وجدنا من خلال ذكريات ورحلات عبد الله بلخير، وحسب ذلك التسلسل لصورة شخصيته المتكاملة في حسه السعودي والوطني والعربي والديني والتاريخي والسياسي والإعلامي والتعليمي والثقافي والخلقي.. إن أبرز جانب لتلك الأحاسيس أو الصور، هي صورته الخلقية، فقد تبدت لنا في كل مظهر من مظاهر سلوكه وتفكيره ورحلاته ومواقفه، إذ ظل محافظاً على سمعة بلده أولاً ثم سمعته ثانياً، ولهذا كان يلقى كل حب واحترام وتقدير من العباد الذين يلتقون به في الأقطار العربية والجاليات الإسلامية، كما رأينا، لأنه قادم من الأماكن المقدسة من الحرمين الشريفين.. ولهذا فقد كان يحمل معه شرف مكة والمدينة.
من مظاهر أخلاقه أنه كان لا يعرف اللفظ القاسي، والتعبير الجارح في أسلوب الخطاب، سواء أكان يخاطب فرداً أو جماعة أو شعباً أو أمة..
فإنه يضع في حياته أخلاق الرجال العظماء والرواد الأفذاذ والقدوة الحسنة، فإنه كان يتعامل مع المجموع بروح الحب والتسامي، ولقد وجدناه، كما مر بنا حيال موقف السفير المصري مترفعاً عن الذم، مشيداً بخصال عالية للشعب المصري وغيره من السفراء، ومن حبه للشعب العرب أينما كان لا يحاول مطلقاً أن يجرح مشاعر وأحاسيس العرب بلفظة نابية.
كما بدا لنا أيضاً أنه حريص على ألا يجرح أو يكون مصدر شر أو فألاً سيئاً للآخرين. ولهذا أطال وصف حالته، وما عاناه من قلق وهو يحتفظ بخبر مقتل الملك غازي في بغداد، وكان لا يريد أن يصدر الخبر منه.. وقد كتمه وقتاً طويلاً عن رفاق الرحلة ومضيفهم (فاضل الجمالي)، ولا سيما أنه لم يصدق الخبر.. وإن كان اليقين يملأ قلبه.
لم نجد طيلة ذكرياته ورحلاته استطراداً أو مناسبة أو موقفاً جره إلى عالم المرأة والجنس اللطيف.. هذا الجنس الذي امتلأت به ذكريات وكتاب أدب الرحلات في العالم العربي وغيره، فهذا ليس من شأنه وإن قاده الموقف لذلك فسيأتي متفقاً مع أخلاقه وشخصيته المتكاملة. وكانت تلك المواقف قليلة جداً، مثال ذلك حديثه عن الآنسة (مي زيادة)، الأديبة التي كان (صالونها) موضع إلهام وأحلام الشعراء والأدباء العرب، وكانت (ولادة) المشرق. ومع ذلك فقد كانت ذكرياته عنها، حين دعتها العروة الوثقى في عام 1936 لإلقاء محاضرة، لم تكن غير كلام يستوجبه المقام عن مرضها ومحنتها الحزينة، ووصف لمشهدها الخارجي لا يتعدى هذه العبارات:
"وقد بدت في فستان أسود، جمع شعرها المبعثر، وضمه طوق من العاج، وقد بدت ساهمة شاحبة الوجه، نحيفه العود، تغالب مشاعرها ودموعها".
أما كلامها فقد وصفه بقوله: "ثم انساب كلامها انسياباً فيه من الروعة ومن الاتزان ومن الحضور الكامل ما غمر الجميع بشعور سالت به دموع العشرات من السيدات والطالبات اللواتي حضرن بكثرة".
ومما يجب الإشارة إليه أخيراً في هذا المخرج من الذكريات أن المحاور (خالد باطرفي) كان يتمعن جيداً في ملامح عبد الله بلخير، فيبصر الكثير من انطباعات الحالة الانفعالية التي كان يعيشها، وهو يروي ذلك التاريخ المؤلم، ويرى الحس القومي مرسوماً على تعابير وجهه فيقول باطرفي: "يتوقف الشيخ قليلاً وهو يشهد زفرة ألم بائسة آثارها على وجهه". أو قد يتدخل أحياناً بشيء من التعليق والوصف لأثر أسئلته عليه، أو على قيمة الأجوبة الموضوعية أو الحكم عليها. كان يقول: "عندما يتحدث الشيخ عن الذين أسدوا إليه أيادي بيضاء، يشرق وجهه بالحب لهم والحنين إليهم، والسيد حمزة غوث واحد من هؤلاء".
ويقول معلقاً على الكيفية التي يروي فيها بلخير الأحداث والوقائع التاريخية: "وكعادة المؤرخين الثقاة يحرص الشيخ عبد الله بلخير على أن يحايد تجاه الأحداث التاريخية، فينقل لنا الصورة بوجهيها، والرؤية بشقيها..".
وإن لمداخلات المحاور القاص (باطرفي) صبغة التركيز على الصور الشاخصة في فكر أديبنا بلخير، أو الركائز الأساسية في الموضوع الذي يتحدث عنه.
"ويصف لنا السيد عبد الله بلخير التدخلات الغريبة السافرة في شؤون الحبشة إلى حد التدخل في تنصيب الإمبراطور والثورة أو الانقلاب على سلفه لتحقيق مصالحهم السياسية والدينية". أو وهو يلاحظ على أديبنا بلخير استدراجه للقرائن – من خلال العودة للماضي – بين وفاة الملك فيصل الأول (والد غازي) وبين المصاب الجديد لحادث وفاة الملك غازي. فيقول: "وهنا يحلو الاستطراد فيجدها الشيخ فرصة ليربط بين هذا الموقف التاريخي وموقف مشابه".
ونخرج أخيراً من هذه الذكريات بالقول: إن شخصية عبد الله بلخير المتكاملة، قد احتوت حياة جيل وعصر زاخرة بالمبادئ والقيم والمثل العربية والإسلامية الأصيلة، وقد تمثلها خير تمثيل، فكان الناطق بلسان حالها، العارف همومها وأحلامها وأهدافها، المشارك في تجاربها ومعاناتها، المتألم لآلامها وأحزانها، المسرور لأعيادها وأفراحها. فكان واحداً من كوكبة متألقة في سماء الفكر والأدب والسياسة في تاريخ العرب المعاصر. لم يعبر في هذه الذكريات، عن جانب خاص لبلد عربي بعينه، وإنما كان يعبر عن أمته عبر آلاف الأميال وامتداد المسافات الشاسعة من خارطة الوطن العربي الكبير، في مشرقه ومغربه وعبر الأصقاع الإسلامية، وعند تلاقي مراكز الحضارة العربية، فكان يتوهج في وجدانه وروحه وقلبه وذهنه بريق من الأحاسيس الوطنية والعربية والدينية.. وهو يبصر شؤون وطنه وأمته التاريخية والسياسية والإعلامية والتعليمية والثقافية.. من خلال أخلاق عالية، وشخصية متميزة فذة. استطاع أن يرسمها لنا في هذه السيرة الذاتية الرائعة.
ولهذا فقد ساعدتنا هذه السيرة على فهم عصره بكل متغيراته وحركاته واتجاهاته الفكرية والأدبية والسياسية والقومية، فضلاً عما كشفت من عالمه الشعري والإبداعي، مما سيساعد الناقدين والدارسين ومتذوقي الشعر على فهم تجربته الشعرية.
ومن هذا الجانب كانت سيرة عبد الله بلخير الذاتية مدخلاً عريضاً لدرب حياته وشاعريته.. الدرب المحفوف الجانبين بقناديل مضيئة متوهجة، تنير وتضيء، وتفسر لنا أعماقه وهواجسه وأحلامه ورؤاه ومواقفه وروائعة الإبداعية والملحمية.
ولذلك ستكون لنا دراسة جديدة عن شعره كاملاً، على ضوء هذه السيرة الذاتية عن الشعر الذي لم ير النور على الأقل.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1300  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 190 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.