شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-9- (الشخصية الإعلامية)
رأينا بدايات عبد الله بلخير الإعلامية مع الملك عبد العزيز، فذكرياتها منقوشة في وجدانه، فانطبعت بذاكرته، وأفاض من وقت إلى آخر عن تلك الأيام الإعلامية في حضرة الملك، ودوره الكبير مترجماً فمرافقاً، فمسؤولاً عن إعلام المملكة العربية السعودية، ولهذا اصطبغت كتابته وتفكيره وذكرياته بالروح الإعلامية، فيما يقوله وفيما يعبر عنه، وفيما يصوغه من آراء ومواقف ومشاهد وأخبار وانطباعات... فأخذ يوازن بين منطلقاته الفكرية والتعبيرية، وبين وقعها في المسامع والقلوب.. فتولد لديه حس إعلامي معاصر يستوعب اللحظة والموقف والمتلقي، ومهما كانت مكانة هذا المتلقي ومهما علت منزلته فتأتي كلمات أديبنا بلخير من خلال الطرح والتعبير والحوار لائقة لائطة في النفوس والمشاعر.
ومن هنا نجحت مهامه وأدواره الرسمية: السياسية والإعلامية.. فكانت المواقف والشؤون السياسية تبحث عنده عن أداة إعلامية أو أسلوب إعلامي تعبيري وطريق ناجح يسلكه لإعلان تلك الشؤون. كما أنه في مواقفه وشؤونه الإعلامية يسعى ليجسدها بأداة تعبيرية إعلامية عظيمة، تقوى على إيصال فكره السياسي الذي هو حصيلة السياسة السعودية في حياته الرسمية.
وهكذا كانت الصحيفة والإذاعة آنذاك هما المحورين الأساسيين اللذين ينطلق من خلالهما في إثبات وجوده وتحقيق شخصيته الفكرية والذاتية، كما كانتا قناتين يصل من خلالهما إلى المتلقي والمحاور بيسر ونجاح.
وسنقف في هذا القسم عند الإذاعة وما يرافقها من ترجمة، وسنترك الصحيفة والصحافة والدوريات لمكان آخر سنعود إليه قريباً في هذه الدراسة.
ويذكر لنا بلخير بداية عمله الإعلامي في ديوان الملك عبد العزيز، وذلك خلال وصف مشاعره الأولى عند رؤية الملك وهو يدخل من باب الحرم المكي عصر كل يوم جمعه: "قدر لي أن أرى ما كان الناس يتمنون أن يروه، وأن أسير بين المشاهدين مضطرباً بين أمثالي نحف بموكب الملك من بعيد، ولا تكاد أنظارنا أن تتحول عن رؤية تلك الهامة والقامة الوارفة العالية، التي لا تكون متعالية في مثل ذلك الموقف حول الكعبة المشرفة. ويتدرج بالحديث ليصل إلى المشاركة الشعرية مع شاعرين كبيرين هما: "علي أحمد باكثير" الحضرمي، و (محمد محمود الزبيري" اليمني، بين يدي الملك حين وصوله مكة.. وقد أصبح اسم الشاعر الصغير "عبد الله بلخير" مقروناً بأسماء الشعراء الكبار. يقول عن تلك اللحظة التي ستفتح أمامه مناسبة الكلام عن عمله الإعلامي: "وبالمناسبة فما كان يمر على خاطري أو ببالي يومئذ وبعدئذ أن تتطور بي الأيام، فيقدر لي أن يختارني الملك عبد العزيز نفسه موظفاً في ديوان جلالته، وأن يوكل إليَّ في بداية عملي بين يديه في عام "1361هـ/ 1941م" القيام مع بعض زملائي في الديوان بتتبع وتسجيل جميع الإذاعات الصادرة من العواصم العربية يومئذ، والعواصم الغربية".
وكان ذلك في السنوات الأولى من اندلاع الحرب العالمية الثانية، وذكر لنا أسماء شخصيات تعمل معه يقرأون للملك أخبار الحرب التي يلتقطونها من إذاعة لندن وبرلين، وبكل اللغات ومنها العربية التي يذيعها "يونس بحري"، والإذاعة الإيطالية، والإذاعة اليابانية باللغة العربية، والإذاعة التونسية العربية، يقول: "كنت مسؤولاً عنها ومحرراً لأخبارها وناقلاً لما يذاع وينشر منها، خصوصاً فيما يتعلق بالأقطار العربية كالمغرب والجزائر وتونس".
وقد أظهر لنا اهتمام الملك بالأخبار السياسية من كل تلك الإذاعات، حتى اليابانية، لأن "الملك يحرص على أن نلتقط منها ما نستطيع لاهتمامه بمصير البلاد الإسلامية الواقعة تحت نفوذ اليابان يومئذ وهي: أندونيسيا، وماليزيا، وبورما، والفلبين.. فكان أمرها واستيلاء اليابان عليها يهم الملك ويقلقه ويثير مخاوفه. وقد أوجز لنا مهامه هو وجماعته بأنهم كانوا يقدمون "الأخبار بين يدي الملك عبد العزيز طيلة أعوام الحرب الخمسة لا نكف عما كلفنا به تقريباً في أي يوم من الأيام، سواء كان ذلك في سفر أو حضر أن تنقل، أو في زيارة الملك عبد العزيز بعد ذلك إلى مصر لمقابلة الزعيمين: روزفلت وتشرشل".
وقد يعرج على تفسير لفظ أو مصطلح إعلامي – مثل كلمة – التسجيل – له مدلول متطور وفق تطور وسائل الإعلام الحديثة، ليظهر البون الكبير، والفرق الشاسع بين ما كان عليه العمل الفني آنذاك، وبين ما أصبح عليه الإعلام اليوم: "وما دمت قد ذكرت كلمة "التسجيل" وهي بمعناها اللغوي كانت تؤدي ما كنا نقوم به كتابة بالقلم وعلى الورق، إذ لم تظهر يومئذ السجلات المعروفة اليوم، ولم تكن تعرف. فكان عملنا كله الإصغاء التام إلى بداية أخبار كل إذاعة، ثم الانكباب المستعجل لملاحقة ما يذاع، نكتبه على الأوراق وبالمراسم والأقلام في عجلة وتأن وملاحقة، حتى ندرك بهذه العملية المرهقة تقريباً كل ما ينشر ويقال، لتجئ قراءتنا بعد ذلك لما سمعنا وكتبنا وسجلنا مطابقة تقريباً لما أذيع ونشر كلمة كلمة باللغة العربية والإنكليزية، الـ (بي. بي. سي) من لندن. ولم يكن يومئذ لأمريكا صوت يسمع في إذاعتها غير أصوات قنابلها ومدافعها على الميادين والمدن والقرى وفي أوروبا وما حولها، مما دخلته أمريكا في الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور وهي ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان بعد ذلك في الشرق الأقصى.
وبين مرة ثانية تلك الصعوبات التي تصادفهم في جمع المعلومات والأخبار، مثل الاستماع للراديو الذي يعمل بأجهزة البطاريات، ويحمله معه سفراً وحضراً وفي الوطن وخارجه. وكانت بطارياته كبيرة وسائلة: "إذ لم تكن أجهزة الراديو يومئذ قد ركبت على أساس التيار الكهربائي، بل كانت على البطاريات السائلة المعروفة في السيارات أو البطاريات الناشفة، وسماع الإذاعات على البطاريات الناشفة مضطرب ومشوش وغير صاف".
ومما يكمل صورة العمل الإعلامي شخصياته وأعلامه المتفوقون في البث والإذاعة، وهي هذه الشخصيات الإعلامية الإذاعية التي ظهرت في فترة الحرب العالمية الثانية (يونس بحري) وهو مذيع وصحفي عراقي شهير، ويبدو أنه من أصدقاء بلخير، ويرى أنه "شخصية عراقية متعددة الجوانب والمواهب المتضاربة، استجذبها الدكتور (قروبا) وارسلها في بداية الحرب عام 1939م إلى برلين، فأناط به وزير الدعاية الألمانية المشهور الدكتور (جوبلز) إذاعة القسم العربي في إذاعة برلين"، ويضيف لهذه الشخصية شخصية إعلامية أخرى راحت تعمل معها في برلين (تقي الدين الهلالي) لكتابة النصوص الإخبارية والتعليق عليها.
وكان بلخير يشير بين فينة وأخرى إلى دوره الترجماني بين الملك عبد العزيز وتشرشل في واحة الفيوم القريبة من القاهرة، وما نقل من أخبار حربية أولاً بأول. ثم إعجاب تشرشل بالملك لاهتمامه بتتبع الأخبار السياسية والحربية عن طريق أديبنا بلخير ورفاقه. وكان انطباع ذلك اللقاء لا يفارق مخيلته. وقد ذكرنا عنه شيئاً مما تقدم.
كما كان يفتخر دوماً بالمهمة الإعلامية والإخبارية التي كان يزاولها بين يدي الملك، ويعبر عنها بكل صدق وصراحة، وأخبرنا عن كيفية إيقاظ الملك من نومه في حالة ورود أخبار مفاجئة ومهمة عن سير الحرب وحوادثها، وعلى الملك أن يسمعها.
ومن الأخبار التي كان يصر على إيقاظ الملك من نومه، تلك التي تتفق مع رؤية الملك عبد العزيز السياسية والحربية كسقوط برلين وانتهاء العهد الفاشستي في إيطاليا، وموسوليني وعبور نهر الراين.. وغيرها.. لأن "هذه الأحداث المهمة جداً في تطور الحرب العالمية كان الملك عبد العزيز يأمرنا بأنه إذا حصل شيء من مثلها أن نوقظه من نومه، ويكون بذلك راضياً مغتبطاً منها".
وكان أديبنا بلخير لا يفتأ يذكر أسماء من عملوا معه في المهمة الإعلامية بين وقت وآخر. فإذا أشار مرة لكل من: (محمد عبد العزيز الماجد، وعلي عبد العزيز النفيسي، وأحمد عبد الجبار، وعبد الله بن عبد المحسن البسام، وعبد العزيز بن إبراهيم المعمر، وعبد الله بن سلطان). فقد أشار مرة أخرى لرئيس قسم البرقيات في الديوان الملكي "صديقنا وزميلنا الشيخ محمد بن سعود الدغيثر، ومعه صديقنا الآخر الشيخ عبد الله التويجري". ليخبرنا بما يفعله الملك بعد أن يستمع منهم المعلومات المهمة. أولاً يملي على الشيخين السابقين برقية بفحوى الخبر ترسل إلى محطة الإبراق في الجانب الآخر من الرياض، لتبرق هي الأخرى إلى ابنه ونائبه في الحجاز الأمير (الملك) فيصل بن عبد العزيز، "لعدم وجود هاتف يومئذ بين الرياض والحجاز" ثانياً: يطلب أخاه الأمير (عبد الله بن عبد الرحمن) لينبئه الأخبار المهمة عن طريق رئيس الشعبة السياسية (يوسف ياسين). ثالثاً: يخبر في الصباح بتلك الأنباء أبناءه الكبار في السن عندما يجيئون للسلام عليه مثل الأمير محمد، والأمير خالد، والأمير منصور، والأمير فهد – خادم الحرمين الشريفين – والأمير عبد الله، والأمير سلطان الذي تولى يومئذ إمارة الرياض وكان في مستهل شبابه ونشاطه".
وكان عبد الله بلخير، في أحاديث الذكريات حريصاً على أن يصف لسامعه وقارئه طريقته وطريقة أصدقائه الإعلاميين في تقديم المعلومات والأخبار بين يدي الملك بكل دقة ووضوح.
وكان يقول تكملة للصورة التي رسمها فيما قلناه عن الأخبار السابقة. "أجيء بتفاصيلها مع زملائي المكلفين معي بهذه المهمة في صباح الليل الذي أيقظنا فيه الملك من نومه بفحواه. نجئ في الصباح بتفاصيل هذا الخبر محرراً ومسجلاً ومنقولاً عن مصادره بأقلامنا وعلى أوراقنا، ويكون الملك منتظراً له في مجلسه يحف به الأمراء والمستشارون وكبار رؤساء القبائل وهو يصرف أمور الدولة، فنقرأه عليه بأصوات جهورية ليتسن للحاضرين أن يشاركوا الملك في الاستماع إلى نشرة الأخبار التي نتلوها عليه مرات ثلاث: ضحى من كل يوم، وعصراً، وعشاء. تتخلل ذلك المحادثات الهاتفية بالأخبار الخطيرة التي ألمحت إلى أمثلة منها".
إن في الوصف السابق لمجريات العملية الإخبارية – بداية ونهاية – تمنحنا صورة واضحة لحياة الملك وشخصيته السياسية والقيادية وكيفية تصريفه لأمور دولته الفتية، كما تمنحنا في الوقت نفسه، صورة الإعلام آنذاك، وهي الصورة التي يود أن يقف عندها، كما قلنا، الأديب بلخير ليظهر الفرق بين الإعلام القديم والإعلام المعاصر.
وفي كل ما تقدم كانت صورة الملك عبد العزيز مشرقة في ذهنه، وكان هذا الإشراق إشراق حب عبر عنه بقوله: "محبتي وإكباري لهذه الشخصية العربية العظمية محبة عقل وعاطفة يتغلب فيها العقل أكثر من العاطفة".
إن الحس الإعلامي الذي يتمتع به بلخير لينعكس على سائر مواقفه وسلوكه وحركاته في رحلاته وذكرياته ومشاهداته وانطباعاته ووصفه.
فحين يذكر ما كان عليه الحال إبان الحرب العالمية الثانية، يشير لما له صلة بالإعلام أو الإذاعة أو الأغاني، وغيرها من شؤون إعلامية أو فنية، ولا سيما في بداياتها الأولى. فيصف بعد تأدية صلاة العيد بالجامع الأموي في دمشق وخروجه من سوق الحميدية ومروره ببعض معارفه أصحاب الكتب والمكتبات، ثم يذكر ويقول: "كنت والكلام على الحرب الخبيثة أتجول في محلة وميدان (السنجقدار) حول مدخل سوق الحميدية، فأستمع إلى صوت مجلجل مدوٍ لأغان حماسية صاخبة تنبعث من دكان متوسط يبيع عشرات من الأسطوانات المنوعة من (الشمع)، إذ لم تظهر الأسطوانات والأشرطة الموسيقية والغنائية التي جدت بعد ذلك لا قبله.
وفي هذا النص اهتمام إعلامي، ويتممه ليبين مدى أثره على سامعيه والناس والجمهور: "الأغاني التي تتعالى من دكان ذلك البياع كانت تجمع الجمهور المار عليها حولها، لأنه قد ركب أول مكبر كهربائي تتعالى به موسيقي الأسطوانات أو نشيدها، فتملأ أجواء الساحة كلها، حتى لتسمع من أقاصي شارع النصر ومداخل سوق الحميدية وما أحاط بهما وأشرف عليهما من المنازل المجاورة".
وإن تلك اللمسات الإعلامية الخفيفة لترافقنا عبر ذكرياته، لذلك فهو جدير بأن يتسلم مقاليد الإعلام الإذاعي والصحفي في البلاد، ولا نستغرب منه حين يستطرد في حديثه عدد رحلاته ومغامرته، ودوره في تأسيس أو إنشاء محطة إذاعة كبيرة في كل من الرياض وجدة، بعد أن أصبح مسؤولاً عن الإعلام السعودي في أواسط الخمسينيات الميلادية، وكانت تلك المغامرة أو الجولة الميدانية بين السعودية ومصر وجنيف وألمانيا.. أسفرت عن نتائج مثمرة لذلك المشروع الإعلامي.
ومن لمساته الإعلامية الأخرى إبراز الجانب السياسي لمملكته ورجاله ومستشاريه، وما يصدر عنهم جميعاً من رؤى سياسية ومواقف تستحق الذكر لتصبح وجهاً مشرقاً للبلد وقادته، وكأنه يمزج كعادته شؤونه السياسية بالإعلامية، ولا سيما في العلاقات الدولية، وترسيخ أواصرها وذلك من خلال الكلام عن القادة وشخصياتهم والوفود المصاحبة ونشاطهم.
وقد وصف مثلاً أعمال الرجال المصاحبين للأميرين آنذاك: (الملك فيصل) وأخيه (خالد) في الجولة الرسمية إلى أمريكا، ومن خلال إقامتهما في قصر الضيافة كل واحد على حدة.. من الشيخ (حافظ وهبة) والشيخ (عبد الله السليمان). فتتمة الأعضاء بما فيها أديبنا بلخير، لتكتمل صورة المهمة الرسمية التي حملها الوفد السعودي إلى أمريكا ورئيسها وشعبها.
وهي المهمة التي "يتوقف عليها إعطاء الشعب الأمريكي الصورة الصادقة عن البلاد السعودية وعاهلها الكبير (عبد العزيز)، ونحو الأميرين والمهمة التي حملهما والدهما لإنشاء روابط وعلاقات دبلوماسية متطورة بين بلدين يرجو القائمون عليها أن تكون على خير ما يرجوه الجميع، والتي تبلورت بهذه الزيارة وتطورت إلى إنشاء مفوضيتين فوق العادة في كل من (جدة) و (واشنطن) بعد ذلك، ثم تدرجت فيما بعد إلى سفارتين ذات مقام مميز إلى اليوم".
وإذا كان أديبنا عبد الله بلخير رجل التاريخ القديم والإعلام المعاصر، فإنه لا يفصل أبداً بين سلوك المؤرخ وأهداف الإعلامي، لذلك سيظل في كلامه عن اللقاء الرسمي بين (روزفلت) و (فيصل) محافظاً على رصانة العلاقات التاريخية وانبهار الإعلام ودعايته.. لقيمة تلك العلاقات.
فيقول: الرئيس روزفلت الذي كان يُؤدب للأميرين السعوديين (الملكين) فيصل وخالد تلك المأدبة في البيت الأبيض، كان تاريخه مشابهاً لتاريخ سلفه الرئيس (ودرو ولسون) في أكثر مظاهره وظروفه، والملك فيصل كان على معرفة تامة بوجه الشبه بينهما على بعد العهد بين عهديهما، وكان يعرف تطور خروج أميركا من حيادها، وعزلتها إلى العالم، وكان على يقين من رغبتها في إنشاء عهد من الصداقة المتبادلة بين بلاده وبينها، وكان منذ أوكل إليه والده العظيم النيابة عنه في زيارة روزفلت وتلبية دعوته للتعارف به، ولتحقيق رغبته في التقارب والتعاون والصداقة، كان يعرف أن بلاده تعبر المحيط الأطلسي إلى العالم الجديد لإنشاء عمق جديد فيما بينها، وكان روزفلت وهو ينتظر وصول ذلك الوفد السعودي يعلم بدوره أنه يتجه إلى الشرق وإلى الجزيرة العربية نفسها، ذات التاريخ الذي سمع به والإسلام الذي تجمعت لديه معلومات شتى عنه.
على أن حرصه على التوازن في العلاقات السياسية والدبلوماسية الدولية بين الشخصيات التاريخية، وأن الإعلام والأصول تقتضيان المحافظة على حسن تلك العلاقات، لا يحتم عليه الاستمرار بالإشادة والذكر الحسن، لأن مهمته الرسمية، بل الأدبية أمام قرائه وأجياله تحتم عليه أن يكون موضوعياً، ويضع في حسبانه ذاكرة التاريخ وذكاء قرائه، الذين لا ينسون ما تسجله تلك الذاكرة التاريخية.
ولهذا وجدناه ينقل نتفاً من سيرة روزفلت سواء مما كتبه عنه صديقه (فؤاد صروف) أو ما نشرته بعض الصحف، وليوازن بين الخبر الإعلامي والمضمون السياسي. وفي كل الأحوال سيظل رجل الإعلام، ورجل السياسة، وقبل ذلك وبعده، يظل محافظاً على نزعته العربية وحبه لأمته، لأنه سيذكر تاريخ شخصيات الأمم الأخرى كما هي في حقيقتها.
فيقول: "نشرت جريدة (ورلد سرفي) نسب الرئيس روزفلت بتاريخ 15 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1938 في عددها رقم (ف: 22)، وإليك النص تفصيلاً:
نشر نسب الرئيس روزفلت سنة 36 من قبل الأمريكي (أدموند سن)، الذي أكد أن الرئيس روزفلت من دم يهودي، وطبعت شجرة نسب الرئيس في 15أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1936 في مجلة (الريفلن) التي نشرها القس (ج. ب دين رود) في مقاطعة (ويجينا كنزاس)، وقد اقتطعها من مصدر محايد جداً من معهد (كارنجي) في واشنطن د. س، والتي لم يحتج عليها الرئيس، بل بالعكس صرح في 14 مارس (آذار) سنة 1937 قائلاً: (ربما كان أجدادي في الماضي يهوداً ولكن كل ما أعرفه عن عائلتي أنها مشتقة من (مارتن زن فان روزفلت التي جاءت من هولندا).
ولا يعلق عبد الله بلخير على هذه المعلومات الموثقة والأخبار المتداولة، وإنما يدع تعليق الصحف والمجلات والصحفيين وما يثيرونه حول ذلك النسب اليهودي.. وكان يكتفي به. بينما يظل مع نفسه وقارئه: صاحب الحس العربي، والفكر القومي والذي يترجم المنظور العربي المعاصر الذي يكاد لا يفصل بين اليهودية العالمية والحركة الصهيونية ودولة إسرائيل.
فماذا يقول؟! "وقد وجه إليه سؤال بهذا الشأن من قبل مراسلي الصحف، فأجاب الرئيس عليه بغموض قائلاً: أن أجدادي نزحوا من هولندا إلى أميركا منذ ثلاثمائة سنة وكانوا مواطنين صالحين، ولا يهمني إن كانوا يهوداً أو بروتستانت أو كاثوليك".
وقد نشرت مجلة (الفاشست كنديان) في (موزال) في عددها الثاني مقالاً معنوناً بأن الرئيس روزفلت من أصل يهودي. وهنا تؤكد هذه المجلة التي اقتطفت هذا الخبر من مجلة (ديترويد جويش كرونيكل) أن اليهودي (ب ستوم فيز) قال: إن أفراد عائلة الرئيس روزفلت كانوا يدعون روستوكاميوم الذين طردوا من إسبانيا سنة 1620 وذهبوا إلى هولندا، وقد غير أعضاء العائلة هذا الاسم إلى (روزن بر) ثم غيروه إلى (روزن بم)، ثم إلى روزن بلم، ثم إلى (روزفلت)".
ويبدو أن الحرب العالمية الثانية هي المحور الإعلامي الأساسي الذي كان ينطلق أديبنا بلخير في سمائه ليدور حوله، ويشن الأساليب والمعاني، ليعبر عن أحداثها السياسية ومجرياتها الحربية، والتي قد تنتهي أحياناً إلى بعض وسائل الإعلام التي كانت تشارك الحروب بالأقلام، ولهذا وقف عند بعض تلك الصحف التي تغذيها بعض الدول، كانت تغذي فرنسا تلك الأقلام لتعلنها حرباً على النازية مثل مجلة (المراحل المصورة).
وكان بين المطبوعات التي ظهرت يومئذ من وسائل الإعلام الفرنسية مجلة سميت بـ (المراحل المصورة) اختير لها عدد بارز من نخبة المثقفين في لبنان وسوريا، وتولوا إخراجها والتحرير فيها والدعوة إليها، يرأسهم الأديب اللبناني الكبير والمؤرخ الصحفي المشهور صديقي فيما بعد (يوسف إبراهيم يزبك)".
ولقد كانت ثمة شخصيات سياسية وفكرية واستشارية تصاحب الملك عبد العزيز، وتشهد نشاط أديبنا بلخير الإعلامي وزملائه في مخيماتهم على مقربة من سرادق خيام الملك في الطائف، وفي مصيف (الحوية) تلك الواحة بين الجبال والأودية.
ومن هؤلاء المستشارين: (البشير السعداوي، وخالد أبو اليد، ويوسف ياسين، ورشيد ملحس)، "ثم لحق بنا الشيخ عبد الله فلبي، ولا شأن له في بلاط الملك وحاشيته إلا المرافقة والمجاورة، ثم لحق بنا رئيس أركان حرب الجيش والنمر الأسود (طارق الأفريقي)، فكانت خيامنا جميعاً على تلك الربوة العالية متلاصقة ومتجاورة ومتناثرة، وكلهم يجيئون على خيامنا لسماع الراديوهات، فيها تسجل للملك أخبار العالم من إذاعات العالم.. فتقضي الأوقات التي لا نكون فيما حول الملك في سهرات وندوات وذكريات وأحاديث يشارك فيها كل واحد بما عنده".
ولا بد أن يستفيد أديبنا بلخير من بعضهم أو كلهم شيئاً من الثقافة أو المعلومات أو الأخبار أو التجارب على نحو ما. وقد يختار أحدهم ليذكر تلك الفائدة عنه.
"في تلك الاجتماعات ازدادت معرفتي بطارق النمر، وحفظت من طرفه وملحه التي يفيض بها على من حوله، وأنا أكثرهم التصاقاً به وإصغاء لأحاديثه، وإهابة به بأن يروي ذكريات عمره المديد وخبراته المكتسبة".
وإذا كانت الهموم الوطنية والسياسية والعربية والوقائع التاريخية للشعوب والأمم تشغل أديبنا بلخير في تلك الذكريات عن ذكر أمور تتعلق بمناسبات سياسية (كزيارة الوفد السعودي إلى أمريكا)، فإنه يفطن إلى دوره الإعلامي، فيبدو لنا كأحسن ما يكون عليه ذلك الإعلامي، فيعود لواقع الزيارة مثلاً، والتي أصبحت حقيقة أمام القارئ، ولا تفوته اهتمامات قارئه، وما ينتظره من وصف لسيرة هذا الوفد الملكي ولو كان وصفاً للاستقبال الرسمي والشعبي على الأقل.
فنراه يقول: "لقد شق موكب الوفد السعودي الشوارع الكبرى في العاصمة متجهاً إلى دار الضيافة الفيدرالية بجوار (البيت الأبيض)، ليحصل في (بليرهوس) البيت العريق المتواضع، الذي جرت العادة أن يكون مكان إقامة الملوك والرؤساء وكبار القادة العالميين عندما ينزلون في ضيافة رئيس الولايات المتحدة. وكانت الجماهير على جوانب الطريق تقف عند رؤية الموكب المتميز، ملوحة بأكفها للأميرين ومن في معيتهما، وحتى ترجل الوفد أمام دار الضيافة. محاطاً بمظاهر الإجلال والإكبار، ثم دخل الدار وفي معيته كبار رجال الخارجية وغيرها، واستقر في صدر قاعة الاستقبال التاريخية ذات التاريخ العريق والذكريات الفواحة بعبقه وأريجه".
وأخيراً فإن شخصية عبد الله بلخير الإعلامية تتجلى بحسه الإعلامي، ودوره الذي استطاع من خلاله أن يبلور العملية الإعلامية كاملة وتستوعب جميع أبعادها وصورها.. فكان – وزمرته – مجموعة تشكل وسائل الإعلام في بداياتها الصعبة، ولكن تلك الوسائل أفلحت في تجسيد ملامح الوطن، والأمة والسياسة والتاريخ والقادة والحضارة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :523  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 187 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج