شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-6- (الشخصية التاريخية)
تتجه الرؤية التاريخية لعبد الله بلخير في ذكرياته على الإشعاع الذي ينبعث من الأمكنة التي يشهدها أو يعيشها ولاصقة في ذهنه ووجدانه. فتوحي له بثقافة عربية إسلامية أصيلة، ويسترجع من خلالها الحضارة العربية الغابرة، ورجال العرب المسلمين التاريخيين، وتتبلور الأفكار والمعاني في خياله، فيصوغها معلومات تاريخية بعيدة عن جفافها المادي.
وأول شؤونه التاريخية كانت في وقفته أمام الحرمين الشريفين، وهو يروي قصة التعليم في بداياتها الأولى في الحجاز، ثم في المملكة العربية السعودية، وما كان لهما من أثر في إيجاد جيل من العلماء الرواد، وأهميتها في تاريخ الفكر الإسلامي. وإنها لنظرة تاريخية في تكوين ذلك الفكر ومصادره ومناهجه، كما أنها وقفة عند مناهل العلوم الإسلامية في شتى أقطار العالم الإسلامي مثل: (مراكش وفاس وطنجة وسبتة وتلمسان ووهران والجزائر.. ومدن شنقيط في موريتانيا والسوس في السنغال والصحراء العربية الكبرى وتونس وليبيا). وغيرها مما يدل على أن أديبنا لصيق بالمكان التاريخي، ومعانيه الحضارية والفكرية والدينية.
كما أن وقوفه عند أعلام الفكر الإسلامي ليبلور صورة المعالم التي تزخر بحضارة العرب والمسلمين في أرجاء المعمورة وفي تاريخهم الذهبي المزدهر المشرق، وكان لهم الدور الكبير في نهضة الأمم الأخرى، وازدهار حضاراتها تأليفاً وترجمة ونقلاً.
يقول: "هؤلاء جميعاً كانوا ينابيع الحضارة العلمية التي أخذت عنها أوروبا، إما مباشرة وإما بطرق أخرى. بل إن علماء العرب هم الذين نقلوا الثقافة الغربية وترجموها من أصولها اليونانية والرومانية التي أصبحت بعد ذلك أساس النهضة العلمية في الغرب، خلال القرون الماضية والتي كانت أساس ما عرفة الغرب بعد النهضة المسيحية وعصر العلوم والبحث".
وتشرق رؤيته الحضارية دوماً موشاة بنور الحب والصدق والحماسة والتفاني في سبيل أمته العربية والإسلامية على طول امتدادها، واتساع رفعتها، وتكاثر سكانها، وعمران مدنها وبلدانها، ومراكز علومها.. لتنطلق هذه المشاعر الوجدانية الصافية الصادقة من منابعها في المكان المقدس، والزمان الخالد عبر العصور في (الحرمين الشريفين)، وتنتشر وتعم بقية الأرجاء العربية والإسلامية.
يقول من خلال هذا الحس العربي الإسلامي: "المقصود بكل ذلك تبيان ما للحرمين الشريفين، وما للجزيرة العربية من فضل على البشرية بأسرها في العلم والحضارة. ولعلنا الآن وفي هذا العصر، إذا لم نقل في هذه العقود الثلاثة من تاريخنا الحاضر، نستبشر خيراً بهذه اليقظة العربية الإسلامية الزاخرة التي تغمر ذلك العالم الإسلامي القديم بفيض جديد من العلم الحديث، والحضارة الثقافية الجديدة، تتمثل في عشرات الجامعات، التي انبعثت في عالمنا الإسلامي بعد جلاء الاستعمار عن الدنيا العربية والإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها. وها هي الجامعات في كل قطر عربي وإسلامي.. ثم في الجزائر وتونس وليبيا وفي مصر السباقة إلى كل هذا بأزهرها وعلمائها، ثم في بلاد الشام قاطبة، ثم العراق والسودان واليمن، وفي الهند وأندونيسيا وما حولها، ثم شرقي أفريقيا. بحيث أصبحت هذه الأقطار مشرق عهد جديد لنهضة نرجو الله تعالى أن تكون نهضة قوة وعزة وسؤدد للإسلام والمسلمين، ينطلقون بها في الأرض كما انطلق بمثلها سلفهم الأولون، فيملأون الدنيا هدى وخيراً وسلاماً".
ويظل ارتباط بلخير بالأمكنة والمدن ارتباطاً وجدانياً يظلله الحب، حب التاريخ، حب الرجال الذين صنعوا ذلك التاريخ. فدوماً ترى في ذكرياته عن الأمكنة التي كان يحل فيها أو يرحل إليها أو يزورها، صورة تضيء مشاعره وأحاسيسه العربية والإسلامية، فهو رجل لا ينفصل عن حسه القومي والديني حيال المشهد والواقع والموقف واللحظة الآنية.
ولقد كان انطباعه عن مدينة (بغداد)، وربما كانت المشاهدة الأولى، متوجاً بعطر وأكاليل الورود التاريخية وأعلامها. فيظل التاريخ في فكره حاضراً بكل رجاله وأفذاذه، ولا سيما إن كان يحل في الأماكن نفسها التي خلّدها أولئك الرجال. إننا نقرأ مشاعره قبل أفكاره وهو يروي لنا انطباعه عن بغداد:
"كأننا لم نصدق أننا تحت ظلال نخيلها، وعلى ضفاف دجلتها، وفي رعاية هارونها وأمينها ومأمونها. كانت هذه الأفكار والأحاسيس تزخر بها جوانحنا منذ لبينا دعوة وزارة المعارف العراقية للقيام بهذه الزيارة. وقد صاحبنا الحنين المنبثق من نياط قلوبنا في كل لحظة من لحظات أيامنا السالفة، حتى أصبحنا في ذلك الصباح ونحن في قلب بغداد، بغداد التي كانت ولا تزال وستظل في قلوبنا وفي قلوب أبناء العروبة والإسلام".
إن الوفد – أو البعثة – الطلابية للجامعة الأمريكية إلى بغداد حركت في نفسه الكثير من المعاني التاريخية والقومية، وفي كل تحركات البعثة وزياراتها ومرورها بالأمكنة تثير فيه الحس التاريخي والقومي، فأخذ ينوه بمعنى الأسماء التاريخية والتي سميت، بها أماكن معاصرة، وهذا من جوهر اهتماماته وثقافته التاريخية والذاتية، فحين قامت البعثة بزيارة نادي (المثنى)، هذا النادي الذي كان أسس في بغداد وأنشأه عدد من رجالات العروبة باسم القائد العربي الفاتح العظيم (المثنى بن حادثة الشيباني) على أن الأساس هو قيمة ذلك المكان في التاريخ المعاصر، ودوره في حركات الإحياء العربي، إحياء الأمجاد العربية، التي كان المثنى أحد وجوهها.
ولذلك فإن النادي "استقطب في بغداد جميع شباب وطلاب المدارس ورجالات الدعوة إلى القومية العربية، والوحدة، وكان أعضاؤه يقومون بنشاط كبير، من محاضرات ومسامرات، وكتابات في الصحف، ويدعون إليه من يجيء من الأقطار العربية وغيرها، فكان في بغداد يستقطب ما كانت (العروة الوثقى) تستقطبه على اختلاف في صفاء دعوة نادي المثنى، وصدق لهجتها ووضوح أهدافها وحرارة إيمان القائمين بها".
ويبقى التاريخ هاجساً قوياً في ذهن أديبنا، حتى في المواقف الحرجة والمخيفة، فقد كان مثلاً في تجربته الأولى مع ركوب الطائرة العسكرية في بغداد، وكل على حدة مع الطيار، وفي قمة مشاهداته العلوية، لا ينسى التاريخ، فيقول عن (طاق كسرى) وكأنه رحالة يجوب الأرض والبقاع لا في رحلته السماوية: "ولقد تجولت حول طاق كسرى، وهو الطاق المشهور في تاريخ الدولة الفارسية وكبيرها كسرى، وزيارة البحتري له ووصفه لما تبقى من أطلاله تغالب الدهر وتقاوم الأعاصير وتظل راسخة على وجه الأرض يحج إليها الزوار".
وإذا كان عبد الله بلخير يركز على الجانب التاريخي في ذكرياته، فإنه حريص على أن تكون الوقائع أو الأحداث التاريخية ذات مساس وصلة قوية بمشاهداته والواقع الرحلي، لتظل المعلومات التاريخية عنده حية ونابضة وهو يرويها كمؤرخ عارف لما مضى وانطوى في بطون الأيام.
ولذلك نراه يصف رحلته من (أستكهولم) إلى (أوسلو) بهذا المنظور التاريخي، وإن امتطى قطاراً يزحف على أرض الواقع، ليجعل الواقع عتبة يطل منها على التاريخ البشري، وليواصل الأحداث ببعضها، ويصل إلى تاريخ المسلمين هناك، وبخاصة التاريخ في الأندلس. وكل ذلك يتوارد عبر الاستطراد، والاسم العَلمي – بفتح العين – لأي مكان، كما رأينا، يحرك حسه التاريخي ليسترجع شيئاً عابراً من المعلومات عن ذلك العلم يقول:
"... حتى وصلنا إلى محطة قطارات أوسلو، وخرجنا منها في أمواج من خرج من القطار نحمل أمتعتنا، ولم نكد نطل من عتبات المحطة على ميدانها حتى تراءى لنا فندق يعد من أكبر فنادق المدينة، وكان اسمه مكتوباً على جوانبه فندق (الفايكنج) باسم القبائل الأهلية التي كانت أصل سكان الشمال القطبي من تلك البلاد، والتي اشتهرت بالغزو البحري والبري للبلدان المجاورة لها، مثل هولندا وبلجيكا، وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا والبرتغال. ولقد وصل غزو هذه القبائل في العصر الذي كان المسلمون فيه في عزتهم وقوة ملكهم بالأندلس، وصل إلى شواطئ بلادهم وتوغل في الأنهار، حتى وصلت طلائع سفنهم بأشرعتها ومجاديفها إلى مشارف مدينة إشبيلية، وجرت بينهم وبين المسلمين فيها معركة كبيرة انتهت بتغلب المسلمين الأندلسيين عليهم ودحرهم إلى شواطئ المحيط، ومن ثم انقلبوا على أعقابهم متجهين إلى الشمال".
وقد ينقل كلام الآخرين من الأدباء الذي تتبدّى فيه ثقافتهم أو اهتماماتهم التاريخية من خلال الخبر العادي اليومي.. مثل كلام الدكتور صلاح الدين المنجد، حين أخذ يخبره عن مرض المناضل المجاهد (فخري البارودي) ونزوله في فندق (بسول) الذي استحال إلى فندق من الدرجة الرابعة بعد أن كان أفخم فنادق بيروت، يقول من خلال مشهد حي لا يعوزه الفن:
"قال لي الدكتور المنجد: هل تعلم قصة صديقنا فخري بك التي أفضت به إلى مستشفى الجامعة حيث كنا نزوره جميعاً؟! قلت له: لا، قال: وحمل من الشام منهك القوى في شيخوخة متعبة كما رأيتها، ونزل فندق (بسول) الواقع في محلة (الزيتونة) مستقبلاً البحر، وكان هذا الفندق عندما أسس في القرن التاسع عشر، أفخم فندق في مدينة بيروت، في أواخر العهد العثماني، ينزل فيه كبار ضيوف الدولة ومنهم الإمبراطور "غليوم" إمبراطور ألمانيا الشهير في زيارته الشرق الأوسط بدعوة صديقه السلطان عبد الحميد الثاني لزيارة اسطنبول ثم زيارة القدس".
وقد يقترب عبد الله بلخير بذكرياته، والكتابة عنها، من أسلوب كتّاب الرحلات واهتماماتهم، مما يعيرونه من شأن للأماكن الأثرية ذات الامتداد التاريخي: الروحي والمعماري، كالمساجد والقصور وغيرها..
يقول عن (هرر) المدينة أو المقاطعة الحبشية: "المساجد وحدها كان عددها في مقاطعة (هرر) هذه نحو ألف مسجد، ولقد هدم أكثر هذه المساجد، وبني على أنقاض كل جامع كنيسة تقع في أحياء مسلمة من المدينة لا يعيش حولها مسيحي واحد تمهيداً لتنصير المسلمين المجاورين لتلك الكنائس، فيجدون أنهم قد تحصلوا على ما يحتاجون إليه من المعابد".
ثم يقوده الاستطراد للكلام عن الإمبراطور (منليك) الذي كان أعتى حكام تلك الحقبة من أواخر القرن الماضي في الحبشة).
"فحمى أكثر تلك الإمارات الإسلامية ونصّر أهلها بالحديد والقبائل والتهجير، وهبت أوروبا كلها تؤيده وتنصره وتدعو له". وتطول وقفاته التاريخية حول تلك البلاد خلافاً لما عهدناه في رؤاه التاريخية. على أنها وقفات شائقة يحبذها القارئ.
حتى لو جاءت رسائل من قرائه يذكرون فيها معلومات قيمة عن (السلطنة العفرية) الإسلامية، فيدرجها معلومات مع ذكرياته عن تاريخ الحبشة، وقد استغرقت خمس صفحات، كل ذلك ليفصح عن الجانب الإسلامي في ذلك التاريخ.
وهكذا فإن إفاضته عن الحبشة، التي لم يدع أمراً من أمورها إلا واقترب منه، وأشار إليه، لم يكن إلا من جوانبها التاريخية القديمة أو الحديثة وما لها من صلة بالعرب والمسلمين.
وإذا كانت جل أحاديث عبد الله بلخير تنهل من منابع الأحداث والشخصيات التاريخية التي مضى عليها أكثر من نصف قرن، وغابت عن الكثير من القراء، فإنه يعرج في أحيان قليلة على الأحداث والمناسبات القريبة من ذاكرة القارئ المعاصر، والتي ما زالت حرارة وقعها تلامس حسه ولما تخب وتضعف بعد:
وكلنا يتذكر أنه منذ بضعة عشر عاماً عندما ذهب هيلاسلاسي إلى هيئة الأمم المتحدة في نيويورك واستقبل منها ومن أمريكا استقبال الفاتحين، ألقى خطاباً رناناً على منصة تلك المؤسسة العالمية على مسمع ومرأى من العالم بأسره وبالأخص العالمين الإسلامي والعربي. وقد يضع في تصوره أن ثمة قراء معاصرين، ربما غابت عنهم تلك المناسبات، فيذكرهم قطعاً لأي التباس أو جهل بالشيء، فيتمم عن هيلاسي قائلاً: "قال في خطابه بملء فمه ورفع عقيرته بأنه يتعهد بإعادة جميع رعاياه المسلمين في بلاده إلى المسيحية التي خرجوا عنها في عصور كثيرة إلى الإسلام، وأنه يتعهد للعالم المسيحي بهذا وعلى سمعه وبصره".
ولا يكتفي بلخير بأن يكون راوياً تاريخياً، ومتحدثاً بقضايا التاريخ ومزوداً قارئه بصنوف المعلومات والأحداث، ومحلِّلاً للمواقف، ومفسراً لسلوك الشخصيات التاريخية على نحو ما.. وإنما يندفع بالهجوم على العرب والمسلمين ورجالهم، ونقد سلوكهم ومشاعرهم وعواطفهم وتراحمهم مع من لا يستأهلون العطف والرحمة. ولا يريد لهم الضعة والمذلة أمام أعدائهم، بل يريد لهم أن يرتفعوا في مواقفهم وتفكيرهم إلى أعلى درجات السمو وأرفع مستويات التمدن والحضارة أصالة وحقاً وعلماً، لا زيفاً وادعاءً وجهلاً.
لذلك يقول في استطراده لما تقدم: "أسوق هذا العرض لأبرهن على سذاجة العرب وغفلتهم ومعهم المسلمون كلهم في قرون انحطاطهم الأخيرة، يتخطفهم الناس في كل بقعة من بقاع الأرض على مر العصور والدهور، والعلماء والكتاب والمثقفون والأمراء والحكام يتفرجون ويسمعون ويرون، ولا يحركون ساكناً حتى يظنوا بأنهم متسامحون، لا يقيمون لهذه العصبيات والعنصريات والعرقيات والمذهبيات وزناً، ولا يعيرونها التفاتاً، عسى أن يكبروا بذلك في عيون أوروبا، فترتفع سمعتهم، ويعلو مقامهم، ويبرهنوا على تمدنهم وعلى حضارتهم... وهم لا يزدادون بهذا في أعين أولئك إلا ذلاً واحتقاراً وشماتة وتنكيلاً وبطشاً".
وكأن أديبنا بلخير فطن إلى هذا الاستطراد التاريخي والاسترسال الوجداني، وأراد أن يؤكد أسباب هذا الهجوم، ومن منطلق الفكر الريادي الذي يتميز به فتابع قائلاً: "جرنا كل هذا إلى ما ذكرته وأشرت إليه من حبنا للإمبراطور هيلاسيلاسي، وعصبيتنا له، والدعوة إلى نصره في حربه على موسولويني في حربه الأخيرة، وفي حرب الحبشة الأولى مع إيطاليا.. نقوم معها ونمنحها عواطفنا، وننسى مآسيها ومظالمها وفتكها بإخواننا في بلادها... ولكن يأبى الله إلا أن يجازي الظالمين بما يستحقون".
ولعبد الله بلخير وقفات طويلة إثر كل حديث تاريخي وسياسي، لا بد أن يستخلص العبر والحكم من أحداث التاريخ، وقد يجد أن لأي تاريخ منطقاً تدور وقائعه وأسبابها ونتائجها في فلك دقيق مرسوم بحكمة.. فيستشف قولاً مأثوراً مستقى من حقائق التاريخ، فيصوغ تلك الحكم أو العبر بعرض سريع لما آلت إليه أمور التاريخ وبخاصة في أمر إمبراطور الحبشة وفيما صنعه ظلماً، وفيما دارت عليه الدوائر، ليلقى جزاءه. وأين مفر الظالمين؟ والجزاء من جنس العمل:
"وإذا كان الجزاء من جنس العمل كما يقولون، فقد لاقى هيلاسلاسي جزاء قضائه على سلفه الإمبراطور (اليج ياسو) فقد حاربه وألب عليه، وزج به في غيابات السجن لما ذكرت من ميل هذا الرجل للمسلمين، لأنهم أصله وأهله، كما بينت ذلك، ثم أطلق عليه الرصاص وهو في غيابة الجب، فدار الزمان دورته، وثار الشعب الحبشي على هيلاسلاسي، وزج به في السجون مكبلاً في أغلاله، وفعل به ما فعله هو بسلفه وتلك الأيام نداولها بين الناس".
ويبدو أن هذه المناسبة التاريخية المعاصرة، وألاعيب هيلاسلاسي ونواياه وغدره ستكون رمزاً لكل حاكم لعوب مخادع، ينسى المثل، ويتجاهل المعروف، ويكفر بكل القيم إلا قيم الغدر والخيانة والخداع إن كان لها قيم. سيصبح هذا الإمبراطور مثال الشر المستطير. ولهذا سيترجم الشاعر عبد الله بلخير تلك الشخصية شعراً ملحمياً، إذ يقول: ولي قصيدة قلتها في القبض على هيلاسلاسي ثم في إزهاق روحه منذ بضع عشرة سنة، لم أنشرها بعد.. اللهم لا شماتة!".
وقد نتلمس خيوطاً ثقافية تنسج صورة لبعض المعلومات التاريخية، وذلك في أحاديثه مع الآخرين، إن كان من باب تبادل الرأي أو المناقشة والجدل، أو من باب تصحيح المعلومات لبعض المثقفين ولا سيما مع المثقفين اللبنانيين. فقد جمعه معهم حوار عن (الفينيقية) كحركة سياسية أو قومية جغرافية يتنافى مفهومها مع فكر أديبنا واتجاهه العروبي، وثقافته التاريخية. وكذلك في دفاعه عن عروبة مصر، وذلك من خلال نص مستفيض، يخاطب فيه تأثر أصحاب الفرعونية المصرية، وتأثرهم بـ (فيروس) الفينيقية المعدي، وعلى رأسهم (فؤاد حبيش) صاحب مجلة (المكشوف)، ومحاورته حواراً ثقافياً تاريخياً.
وإذا كان عبد الله بلخير قد واجه العرب الإقليميين بثقافته العربية الأصيلة عن تاريخ العرب وصحح لهم معلوماتهم، فإنه واجه الاستعمار الغربي وبثقافته العربية نفسها، وكشف نواياهم وخططهم في تفرقة العرب وتقسيمهم إلى أجناس، مثل حركة – أو مفهوم (الظهير البربري) التي كررها في ذكرياته لأهميتها في تاريخ العرب السياسي والقومي وفي حركاتهم التحريرية ضد الاستعمار، وليؤكد دوماً عروبة البربر في شمال أفريقيا، رغم دعوى المخططين والمفرقين. فهو لا تفوته مثل هذه الأمور لأنه مهتم بالتاريخ والأنساب والجذور العربية.
لذلك فلا بد أن يقول: إن مكر الاستعمار في إشاعة نظريات محبوكة مدروسة تقول للبربر في المغرب إما أنهم من أوروبا وهذا شيء من العجب، وإما أنهم لا يمتون إلى إخوانهم ومواطنيهم العرب بصلة، وهو افتراء مدسوس ودسيسة مرسومة، وإلا فالبربر عرب يمنيون، أنسابهم تمت إلى الجزيرة العربية بما تمت من أنساب القبائل العربية نفسها في كل مكان من مصر وبرقة والشام وتونس. ولقد ذكر ابن خلدون هذا كله في تاريخه، ووضحه وأشار إليه، وألف في ذلك المغاربة وشكيب أرسلان ما ألفوا، يطفئون في ذلك اللظى الذي أشعل في غفلة العرب المسلمين".
قال ذلك بلخير لأنه يعرف هجرة القبائل والأقوام القديمة ومواطن استقرارها وما يرافق ذلك من نشوء لهجات عامية قد تخرج عن اللغة الأم. ولهذا يقول: "فالبربر عرب طووا الصحراء قادمين في قوافلهم من الشرق العربي وجنوب الجزيرة العربية بالذات، إلى أن طوحت بهم الأسفار إلى مشارق المحيط الأطلسي والبحر الأبيض، ثم نشأت لهم تلك اللهجة العامية التي تميزوا بها كاللهجات الأخرى التي نشأت في أماكن كثيرة من دنيا العرب الشاسعة الواسعة".
ومن خلال هذا الحس التاريخي فإنه يلاصق كل الشعوب العربية، ويندمج فيها بعواطفه وحبه، فيبارك تحررها من الاستعمار:
"تحية لإخواننا البربر في عهد استقلال الجزائر في أقطارها المتآخية من كل عربي ومسلم، فقد كان لهم في حركات التحرير والاستقلال في الجزائر والمغرب المقام المحمود الذي تتعالى به هاماتهم، كإخوانهم الآخرين المجاهدين والمرابطين في الخنادق وفي الأودية والتلال والسهول والجبال حتى نصرهم الله وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصرُ المُؤمِنِينَ".
وتظل شخصيته التاريخية مقرونة بالحس العربي، من خلال استحضار التاريخ العربي القديم والحديث، ورجاله بما تثير من رموز ودلالات فكرية وسياسية وحضارية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :509  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 184 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.