شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
السعوديون في أول بعثة تعليمية لبيروت كانوا ثلاثة
والآن يقدّرون بعشرات الألوف في جامعات ومعاهد العالم
ذهبت في اليوم الثاني وفي الوقت الذي حدّده لمقابلتي معالي فؤاد حمزة وكيل وزارة الخارجية السعودية في مكتبه بدار الحكومة، ودخلت عليه مسلّماً، فرحب بي وأجلسني أمامه على كرسي، ثم التفت إليّ يقول: قصيدتك في "منى" ثم قصيدتك الأخرى في حفلة أمانة العاصمة البارحة كانتا جيّدتين لقد أحسنت فيهما، وأنا أريد أن أسألك أين تعلّمت؟ قلت له: في مدرسة الفلاح بمكة، قال لي: هل يوافق والدك على أن تبتعث لإكمال تعليمك في الخارج؟ فقلت له: نعم! وقال: إذا كان موافقاً على ذلك فإنني مسافر بعد مدّة مع الأمير "الملك" سعود إلى لندن (عام 1935م)، وسنبقى في هذه الرحلة نحو شهرين، وعند عودتي سأمرّ على بيروت، وسأرتّب لك في الجامعة الأمريكية في بيروت مكاناً تلتحق به وتكمل تعليمك في إحدى كليات تلك الجامعة، وتكون مبتعثاً من الحكومة، هل توافق وترحّب بهذا؟ قلت له: إنني أشكرك شكراً جزيلاً، وسأتذكّر هذا العرض منك طول حياتي، قال لي: اسمع يا عبد الله، نحن نريد شباباً متعلّماً والمستقبل في هذه البلاد وفي غيرها هو للشباب المتعلّم، وتكفي الحال التي نحن فيها وسأرتّب لك كل شيء، وعندما أعود إلى هنا من بيروت سأخبرك بما اتّخذت لتلتحق لطلب العلم في لبنان بإذن الله، وأرجو أن تكون ممّن يخدم بلاده في المستقبل وأن تكون من الرجال العاملين.
قمت أودّعه وأنا في غمرة من الغبطة والسرور والحبور لا تّتسع لي سلالم دار الحكومة لمغادرة مكتبه إلى خارجها.
وخرجت من باب دار الحكومة عشر خطوات إلى باب دار مطبعة الحكومة، الواقعة هناك، وصعدت إلى مكتب صديقي وأخي ومستشاري الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود، الذي أوصاني يوم أمس عندما علم بطلبي للاجتماع بوكيل وزارة الخارجية أن أعلمه بما سيحصل فور انتهاء ذلك الاجتماع، ودخلت عليه في مكتبه فرفع صوته مرحباً، وهو يقول لي: بشّر! قلت له: بشارة عظمى! قال لي في دهشة: ما هي تلك البشارة؟ قلت له: الإبتعاث إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، فوثب من كرسيّه خلف مكتبه، وقد أصبحت قريباً منه جداً، يضمّني إلى صدره، وقد تهلّل فرحاً وسروراً، وهو يقول لي: كيف كان ذلك؟ فقصصت عليه ما دار بيني وبين وكيل وزارة الخارجية، فقال لي: هذه والله وثبة عظمى في تاريخ حياتك، فقلت له: ولكن العقبة الكأداء، هي كيف الحصول على موافقة الوالد، فقد أخبرت فؤاد حمزة بأن والدي يرحب بذلك، وأنت تعلم بأنه لا يرحب بذلك، ويتمنّى مني إذا كان لا بدّ من التعليم في الخارج أن ألتحق بالأزهر، أخبرتك بذلك سابقاً، فقال لي في حماس: اترك "العم عمر" -وهو اسم والدي- عليّ أنا! ودعنا الآن نفكّر في المستقبل الزاهر الذي ينتظرك إن شاء الله، وجلسنا نخطّط ونرسم ما يتراءى لنا أن يكون عليه مستقبلي، وكنت أتفاعل في نفسي فرحاً مسروراً، مع شيء من الهيبة والتردّد في مجابهة المجهول، ولكن أبا عبد المقصود رحمه الله، كان يشدّ من عضدي، فإذا رأى عليّ شيئاً من التفكير يردّه بضحكة عالية من ضحكاته البريئة الصافية، وهو يقول لي: وسيكون مصيفي أنا حينئذٍ في لبنان لنكون معاً كعادتنا بإذن الله، فأقول له: أرجو أن يكون ذلك إن شاء الله.
وغاب فؤاد حمزة في رحلته مع الأمير سعود نحو شهرين، وعاد "الملك" سعود وتأخّر عنه فؤاد حمزة كما أخبرني بأنه سيعرج على بيروت، ثم ما لبثنا أن وصل فؤاد حمزة بالباخرة إلى جدّة، فعلمت بذلك، فأبرقت إليه برقية من مكّة أرحّب بعودته وهنّأته بسلامة العودة، فجاءني منه جواب الشكر وهو يقول لي: وسأصل إلى مكة بعد يومين لأراك في مكتبي لإخبارك بترتيب ابتعاثك إلى بيروت بإذن الله، فعلمت أن الموضوع قد انتهى مع صديقي محمد سعيد عبد المقصود.
ووصل فؤاد حمزة في اليوم المحدّد، وجئته ضحى إلى مكتبه فرحّب بي، وما كدت أجلس حتى قال لي: حضّر نفسك للسفر، فهل أنت مهيّأ لذلك؟ فقلت له: نعم! فقال لي: أنهيت ترتيب وجودك في الكلية الثانوية العامة ببيروت، وسأخبرك قبل السفر وأرسم لك الخطة التي تتوجّه عليها، والآن سنهيئ لك جواز السفر، وسأكلّم مدير الأمن العام مهدي الصالح لإنهاء الجواز في هذا الأسبوع، فراجعه غداً واصحب معك بضع صور شمسية لتكون على جوازك، فإذا تسلمت الجواز فزرني مرّة أخرى لأحملك مجموعة من الرسائل تختصّ بأمر سفرك، فقلت له: وهو كذلك. وتناول الهاتف واتّصل بمدير الأمن العام وقال له: لديّ عبد الله بلخير، مبتعثاً إلى بيروت، فأخرجوا له جواز سفر وسيمرّ عليكم لإعطائكم المعلومات اللازمة واستلامه. وذهبت في اليوم التالي إلى مدير الأمن العام مهدي الصالح، الرجل المصلح بكل معنى لقبه الذي لقّبه به بعد ذلك الملك عبد العزيز الذي خبره خبرة، زادت على ربع قرن، فعرف فيه الرجل الحازم النزيه، المخلص، وكنت كما قلت أعرفه ويعرفني من الحفلات الأدبية، والمناسبات الرسمية.
وكنت قد ذهبت إلى المصوّر الوحيد في مكّة مدة ربع قرن، وهو رجل من أصل تركي اسمه شفيق أفندي، يقع منزله خلف مستشفى أجياد، يذهب إليه الناس لأخذ صورهم الشمسية، وهو فاتح غرفة من غرف بيته للقيام بهذه المهمة، فأخذت مجموعة من صور الجوازات وجئت بها في اليوم الثاني إلى مدير الأمن العام، فهنّأني بأبتعاثي للتعلم في الخارج وأمرني أن أذهب إلى قسم الجوازات، عند السيد "فؤاد وفا" فأعطيته المعلومات اللازمة، وقال لي: الجواز سيكون جاهزاً بعد أربعة أيّام، فلما جئته، قال لي: لقد انتهى أمر الجواز وهو بين يدي مدير الأمن العام للتوقيع عليه وتسليمه إليك، وألف مبروك!
فذهبت إلى مكتب مدير الأمن العام وسلّمت عليه، فأمرني بالجلوس، فجلست، فأنهى بعض ما كان بين يديه من الأوراق، ثم رفع رأسه إليّ وهو يقول لي: هذا جواز سفرك جاهزاً، ولكن لي معك كلام أرجو أن تتقبّله مني قبولاً حسناً، فأنا أعرف بأنك شاب طيّب، وقد علمت أن فؤاد حمزة قد أقنع الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية بابتعاث أولاده وأولاد أخيه إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، فوافق الشيخ عبد الله السليمان على ذلك، وأخرجنا لهم جوازات سفر ليسافروا كما ستسافر أنت إلى هناك، وأنا أسهر في كل ليلة مع الشيخ عبد الله السليمان فهو كما تعلم صديقي، وقد أشرت عليه فور علمي بابتعاثك، وعلمي بعزمه على ابتعاث أبنائه أن تكون أنت مرافقاً لأولاده وزميلاً لهم، تكون أخاً مصاحباً لهم تعاونهم في دروسهم وتساعدهم على الخير، وقد رحّب الشيخ السليمان بما أشرت به عليه فهو يعرفك من قصائدك ومشاركاتك في الحفلات الأدبية، وقد أمرني بحفظ جوازك لديّ وألاّ أسمح لك بالسفر منفرداً حتى تكون مع إخوانك وفي مهمة تعلّمكم، فقلت له: أنا أشكرك على ما أشرت به عليّ، ولكنني أخشى أن يتأخّروا عن السفر، وقد يكون في ارتباطي بهم مشغلة لي عن دروسي، فأنا كما تعلم أريد أن أجدّ وأجتهد حرصاً على مستقبلي، فقال لي: يا ابني، ذهابك مع أولاد وزير المالية سيعود عليك بالخير، والرجل متحمّس لأن تكون مع أبنائه، حتى لقد أخبرني بأنه سيساويك بهم في كل شيء وأنت بهذا ستشكر هذه الفرصة السانحة لتكون معهم، ومهما تأخّروا فمن مصلحتك أنت أن تتأخّر، فقلت له: وهو كذلك، أنا موافق على ما تفضّلتم به وأشكركم عليه وسأنتظر منكم الإشارة عندما يتقرّر سفرهم لأكون معهم.
وانتظرت ثلاثة أسابيع على أحّر من الجمر خوفاً من أن تفوتني فرصة الابتعاث منفرداً، مع تقديري الكبير لما أشار به عليّ مدير الأمن العام.
وكان فؤاد حمزة قد أخبرني بأن مصاريفي كلّها ستكون عن طريق السيد حسن البحصلي والسيد حسين العويني طيلة سني التعلّم في بيروت، وعلمت بعد ذلك أن له اليد الطولى في تحبيب إرسال كبار الموظفين أولادهم إلى بيروت، فقد بدأنا أفراداً وانتهت البعثة إلى أكثر من خمسة وعشرين طالباً خلال ستّ سنوات.
وكان للشيخ عبد الله السليمان الفضل الآخر، وكان للشيخ محمد سرور الصبان مثل ذلك.
وجاء الفرج فقد بعث لي مدير الأمن العام، فجئته وسلّمني جواز سفري و قال لي: إن السفر غداً أنت وأبناء آل سليمان، وأن الشيخ عبد الله السليمان سيبعث لك سيارة إلى بيتكم وتتوجّه بعد ذلك إلى بيته في جدّة، لأنه يريد أن يجتمع بك وأن يوصيك خيراً بأولاده، ويكون مكتب الوزير قد أجرى كل ما يلزم من تذاكر السفر وترتيب مصاريف الرحلة، و نفقات الدراسة.
قلت لمدير الأمن العام إن فؤاد حمزة أخبرني أن مصاريفي مستقلّة، فضحك وقال لي: ادخل مع أبناء الوزير كما يرغب الوزير بنفسه في ذلك، وأضاف: (ومن ورد البحر استقلّ السواقي)، ففهمت ما أشار إليه وشكرته وقال لي: لا تراجع البحصلي في بيروت ولا غيره فإن الشيخ عبد الله السليمان قد أخبرني بأنه سيكتب للسيد حسين العويني، أن تسكن مع أبنائه في غرفة واحدة، وأن يجري لك نفس ما يجري لهم، فكن عند حسن ظن الجميع بك.
وهكذا كان وسافرت إلى بيروت عن طريق البحر إلى السويس، ثم بالقطار والسيّارة إلى أن وصلنا بيروت مع أبناء الوزير، كما سبق ورويت في إحدى الحلقات السابقة، وكان الفضل في ذلك بعد الله لصقر الجزيرة وموحّدها الملك عبد العزيز غفر الله له وخلّد ذكره، فقد كان حريصاً على أن يتعرّف أبناء شعبه المتعلّمون إلى الدنيا ومستجدّاتها وعلومها ومعارفها الحديثة، وأن يجد كل مجتهد فرصته للابتعاث إلى أشهر الجامعات ومراكز الثقافة العربية، وكنّا في هذه البعثة أوّل السيل الذي انهمر بعد ذلك فغمر الدنيا كلّها في عهد الملك عبد العزيز ثم في عهود أبنائه من بعده، حتى بلغ عدد الطلاب اليوم في جامعات أمريكا وحدها عشرات الألوف ومثلهم في أشهر وأبرز جامعات ومعاهد العالم، وأكثر منهم ممن عاد ليشارك في بناء الوطن، هذا إضافة إلى سبع جامعات سعودية هي غرّة في جبين عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رائد العلم والتعليم، خرّجت وتخرّج مئات الألوف على مدى ربع قرن أو يزيد منذ بناء أوّل جامعة سعودية في الرياض، هي جامعة الملك سعود.
ولقد بدأنا هذه الحلقات من هذه الذكريات عن أوائل مشاعل التعليم في هذه الجزيرة، وفي حمى خادم الحرمين الشريفين، ونختمها بالإشارة السابقة عن مشاعله في هذا العهد المضيئة سماؤه بآلاف المدارس والمعاهد وبسبع جامعات كبرى، وهذا الحديث حديث العلم والتعليم. وهو أحسن ما يمكن أن يبدأ الإنسان به تاريخاً لأمّة وبلاد، وأفضل ما يحسن الاختتام به، فقد بدأ الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم، بما بدأت به الرّسالة المحمّدية، الكلمة الخالدة اقْرَأْ...
والحمد لله والصّلاة والسلام على رسول الله محمّد صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :695  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 177 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.