شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عندما استقبلنا ملك الدانمارك لنشكره
وطلب منا كتاباً ليعرف منه عن الإسلام
أخذت أنشر في الصحف التي يطالعها العمّال مواعيد شهر الصيام والعيدين وأحدّد أوقاتهما، وأعلن عن بعض الساحات في الربيع والصيف أو "القراشات" ومحطات الأوتوبيسات لأداء صلوات العيدين في الشتاء. وكنّا مثلاً في إعلان صلاة العيدين وأوقاتها نكتب في الصحف، ونكتب إعلانات على ظهور العمّال في محطات سكك الحديد وتجمّعات العمال تشير إلى أماكن الصلاة يوم العيد المقبل بعد يوم أو يومين، ثم يتجوّلون بهذه اللّوحات في المحطات والميادين ليعلم من رآها من العمّال الزمان والمكان المحدّدين لهذه الشعيرة الإسلامية.
فامتلأت الأماكن التي استأجرناها، والتي هيّأناها لمثل هذه الصلوات، وفرح العمّال بهذا الترتيب الجديد والتجمّع كثيراً، قال لي السيد حسين الزين وهو يوالي حديثه هذا: إنني قد مررت في يوم من الأيام قبل أسبوع من حلول عيد من هذه الأعياد، وهو عيد الأضحى، في أكبر ميدان من ميادين كوبنهاجن، وإذ كنت مارّاً فيه تحت جدران دار البلدية الضخمة العظيمة المطلّة على الميدان وعلى حديقته المشهورة هناك بـ "التيفولي"، ألقيت نظرة على دار البلدية، وكنت أعلم أنها أعظم دار رسمية في العاصمة، وأن بها قاعة كبرى تسمّى بقاعة الملك تقام فيها الحفلات الرسمية، التي يتولّى الملك الدانمركي رئاستها، ولا يعقد فيها اجتماع إلاّ بأمر الملك نفسه، فلمعت في رأسي فكرة، وهي أن أرقى سلّم الدار، وأقابل المدير المسؤول عنها، وأعرض عليه فكرة برقت في ذهني، وهي أن العمّال من المسلمين في هذه البلاد ويدفعون للدولة ضرائب مختلفة في أعمالهم وإقامتهم بها، ومن حقّهم، وهم يدفعون تلك الضرائب الكبيرة، أن ينالوا من الدولة ما يوفّر لهم أداء عباداتهم إذا طلبوها. وهو شيء معروف في الدستور الدانمراكي ولماذا لا نفتح لهم تلك القاعة في يوم العيد ليقيموا فيها الصلاة، لأن الثلوج قد صادفت أنها كانت تغمر البلاد في ذلك العيد، قال: ورجحت الفكرة في ذهني بضع ثوان، ولم أشعر بنفسي إلاّ وأنا أقرع باب مدير البلدية المشار إليه، ولما دخلت إليه في مكتبه والبلاد ديمقراطية جداً وحقوق الفرد فيها محفوظة بالقانون، سلّمت عليه بالدانمركية الجيّدة، وقلت له: أريد أن أتحدّث إليك، وأنا رجل مواطن دانمركي، فقال لي: تفضّل، فشرحت له متاعب العمّال المسلمين في وجود مكان لهم يقومون فيه بأداء صلاة العيد بعد بضعة أيام، وذكرت له التاريخ والزمن، وقلت له: إنهم يدفعون الضرائب وتدخل خزينة الدولة منهم الملايين في كل عام، وهم يدفعونها بغبطة وشكر للضيافة والكرم، اللذين يسبغان عليهم في إقامتهم في هذه البلاد، ومن حقّهم والأمر كذلك أن ينالوا منكم ما هو معروف عنكم من رعاية وديمقراطية وكرم.
فقال لي الرجل: وما الذي تريد أن نفعل؟ قلت له: السماح لنا بالقاعة هذه ساعة من الزمان في ضحى يوم العيد، وسنعلن في الصحف كلّها أن الملك قد تفضّل ودعا هؤلاء العمّال ومن معهم من غيرهم من المسلمين لأداء صلاة العيد في القاعة الملكية، وأنتم تعلمون مقدار الحمد والشكر الذي سيملأ قلوب هؤلاء المستحقين للعطف والرعاية نحو ملك هذه البلاد وشعبها.
قال لي: وكيف تكون صلاتكم؟ وما مقدار زمنها؟! وما هو المتطلّب منا فيما لو جاءت الموافقة على ذلك لنقوم به حتى تكونوا راضين ونكون نحن قد قمنا بما ترجون وتطلبون؟
قال حسين الزين: قلت له: لا شيء! غير أن تغطّى اللوحات الفنية المصوّرة التي تشغل جدران القاعة، وأن تزوّد الحمامات حول القاعة بخراطيم وأباريق نحن مستعدون لشرائها، ليقوم من لم يكن متوضّأً بوضوئه، وشرحت له كيف يكون الوضوء، وسنجيء بالمناشف لنضعها في دورات المياه، ولا شيء بعد ذلك إلاّ التجمّع في القاعة ووجود إمام وخطيب لقيادة المصلّين في صلاتهم، ثم ينصرف الجميع شاكرين حامدين لكم، وإذا قدر لهذه الفكرة أن يسمح بها جلالة الملك، ورأيتم أن تخرجوها إخراجاً شعبياً فلكلورياً بإحضار مصوّري السينما وغيرها، لتصويرها وتعريف الناس على عبادة هذه الآلاف المسلمة، فسيكون لذلك في الصحافة والإعلام، ووكالات الأنباء ما يرفع من ديمقراطية بلادنا "الدانمرك"، وقلت له: وأنا مواطن دانمركي مسلم من أصل لبناني، وقد جئتك باسم أبناء ملّتي لأعرض عليك هذه الفكرة، والأمر بعد ذلك بين يديك، ونحن شاكرون ومقدّرون حتى لما سيمنعكم من ذلك لو حدث...
قال حسين الزين الذي يحدّثني بذلك: لقد كان مدير دار البلدية يستمع لي بإصغاء تامّ، وفكره يجول في أجواء ما يسمع، وكأنما يتراءى له السمعة الحسنة التي ستتم لبلاده فيما لو قاموا بتنفيذ هذه الفكرة، وقال لي الرجل: حسناً تعال لي بعد ثلاثة أيام على أن تكتب الآن أمامي طلباً باسم المسلمين المقيمين في الدانمرك. وقد ذكرت له في سياق كلامي أنهم ينتمون إلى نحو أربعين دولة وشعب، قال: وأخذت ورقة من أوراق البلدية وكتبت عليها هذا الطلب، ووقّعته عن المسلمين المقيمين في الدانمارك، ثم دفعته إلى الرجل، وقام الرجل فقمت مودّعاً وخرجت من دار البلدية لا أعلم من شدّة فرحي بما لمع في ذهني وما أخرجته في الحال إلى حيّز العمل، أين أذهب؟ وتوجهت إلى لفيف من زملائي وأصدقائي أخبرهم بالمفاجأة.
وانفجر هؤلاء الزملاء يضحكون على سذاجة تفكيري وعلى عنفوان حسن ظني، فقلت لهم: لقد قمت به ونحن لن نخسر شيئاً إذا اعتذروا عن تلبية طلبنا، فإن قدر للفكرة أن تخرج كما تخيّلتها كان في ذلك مظهر من مظاهر ديمقراطية هذه البلاد.
ومضت الأيام الثلاثة، ودخلت على المدير في مكتبه فلم يكد يراني حتى ابتسم وقال لي: تفضّل! فجلست، فقال لي: من حسن الحظ، أن جلالة الملك عندما رفعنا إليه طلبكم وافق عليه، ثم زاد إصدار أمره أن تكون الأشياء المطلوبة لتمام ما تريدون مقدّمة منّا لكم بدون مقابل، فرتّبوا لنا ما تريدون أن تقوموا به لأن علينا أن نحضر بعض قوى الأمن من الشرطة ليكونوا في داخل الدار وحولها، حتى لا يستغرب المواطنون ما قد يرونه من تجمّعات داخلة وخارجة في دار البلدية، ورتّبت مع المدير كل ما مرّ بذهني مكمّلاً لنجاح هذه التجربة، وأنا لا أكاد أصدّق ما أسمع، وقلت: إننا سنوجّه دعوة لممثلي الدول الإسلامية للإشتراك مع العمال في أداء صلاة العيد، وهكذا كان، وتمّ كل شيء، وأعلنّا في الصحف الخبر، فاهتّمت به الصحافة والتليفزيون ووكالات الأنباء، فهو حدث غير مألوف، لأن القاعة التي ستؤدّى فيها الصلاة هي القاعة التي يتوّج فيها ملك الدانمارك عندما يتولّى مهام ملكه، وهو في القانون راعي الكنيسة ومرجعها، ومن ثم فالمسألة حسّاسة، وعلى غير ما يتوقّع المتوقّعون.
يوالي السيد حسين الزين حديثه عن هذا الحديث، فيقول: لقد انتشر الخبر، وكتبت عنه الصحف، وفوجئ الناس في ضحى يوم العيد بجماهير غفيرة من كل لون وجنس تتماوج بهم مداخل دار البلدية، وكانت الصحافة والإذاعة المرئية المصوّرة حاضرة لتسجيل هذا الحديث، وكان اليوم يوماً مشهوداً، وكنت قد اتّفقت مع عامل مصري لإقامة تلك الصلاة، حتى لقد وضعنا عدداً من الجنود في أركان القاعة حفظاً للنظام الذي كنت ومعي بعض زملائي نشرف عليه، ثم إن فكرة قد طرأت على بالي، وحسبت لها حساباً، وهي أن بين العمال العرب فئات متناحرة متخاصمة بعضها مع بضع، وكان يجري بينها خلاف وشغب في أماكن تجمّعها، فخشيت أن يقوم بعضهم بإلقاء بعض الخطب الحزبية بعد الصلاة فيقوم من يردّ عليهم، وتنقلب القاعة إلى ما يشبه الوضع الذي نعانيه في البلاد العربية من خصام وصراع وسباب وشتائم، يفسد علينا بهجة ما تمّ وما تحصلنا عليه، ويندم عليه مدير البلدية ويصبح موقفه حرجاً أمام ملكه وشعبه، والغريب أن ما تحسّبت له كاد أن يقع، فلم يكد الإمام ينتهي من صلاته حتى وقف بعض العمال العرب من الحزبيّين محاولاً إلقاء كلمة، وتحفّز آخرون من أحزاب أخرى مضادّة لحزبه أن يردّوا عليه، وكاد الشغب أن يذر قرنه في أرجاء القاعة لولا ما أشرت به إلى رجال الأمن بأن يمنعوا أي حركة أو خطابة، وأن يخرجوا من يحاول ذلك من دار البلدية كلّها عندما أشير إليهم به.
وسلّم الله وانتهت الصلاة بأكثر مما مرّ بخاطري، وظهرت الصحف في اليوم التالي وفيها خبر هذه المفاجأة، ونشرت محطة الإذاعة صور الصلاة، وصادف أن جاء بعض ممثلي الدول العربية ممن يعرفهم المصوّرون ورجال الصحافة، وكانت القاعة قد امتلأت فلم يجدوا مكاناً للصلاة إلاّ خارج القاعة وفي مدخلها، فجلسوا منضمّين إلى من كانوا هناك، ولاحظت صحيفة من الصحف كيف أن أمكنة العبادة الإسلامية لا تكون فيها تفرقة طبقية ولا وظيفية، وأن من انتهى من حضوره إلى أي مكان فليجلس فيه.
قال لي مواصلاً كلامه: وسآتيك غداً بقصاصات مصوّرة من الصحف عن هذا الحدث الذي فاجأ الدانمركيين فدار بلديتهم عزيزة عليهم، وكان الناس بين محبّذ لما جرى، ومرحّب به، وبين مستغرب ما تمّ وكان، والمرحّبون بالموضوع كانوا من الطبقة الكبيرة في السن الذين يشكون مرّ الشكوى من مظاهر الشباب الإلحادية واللاخلقية ومن عزوفهم عزوفاً كاملاً، بل ومحارباً للكنيسة وللعبادات وللقبول بها، بل لقد كتبت إحدى الصحف حول موضوع الصلاة تحبّذه وتثني على السماح به، وتقول إن لدينا عشرات الكنائس المعطّلة التي لا تفتح أبوابها لعدم وجود من يتردّد عليها، والعبادة لله وفقدان الدين من الجماهير الشباب هو سبب ما تعاني الدانمارك من تفسّخ أخلاقي وإرهاب، وحبّذا لو أعطيت للمسلمين كنيسة أو أكثر من هذه الكنائس يشغلونها بالعبادة والتسامح هو المطلوب اليوم، عسى أن نعالج به بعض ويلاتنا ومصائبنا التي نجابهها.
قال السيد زين: قبل أن نترك قاعة البلدية كنّا قد فكرنا أن نرفع كلمة شكر لجلالة الملك على ما تفضّل به علينا، وحرّرناها ووقع عليها ممثّلون من كل بلاد وجد من أبنائها عمّال، حتى أننا وجدنا أن لبعض البلدان عاملاً مسلماً واحداً يمثّلها في هذا التجمّع، فوضعنا اسم بلاده، فتجمّعت لدينا أسماء نحو أربعين دولة، رفعت كلمة الشكر باسمهم مع ذكر أسماء تلك البلدان، وعرضناها على مدير البلدية، وسألناه، إذا كان بالإمكان أن يحملها ثلاثة منّا يقدّمونها بأيديهم إلى جلالة الملك في وقت تطلبون لنا تحديده، وتعيينه إذا وافق الملك عليه، واستحسن الرجل هذا الرأي، فرفع رغبتنا إلى القصر الملكي الذي جاء جوابه بأن جلالة الملك سيكون مسروراً باستقبال من يمثل أولئك المصلّين، وحدّد القصر لنا موعداً بذلك تبلغنا به من مدير البلدية. والكلام لا يزال للأستاذ الزين يحدّثني به على مائدة عشاء ذلك المساء الذي دعوته ومعه من ذكرت من إخوانه، وهو يقول:
ذهبت أنا ومن كان معي نحمل رسالة الشكر، فاستقبلنا الملك استقبالاً ودّياً للغاية، والملك رجل ديمقراطي إنساني بكل معاني الكلمة، وبعد أن تلونا كلمة الشكر باللغة الدانمركية وجلسنا، قال الملك: إنني سعيد لأن أسمع شيئاً عن الإسلام فمعلوماتي عنه أقلّ مما أتمنّى، وسألنا إذا كان لدينا كتاب باللغة الإنجليزية أو الإفرنسية يشرح ما يلقي أضواء على الإسلام، قال: فقلت له: لديّ بعض الكتب بالإفرنسية والإنجليزية وسأتشرّف بإرسال ما أتحصل عليه إلى جلالتكم، فقال لنا: سأكون شاكراً لكم، وودّعنا الملك وخرجنا، وكانت تلك الزيارة لا تُنسى ذكراها. ولقد بحثت في المكتبات فكان من حظّي أن وجدت كتاباً بالإفرنسية وآخر بالإنجليزية بعثتهما إلى القصر الملكي باسم جلالة الملك، وأتذكر أن الكتاب كان اسمه: "الطريق إلى مّكة"، لمؤلّفه محمد أسد النمساوي المسلم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :482  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 173 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

البهاء زهير

[شاعر حجازي: 1995]

التوازن معيار جمالي

[تنظير وتطبيق على الآداب الإجتماعية في البيان النبوي: 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج