مزيد من الجولات مع الجاليات الإسلامية |
في بلاد توصف بأنها "سطح العالم"!! |
عرفت مما نقله الصديق الأستاذ إبراهيم يزبك أن صديقنا حبيب الرحمن لا يزال في نفسه "شي من حتى". |
وذكرت للأستاذ يزبك مفاجأة تتعلق بالكتاب الذي قام بترجمته، وقد جاءني بنسخة منه هدية، وقلت له: هل تعلم أن أوّل نسخة خرجت من المطبعة، وقدّمتها أنت بنفسك للسفير الفنلندي في دار السفارة في بيروت، أنني زرت السفارة في اليوم التالي من زيارتك للسفير، وقدمت لهم جواز سفري للحصول على تأشيرة لزيارتي لبلادهم، فقدّموا الجواز للسفير كالعادة، ولما رأى أن الجواز "سياسي" ومذكور فيه أنني كنت من موظفي الدولة، خرج بنفسه من مكتبه إلى مكتب سكرتيره الذي كنت جالساً فيه، وقدّم لي نفسه، واصطحبني معه إلى مكتبه مرحّباً، آمراً السكرتير بأن يعطيني تأشيرة سياسية، وقدّم لي القهوة وبدأت أحاديث المجاملة بيني وبينه يسألني عن أسباب الزيارة، لأن الزوار لها من السعودية أقلّ من غيرهم من البلاد العربية، فذكرت له ما أريد من الاجتماع بالأقليّة الإسلامية هناك، فذكر لي أن تلك الأقلية تتمتّع باحترام كبير في بلادنا، وأنهم مواطنون مخلصون لهم سمعة اجتماعية عالية، ثم أفاض يذكر أن بلاده من أوائل البلدان الأوروبية التي اعترفت بالدين الإسلامي، وأعانت تلك الجالية بدفع مرتبات لمن يتولّى تعليم أبنائهم، كما تفعل مع الأقليات الأخرى، وأن الصلة بين بلادي وبين البلاد العربية، كانت لها خيوط قديمة، نأمل الآن أن نجدّدها بإنشاء سفارة في جدّة، ونأمل أن تكون لكم سفارة في هلسنكي. |
ثم قال لي السفير، وما دمت متوجّهاً ضيفاً على بلادنا، فسأقدّم إليك هدية تصحبها معك، وتحتفظ بها ذكرى لبلادنا في مكتبتك، وهي الترجمة الأولى لكتاب رحّالة فنلندي قام بسياحة في بلاد العرب، ونشر بعد ذلك ذكرياته عنها في كتاب ترجم إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية، وأن الأستاذ صديقنا يوسف إبراهيم يزبك قد تولّى ترجمة ذلك الكتاب والإشراف على طبعه في بيروت، وقد جاءني أمس بالنسخة الأولى التي خرجت من المطبعة، على أمل أن يلحقها بعد ذلك بعشرات من النسخ لنهديها لضيوفنا. وكان الكتاب بالفعل ولا يحضرني اسمه الآن على مكتبه، فقدّمه هدية لي، واغتبطت بالكتاب اغتباطاً كبيراً، ورأيت فيه فألاً سعيداً لنجاح زيارتي ومهمتي عندما أصل إلى تلك البلاد، قلت للأستاذ يوسف يزبك، والحديث قد تشعّب بسببه، إنني أشكرك على هذه النسخة وعليها كلمة إهدائك، وسأحتفظ بها وبالنسخة الأولى التي سبقتها في الخروج من المطبعة، وقدمتها أنت بيديك إلى صديقك السفير، فسرّ بما سمع سروراً كبيراً، وقال لي: سأشكر السفير إذا زرته بعد غد على ما أهداه إليك. |
وأختم هذا الإسهاب بذكره وفاة صاحبنا وصديقنا حبيب الرحمن في ما شارف على الثمانين من العمر تقريباً، وقد جاءت إليّ أخبار وفاته بالهاتف من أصهاره بمكّة، ثم ماتت بعد ذلك السيدة "ريحانة" وبقيت بناته في بيته، وكتبت إليّ إحداهن بما حصل، وبعثت إليها تذكرة بالطائرة لتجيء وتؤدّي فريضة الحجّ وترى خالتها في مكّة، وقد وصلت بالفعل ونزلت ضيفة على تلك الخالة بضعه شهور، زرناها مع العائلة مرّات، ثم عادت بعد ذلك إلى هلسنكي وبقيت صلات عائلتي بأصهارهم في مكة مستمرّة بالهاتف إلى اليوم. |
رحم الله الحاج حبيب الرحمن رحمه واسعة، فقد أقرّ الله عينه بالحسنيين معاً: الأذان في القطب الشمالي خمس مرات في كل يوم وليلة، وهو ما اشتاق أن يترك الحج للقيام بهذه الشعيرة، التي نظر إليها نظرة إسلامية مؤمنه عميقة فيما ذكرته سابقاً. ثم جمع الله له الحسنى الثانية التي ناجى ربه بأن يؤجّلها له إلى نهاية عمره، وهي أداء الحجّ والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفّي قرير العين، مقبول العبادة إن شاء الله، فما كان إلاّ رجلاً صادق الإيمان، عالماً من أولئك العلماء والدعاة الذين أشرت إليهم في مقالاتي هذه، والذين يندر اليوم إن لم نقل يتعذّر وجودهم بين العرب والمسلمين، ومع أن أمّة محمد لا تزال بخير، إلاّ أن الأمر يكاد يكون كما أشرت إليه. |
نعود إلى زيارتي السابقة لفنلندا التي كنّا قد بدأناها، ولقائي بالجالية الإسلامية فيها، وعودتي بعد ذلك مع عائلتي إلى عاصمة السويد استوكهولم، وأضيف بأنني قد توجّهت في اليوم الثاني لوصولي استوكهولم إلى السفارة السعودية بها للسلام على الأخ الصديق معالي الأستاذ ناصر المنقور يوم كان سفيراً سعوديّاً هناك، فلقيت في مكتب السكرتارية أحد أبناء الأخ الشيخ محمد خليل العناني، فرحب بي ثم أدخلني على السفير المنقور، فكان اللقاء لقاءً أخويّاً بعد مدّة طويلة لم أرَه فيها، وجلسنا نتحدث طويلاً، فقلت له: إنني أستفسر فيما إذا كان في بلاد السويد أقليّة إسلامية متجمّعة ولها جمعية أو ندوة أو مكان يمكن لي الاتّصال به للاجتماع بها، فقال: إنه لا يوجد للمسلمين هنا مكان يعرفون به، ولا مكان للعبادة، فالمسلمون من أبناء الشعب السويدي نفسه أفراد قلائل نعرف بعضهم من زيارتهم للسفارة في مناسبات مختلفة، أما بقية المسلمين الآخرين فجماعات من العمّال، ينتمون إلى أماكن وبلدان مختلفة، بينها يوغسلافيا وتركيا، وعدد قليل من شمال أفريقيا، وعدد قليل آخر من مصر أو سوريا أو لبنان... |
ثم قال لي: إننا نفكّر في ضرورة وجود مسجد في العاصمة يفيء بحاجة المقيمين من المسلمين بها في المناسبات الإسلامية وهي العيدان، إلاّ أن المساعي لا تزال قيد البحث والدرس مني ومن بعض الزملاء السفراء المسلمين وبعض الأفراد الآخرين المهتمّين بمثل هذه الأمور، وكنت قد أخبرته بأنني قادم من فنلندا وذكرت له عنها ما سمعت وما رأيت، وأنني أقصد بعد زيارتي للسويد زيارة العاصمة الترويجية "أوسلو"، للتعرّف على تلك البلاد وزيارتها، وللتعرّف على من يمكن أن يكون فيها من المسلمين، فقال لي: إنه توجد بأوسلو سفارة مصرية، والسفير فيها صديق لي وهذه بطاقة تقديم مني لك، وتعريف بك له، ثم أخذ البطاقة وكتب عليها التقديم والتعريف بما ذكر، وسلّمها إليّ، وقال لي: إن السفير المذكور سيوفّر لك الوقت في تعريفك ببعض ما تريد. |
وودّعت الأستاذ المنقور شاكراً بعد أن أصرّ على دعوتي لتناول الغداء في اليوم الثاني معه في السفارة فشكرته، واعتذرت بأنني قد قطعت تذاكر السفر إلى أوسلو بالقطار، وخرجت من السفارة لأنضمّ إلى مجموعة من السياح، تقوم إحدى وكالات السياحة بالتجوّل بهم في معالم هذه المدينة "استوكهولم"، ومشاهدة ما يطيب للسياح أن يشاهدوه، وكلّهم من الغربيين. وزرنا دار البرلمان وقاعة العرش، ودار البلدية، ولما كان ملك السويد ينتقل في الصيف من العاصمة إلى مصيفه الملكي بعيداً عنها، فإنه قد ترك للجماهير من السياح والمواطنين أبواب قصره وقاعة عرشه مفتوحة تغشاها جماهير الزائرين خلال مدة الصيف كلّها، ولأبناء المدارس والكليات والجامعات أن يتجوّلوا في أروقة القصر الملكي، ليتعرّفوا على معالمه وعلى كيفيّة مجرى الحياة فيه. |
وقد رأيت بنفسي فيمن كنت معهم وسمعت من الدليل الذي كان يقودنا ويترجم لنا ما نحتاج إلى معرفته كل هذه المعالم التي سررت برؤيتها، وأضفت عنها معلومات كثيرة تحصّلت عليها إما في كتيّبات وأوراق خصّصت للسيّاح، وإما فيما استفدته من الدليل والقائد في الفرقة التي أجول معها، أو فيما أطالعة في الصحف والكتب من أخبار هذه البلاد. |
ولم أجد في السويد يومئذ ما يلفت نظري إلاّ معرفتي السابقة، بما لأحد ملوك السويد في أوّل هذا القرن من اهتمام بالأدب العربي، وأنه قد وضع جائزة أدبية لمن يكتب عن الأدب العربي كتاباً يستحق الجائزة. وأن أحد علماء بغداد قد ألّف كتاباً في ذلك ونال به الجائزة، وطبع الكتاب وعُمّم وهو في مكتبتي، إلاّ أنني بعيد العهد بقراءته، وكنت قد قرأت أن بعض المجامع العلمية في السويد قد دعت بعض علماء العرب وبينهم بعض المصريين للاشتراك في تلك المؤتمرات وإلقاء محاضرة عنها، وأن أحد علماء مصر قد توجّه إلى عاصمتها في مناسبة من هذه المناسبات وألقى محاضرة باللغة العربية، نشرت بعد ذلك باسمه وباسم ذلك المجمع، وفي بعض الجامعات السويدية أقسام للأدب العربي وأساتذة اشتهروا بتتبّعهم واستقرائهم للحركة الأدبية والعلمية في العالم الإسلامي بصفة عامة والعالم العربي بصفة خاصة. |
وأذكر، وأنا أملي هذه المعلومات لغوية عابرة بدون مراجع في خريف 1985م وأنا في إسبانيا، أن الحالة قد تغيّرت في البضع عشرة سنة السابقة منذ زيارتي تلك، فقد وصلها مدّ إسلامي جديد نشأت عنه بعض المساجد والجمعيات العربية، وكثر المهاجرون من بلاد المسلمين إليها، فالتفّوا حول ما ظهر فيها، وأنشأوا بعض المدارس لأبنائهم من الجاليات الإسلامية والعربية، وأصدر بعضهم صحيفة، وأنشأ إذاعة مصوّرة باللغة العربية يسقبلها من أقام في تلك البلاد، وفيها أخبار العالم العربي وخلاصات من أخبار العالم كلّه |
وقد تضاعف أولئك المهاجرون إليها عمّا كانوا عليه منذ نحو خمسة عشر عاماً، وأصبحت اللغة العربية مألوفة في بعض نواديها ومقاهيها، وفي بعض المتاجر الكبيرة فيها. |
وانتهت زيارتي لبلاد السويد، وركبت مع عائلتي القطار من استوكهولم إلى مدينة أوسلو عاصمة النرويج الشقيقة والمجاورة لها، وكان نهار السفر نهاراً مشمساً وبديعاً ودافئاً، فانساب بنا القطار في سهول وفوق أودية وحول روابي وبحيرات متناثرات عن اليمين واليسار، وقد امتلأ القطار بالمسافرين من السيّاح الأجانب من بلاد اسكندنافيا ومن أبناء السويد والنرويج أنفسهم، والرحلة ممتعة حتى وصلنا إلى محطة قطارات أوسلو، وخرجنا منها في أفواج ممن خرج من القطار نحمل أمتعتنا، ولم نكد نطلّ من عتبات المحطّة على ميدانها حتى تراءى لنا فندق يعدّ من أكبر فنادق المدينة، وكان اسمه مكتوباً على جوانبه فندق "الفايكنج"، باسم القبائل الأهلية التي كانت أصل سكان الشمال القطبي من تلك البلاد، والتي اشتهرت بالغزو الهجري والبرّي للبلدان المجاورة لها، مثل هولندا وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا وأسبانيا والبرتغال، ولقد وصل غزو هذه القبائل في العصر الذي كان المسلمون فيه في عزّتهم وقوّة ملكهم بالأندلس، وصل إلى شواطئ بلادهم وتوغّل في الأنهار، حتى وصلت طلائع سفنهم بأشرعتها ومجاديفها إلى مشارف مدينة إشبيلية، وجرت بينهم وبين المسلمين فيها معركة كبيرة انتهت بتغلّب المسلمين الأندلسيّين عليهم ودحرهم إلى شواطئ المحيط، ومن ثم انقلبوا على أعقابهم متّجهين إلى الشمال. |
هذا الفندق يحمل اسمهم، وقد أسعدنا الحظّ بوجود غرفة في أدوراه العليا، نعمنا فيها بالراحة الكاملة ومن نوافذها نطلّ على مناظر تلك العاصمة النرويجية الخلاّبة، التي أقمنا بها بضعة أيام. |
|