شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
والتقيت في الأراضي المقدّسة مع عالمين:
الحاج حمدي من بلغراد والحاج حبيب الرحمن من هلسنكي
ومرّت علينا ساعات ذلك اليوم في أحاديث وطرف ومُلح، فقد كان الإمام عالماً وطريفاً وله روح مرحة وأدب يسمع، كانت بهجتهم كلّهم في اليوم التالي وقد علموا بدعوتنا لهم إلى الحجّ، تكاد أن تفيض بها نوافذ البيت، وقد وصلت أخبار الدعوة إلى موظفات البنك من ابنتهم، كما وصلت بالهاتف إلى كبار الجالية الإسلامية في هلسنكي العاصمة، ولا تسل عن تجاوب التهاني التي كانت تموج بين هؤلاء وأولئك، وقضيت أكثر الساعات مع الأستاذ في مكتبته، وأخذ يطلعني على عدد كبير من المقالات التي كتبها باللغة العربية واللغة التركية ذات الحروف القديمة في مجلات وصحف مختلفة تصدر من بلدان عربية وإسلامية متباعدة متناثرة، أذكر منها مجلة "دعوة الحق" التي تصدر في المغرب الأقصى، فللأستاذ الإمام في كل ما يكتب فضل كبير في التعريف بأحوال المسلمين في روسيا وفي فنلندا وفي بلدان أوروبا الشرقية، وقد زوّدني بصور لبعض ما توفّر لديه في مكتبته من هذه البحوث، وسأدرجها في أخبار رحلتي المطوّلة إلى هذه الأصقاع إن شاء الله، وكما قلت فإن جميع ما كان يكتبه الأستاذ الإمام يتناول المسلمين والإسلام في انتشاره، وعن تاريخه في شرق أوروبا وشمالها، وهو يتوسّع أكثر عن فنلندا وبخارى وسمرقند وتركستان وداغستان وشبه جزيرة القرم وخيوي وأصقاع الصين الغربية المسلمة وسيبيريا، فقد كان الرجل يدعى في المناسبات التي تدعو ما يسمّى بمشيخة الإسلام في روسيا، بين من يُدعى من المشتغلين بالعلم في بلدان أوروبا الشرقية الاشتراكية، وكنت كلّما استحسنت مقالاً مما كان يطلعني عليه يقول لي بأريحية كاملة: هل تريد صورة منه؟ فإذا قلت: يا ليت! أخذ المقال ووضعه على آله التصوير بجواره وأخرج لي منها صورة في بضع دقائق فزوّدني بالكثير مما لم أجده إلاّ عنده، وله مع أعضاء مشيخة الإسلام في روسيا، صور كثيرة، أطلعني عليها، وقد حّدثني عن أحوال المسلمين الذين رآهم واجتمع بهم في كل مكان، وأخبرني بسيرة بعض أساتذته ممن سمعت ببعض أسمائهم ومن لم أسمع به.
وبعد يومين وليلتين مضت كلّها في زيارات وأحاديث في مكتبته ومع من زارنا من إخوانه، وما سعدنا ولا استفدنا من أحد بمثل ما استفدنا من المضيف العالم ومن زوجته المؤمنة مما لم ننسه ولن ننساه أبداً، استئذناه في العودة إلى "هلسنكي"، لأننا سنغادرها بالباخرة إلى "استوكهولم) عاصمة السويد، وحاول أن نمدّد إقامتنا واتفقنا على أننا في نهاية رحلتنا الصيفية في ذلك العام (1967م) سنعود إلى بيروت، لننتقل منها بعد ذلك إلى جدّة حيث بيتنا، ومن بيروت سنرتّب رحلتكما بالطائرة الإسكندنافية إليها، ومنها إلى جدّة على الخط الذي سنخبركم به بالتلكس، عن طريق شركة الطيران الاسكندنافية، بحيث تصلكم في وقت مبكر عن موسم الحج من ذلك العام واتفقنا على ذلك.
واستودعناهما الله، وعدنا إلى "هلسنكي"، ومنها ركبنا الباخرة ليلة كاملة إلى "استوكهولم"، كانت الباخرة تمرّ بنا أثناء الليل بين مئات من الجزر والبحيرات تتناثر عليها آلاف الأنوار الملوّنة في فنارات بحرية مختلفة متباعدة ومتقاربة، ترسل أضواءً ترشد البواخر الذاهبة إلى مياه بحر البلطيق وهي بالعشرات، ولا يمكن أن أنسى تلك الليلة فقد كانت الباخرة مكتظّة بمئات من السياح والمتنقلين بين البلدين من أهليهما.
رتّبت في بيروت رحلة الأستاذ "حبيب الرحمن" وزوجته السيدة "ريحانة" من "هلسنكي" إلى جدة بالطائرة، ودفعت ثمن التذاكر لمكتب الطيران الاسكندنافي في شارع الحمراء القريب من سينما "الحمراء"، وأبرقنا لهما من ذلك المكتب بالتلكس عن المواعيد المتّفقة مع أواخر شهر ذي القعدة من ذلك العام حتى يدركوا الحجّ، وتولّى ذلك المكتب مسؤولية ترحيلهما من "بيروت" إلى "جدّة" على الطائرة اللبنانية أو السعودية، وأعطاني تاريخ وصولها إلى جدّة، ودفعت إليه جميع مصاريف الرحلة ذهاباً وإياباً بين المدينتين "هلسنكي" و "جدة".
وتوجهت إلى جدة بالسيارة عبر الأردن، وبقيت أنتظر موعد وصولهما إلينا هناك، وكتب حبيب الرحمن لصهره زوج شقيقة زوجته المقيم بمكة المكرّمة، في شارع المنصور يخبرهم بموعد وصولهما إلى جدّة، وأنهما سيكونان ضيفين على فلان وسمّاني، وذهبنا إلى لقاء مولانا الشيخ والشيخة في مطار جدّة، وهبطا محرمين من مطار بيروت وهما يرفلان في ملابس الإحرام الوارفة الهفهفة، لن أنسى منظرهما هابطين سلم الطائرة لا يكادان يصدّقان، أنهما سيتشرفان بعد ثوان بملامسة أقدامهما أرض الحجاز.
وكان استقبالنا غامراً بالدموع وأخذناهما إلى منزلنا فلم يستقرّا فيه إلاّ هنيهة، حتى سألني حبيب الرحمن في وجل، وأين أصهارنا، شقيقة ريحانة من مكة المكرمة وزوجها؟ قلت له: إننا لا نعرفهم ولم تذكروا لنا أسماءهم، ولم تطلبوا منّا أن نبلغهم، فقال لي: بل نحن قد بلغناهم بموعد وصولنا إلى جدّة، وجاءنا منهم الجواب، بأنهم سيكونون في انتظارنا معكم هناك.
وفي هذه اللحظة، وصل الأستاذ مبارك خوجة، وابنه منصور وزوجته شقيقة السيدة ريحانة ومعهما بنتان من بناتها، فقد ذهبوا إلى المطار متأخّرين، وأخبروا بأن العائلة قد وصلت، وأنها قد توجّهت إلى بيت عبد الله بلخير.
وهنا تأتي المصادفة وثالثة المفاجآت التي مرّ ذكرها في حلقة سابقة، فقد كانوا يعرفون بيتي، ويعرفون اسمي، بل لقد ظهر لي فجأة عندما تلاقينا أن السيد مبارك خوجة كان ولا يزال في تلك الأيام موظفاً في قسم الترجمة والإذاعة الشرقية فيما يتعلّق بشؤون قسم الإذاعات الشرقية للشعوب الإسلامية في غرب آسيا وأندونيسيا. وكان يزورني في مكتبي زيارات متوالية كثيرة يوم كنت مسؤولاً عن الإذاعة السعودية ثم وزيراً للإعلام، فكانت مفأجاة لي ولهم أن بيننا وبين أصهاره في مكة المكرمة تلك الصلة من العمل المشترك.
ونعود إلى منظر اللّقاء العاصف بين الأختين اللتين شتّت شملها الزمن منذ عشرات السنين، يوم خرجا من بلادهما في روسيا، فذهبت إحداهن وهي ريحانة إلى فنلندا، وساقت الأقدار شقيقتها إلى مكّة المكرّمة، وبقيت الصلة بينهما مكاتبة متقطعة، ولم تكد السيدة ريحانة ترى شقيقتها وبناتها وابنها منصور، ابن مبارك خوجة، حتى تلاقت الأذرع فأطبقت الأختين بعضهما ببعض وعاد النشيج، والبكاء المبحوح يتصاعد كزفرات البخار على النار، وابتعدت أنا وزوجتي لنفسح لهما المجال في أن يشفيا ويطفئا أشواقهما في تلك اللحظات من اللّقاء الذي طال نحو عشر دقائق بدون مبالغة، وكل واحدة منهما داسّة رأسها في عنق الأخرى، وهما تضطربان كما تضطرب سعف النخيل في مهبّ الريح.
وبكينا لما نسمع ونرى، ولا أنسى حبيب الرحمن في قامته الطويلة وهو صامد أمام هذا المنظر منكساً هامته وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وأقبلت البنات على خالتهن ريحانة في مثل ما أقبلت عليهن والدتهن، وقبّل منصور وهو في نحو السادسة عشرة من عمره كفّي خالته فانحنت عليه مقبّلة وهي تشهق، وما كنا نستبين مما نسمع ونرى حديثاً إلاّ النشيج والبكاء والأنين، وانتهى موقف اللّقاء هذا فدعوناهم إلى غرفة خاصّة بهم، لتبدأ المناجاة ويبدأ البوح المتلظّي، وأقبل عليّ السيد مبارك خوخة شاكراً ومقدّراً وهو يقول لي: "ألا تتذكرني؟ فقد كنت من موظفي الإذاعات الشرقية يوم كنت أنت وزيرنا، فقلت له: لعلّي قد سهوت عن ذلك. وقضينا أكثر من ساعتين طلبوا بعد ذلك أن يصحبوا أختهم وصهرهم إلى مكة المكرمة ليكملوا أداء مناسك العمرة فودعناهم على أن يكون الاتّصال بيننا في كل يوم بالهاتف، وعلى أن يعودوا إلى بيتنا في جدّة بعد ثلاثة أيام، فرفعت شقيقة ريحانة صوتها لزوجها وهي تقول: نريد أن نشبع من أختي ومن زوجها، ولا بأس أن ينزل حبيب الرحمن إذا ما اشتهى بين الفينة والأخرى إلى جدة ليكون مع فلان، وسمّتني، ثم يعود إلينا في كل مساء، وهذا طلب نريد ألا يتخيّب رجاؤنا فيه، فقلت لهم: وهو كذلك! وأخذ حبيب الرحمن ينزل مع صهره الموظف في الإذاعة إلى جدّة فيعرجون على بيتي إذ ينزل حبيب الرحمن عندي ويذهب صهره "مبارك" إلى عمله في وزارة الإعلام الذي يستمرّ إلى ما بعد عصر كلّ يوم، ليعود فيأخذ حبيب الرحمن معه إلى مكّة المكرمة، ويكون بقية النهار وطول الليل مجالاً له يروي غليل شوقه من بيت الله الحرام طائفاً وعاكفاً ومتبتّلاً بالقرآن وزائراً لمن سمع به من أبناء جنسه، حتى هلّ هلال ذي الحجّة، فذهبت به لزيارة أمير مكّة المكرمة يومئذ الأمير فواز بن عبد العزيز وعرّفته به، ورحّب به الأمير كثيراً خصوصاً بعد أن عرف الأمير بأن الشيخ حبيب الرحمن كان على صلة ومكاتبة مع جلالة الملك عبد العزيز، وأن لديه في فنلندا وفي مكتبته هدية من الملك عبد العزيز هي المطبوعات السلفية التي طلبها الشيخ، فعمَّد الملك الشيخ رشيد رضا في القاهرة أن يهديه كل مطبوعات جلالة الملك، وهكذا كان فيما سبق الإشارة إليه، وقال له الأمير فواز: أنت مدعوّ لحضور الحفلة الملكية في ليلة السابع من الحجّة بمكة المكرمة، وستسلمك الرابطة الإسلامية دعوة بها من جلالة الملك فيصل.
ورفعت اسمه إلى الصديق محمد خليل ممثل رابطة العالم الإسلامي في جدّة، وذهبت معه لزيارته في مكتبه وكانت مفاجأة جديدة، إذ وجدت عند الأستاذ العناني في مكتبه رجلاً ما لبث أن رآني داخلاً حتى وقف واحتضنني وعرفته حينئذ في الحال، فإذا به "الحاج حمدي" إمام جامع "البيرقدار" أي جامع "الراية" في عاصمة يوغوسلافيا "بلغراد" الذي سبق أن زرته في ذلك الجامع وصلّيت معه، وانتظرت نهاية درسه بعد مغرب يوم وصولي، ثم تقدّمت للسلام عليه فرحّب بي بلغة عربية أزهرية، تشفي السامعين، وأخذني مع العائلة إلى منزله المجاور للجامع لنشرب الشاب والقهوة، ولنتعرف على زوجته المصرية "أم محمد" التي كانت زميلة لزوجها الحاج حمدي في كلية الشريعة بالأزهر، فتعارفا وتزوّجا وانتقلا إلى بلغراد، حيث يعمل زوجها إماماً وخطيباً ورئيساً للعدد القليل جداً من المسلمين المتبقّي في تلك العاصمة، التي كان بها في العهد العثماني نحو مائة جامع اندثرت كلها، ولم يبق منها إلاّ جامع "البيرقدار" هذا.
وقلت للأستاذ العناني وهو يسأل منذ متى المعرفة بينكما يا ترى؟ فقلت له: انظر إلى بركات الإسلام، فأنا وأنت الآن بين مفتيين وعالمين من أعلى الكرة الأرضية "الحاج حمدي" من "بلغراد" في يوغوسلافيا و"الحاج حبيب الرحمن" من "هلسكني" في فنلندا.
وتعارف المفتيان وهذه من منافع الحج التي يشهدها الحاج، وفرح كل منهما بالآخر. وودّعت الحاج حمدي على أن يزورني في بيتي ليجلس معي ومع الحاج حبيب الرحمن، وقد فعل.
في اليوم الثالث لوصول حبيب الرحمن في جدة قادماً إليها من مكة المكرمة، قال لي: أريد أن أتجوّل في مدينة جدة فقد بهرتني "مكة المكرمة" البارحة، فركبت معه السيارة وأنا أفكر من أين نبدأ جولتنا في التعرّف على جدة، لم تكن جامعة الملك عبد العزيز قد بدأت، فقلت: نذهب إلى أمام دار الإذاعة الصحافة في شارع الميناء، ومن هناك ننطلق لمشاهدة الميناء البحري نفسه، ثم رأيت أن نشقّ طريقنا في قلب مدينة جدّة للوصول إلى ما أردنا، وكنت أشير إليه ونحن في السيارة إلى بعض الأماكن حتى مررنا من دون قصد على مقرّ ودار إمارة مكة المكرمة القديم في شارع باب مكة المكرمة، فأشرت إلى الضيف أن هذه دار إمارة مكة المكرمة، فالتفت بشوق وقال لي: يعني أمير مكة المكرمة يجلس فيها؟ قلت له: نعم، هل تريد أن تزوره؟ فأجابني بدهشة: هل أخذت موعداً منه بذلك؟ فقلت له: لا مواعيد لزيارات الرسميين لدينا في هذه المملكة فإن أردت الآن توقفنا وذهبنا لزيارته، فأبواب الدوائر الحكومية مفتوحة للزائرين في أوقات دوام العمل والأمير موجود الآن في مكتبه، فقال لي: هذه أمنية لي، فأشرت إلى السائق أن يدخل بنا في حديقة قصر الإمارة وترجّلنا أمامها، ورأى الضيف جنديّين واقفين على مدخل الدار، سلّمت عليهما فردّا السلام بمثله، ثم صعدنا إلى الدور الأول، وكان أمير مكة المكرمة يومئذ الأمير فواز بن عبد العزيز جالساً في مكتبه، فدخلت عليه مع الضيف الذي يكاد أن لا يصدّق ما يرى في هذه الديمقراطية التي كان يسمع بها، ولكنه يراها الآن مرتجلة وبدون ترتيب أو مواعيد، ووقف الأمير مرحّباً كعادته مع كل من يسلّم عليه، فصافحته وقدمت إليه عالم فنلندا ومفتيها الحاج حبيب الرحمن، فقد أصبح الآن حاجًّا كما كان يحلم طول عمره أن ينادى بهذا اللقب، ورحّب به الأمير فواز ترحيباً خاصًّا لمفاجأته لسماع أنه من "فنلندا" وأجلسه في الكرسي المجاور له، وكان مجلسه كالعادة عامراً برجالات البلاد الذين يتوافدون للسلام عليه، أتذكّر أنني رأيت بينهم المرحوم السيد أحمد شطّا، والصديق أحمد جمجوم.
فأكملت تعريفي للأمير فواز بالضيف، وذكرت له طُرفاً مقتضبة من زيارتي لفنلندا وتعرّفي عليه، وكيف أني فوجئت في مكتبه بمنزله بمجموعة مطبوعات الملك عبد العزيز وكيف دهشت لما رأيت، فأخبرني بأنه قد كتب للملك عبد العزيز كتاباً يطلبها منه، فجاءته المطبوعات هدية، مع كتاب بختم جلالته موجّهاً إليه باسمه، وكيف أطلعني وأنا في دهشتي تلك، على نفس الرسالة فرأيتها ورأيت الختم عليها، وكيف دهش عندما أخبرته بأنني كنت كاتباً من كتّاب الملك عبد العزيز، وما كنت في رحلاتي -كما قلت سابقاً- أذكر غير اسمي وأنني سعودي من مكّة المكرمة.
سرّ الأمير بما سمع وقال لي: إذن يكون ضيفاً على الرابطة بدعوة من الملك فيصل، فاذهب به إلى مكتب الرابطة وأخبر الأستاذ محمد العناني بذلك، وسيوجّه إليه الديوان الملكي دعوة لحضور الحفل السنوي الذي كان يقيمه الملك عبد العزيز ومن بعده من أبنائه في اليوم السادس من شهر ذي الحجّة في القصر الملكي بمكة المكرمة، ويُدعى إليه أعيان وكبار وزعماء البلاد العربية والإسلامية ممن يفدون إليها لشهود موسم الحجّ من كل عام.
وودّعنا الأمير بعد ذلك وقد مشى يشيعّ ضيفنا بخطوات رأى فيها الضيف ما غمره سروراً، فقد كنت أخبره بما قال الأمير كلمة، كلمة، طبعاً بلغة عربية فصيحة وهي التي يفهمها ويتكلّم بها.
وخرجنا من قصر الإمارة وقد تغيّر برنامجنا لزيارة جدة، فقد انطلقنا إلى مكتب الرابطة الإسلامية كما قلت قبل ذلك ولقينا فيها أخانا العناني، وأخانا مفتي "بلغراد" الحاج حمدي، ومرّ يومان أو ثلاثة، فجاءتني بطاقة باسم ديوان الملك فيصل موجّهة إلى سماحة مفتي المسلمين وإمامهم في فنلندا الحاج حبيب الرحمن، وقد كنت وضعت هذا العنوان لمكتب الرابطة التي يتولّى جمع أسماء وعناوين من يأمر الملك بدعوتهم إلى الحفل السنوي المشار إليه.
وسلّمت بطاقة الدعوة إلى ضيفنا، فألقى عليها نظرة وأنا أشير إلى الظرف وعليه اسم المملكة العربية السعودية، وتحتها ديوان جلالة الملك، ثم إلى لقب سماحة مفتي المسلمين وإمامهم في فنلندا، وقبل أن يخرج البطاقة من الظرف انتفض فرحاً وقال لي: هذا من الملك فيصل؟ فقلت له: نعم، فقال لي: إذن هذه تولية من إمام المسلمين لي بالإفتاء والإمامة في فنلندا، قلت له: نعم! قال لي: وهل أستطيع إذا عدت أن أنشر ذلك في الصحف وأن أطلع المسلمين هناك على هذه التولية؟ قلت له: نعم، فسرّ سروراً كبيراً، وقال لي: إن مذهبي الأصلي هو "الحنفية" وصلاة الجمعة نرى فيها أن تكون بعهد إمام إذن فقد جاءني هذا العهد!
ثم أردف بعد إمعان في الخط الجميل المكتوب على غلاف الدعوة، سؤالاً بريئاً ساذجاً غلبت عليه الدهشة، وهو يقول لي: أوَ هذا المكتوب بالقلم بخط الملك فيصل نفسه؟ فقلت له: لا يا مولانا، الدعوة من الملك فيصل، وما كتب عليها هو يأمره ولكن بخط رئيس ديوانه.
وأخرج البطاقة من غلافها وكانت مشرقة، بديعة في مظهرها وفي ما كتب عليها وقرأها وفيها نفس ما كتب على الغلاف من اسمه ولقبيه، وقال لي: سأطلع على هذه الرسالة ريحانة، وسأكون فخوراً بها عند عودتي بين المسلمين في بلادي، وسأصوّرها في ما سأكتب عن رحلتي في الصحف الفنلندية ليطّلع عليها الناس، فهل أستطيع ذلك؟ قلت له: نعم، تستطيع ذلك.
وهكذا كان الإمام حبيب الرحمن بين من أقلّتهم السيارات التي ترسل إلى المدعوّين بعد مغرب يوم الدعوة لنقلهم إلى القصر الملكي ليشهدوا استقبال الملك فيصل لهم، ويسلّموا عليه، ويستمعوا إلى ما يلقى من خطب وقصائد، اعتاد الناس من الحجاج أن يلقوها بين يديه، وأن يتناولوا بعد ذلك طعام العشاء على المائدة الطويلة العريضة التي يجلس عليها الملك محفوفاً بزعماء العالم الإسلامي في تلك المناسبة. وكنت قد رجوت المسؤول عن التصوير في وزارة الإعلام أن يحرص حرصاً دقيقاً على أخذ صورة الشيخ حبيب الرحمن عندما يصافح الملك بين جمهور المسلمين عليه، لعلمي بمدى اغتباطه الذي لا نهاية له إذا ما أخذت له صورة وهو يسلّم على إمام المسلمين، وعرّفت المصوّر على الرجل ليحفظ صورته ويعرف شكله، وقد فعل ما رجوته، وجاءتني بعد الحفلة بيومين عشر صور لمصافحة للملك. ثم مجموعة من الصور للحفل نفسه وللضيوف المشاركين فيه، ثم لموائد الطعام.
وألقينا هذه الصور بين كفَّي الحاج حبيب الرحمن، فأخذ يتصفّحها مغتبطاً مسروراً، وفرح لأنني فطنت لما يجول في خاطره، من أنه يتمنّى أن تكون صورة المصافحة في نسخ متعدّدة وهذا ما حصل. وأدّى الرجل الفريضة في عرفة ومنى، مع أصهاره الذين أشرت إليهم قبيل ذلك، واجتمعنا بعد أيام التشريق وإكمال مناسك الحج عندما زارني في بيتي متهلّل الأسارير مغتبط العواطف وقال لي: جئت لأحّدثك كيف قضيت وأدّيت مناسك الحج، وكيف انطلقت في عرفات إلى جبل الرحمة وتعمّدت أن أرقى منه قمّته، ثم بحثت عن الصخرات الكبار في سفحه، حيث جاء في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقف عندها يوم عرفة قبل انصرافه من ذلك إلى المشعر الحرام في مزدلفة في حجّة الوداع، وأن ابنهم "منصور" قد أخذ له وللعائلة عشرات الصور وهم في الخيام وملابس الإحرام بعرفة ومنى.
وتفضّل السادة "آل ابن زقر" وقد سمعوا بوجود هذا الضيف في منزلي فجاءني الشيخ عبد الله بن زقر رحمه الله زائراً ومسلّماً ومرحّباً باسمهم بالحاج حبيب الرحمن، واجتمع به وأخبرت الضيف أن شقيق هذا الرجل هو الشيخ سعيد بن عبيد بن زقر هو الذي كان قنصلاً فخرياً لفنلندا نحو ثلاثين عاماً قبل أن تتأسّس سفارتهم في جدّة، وأنهم يدعونه وأنا معه لتناول طعام الغداء في اليوم التالي في منزلهم في طريق المدينة، ولبّينا الدعوة ووجدنا أسرة ابن زقر كلها تنتظر الضيف، ودعا آل ابن زقر معنا للغداء نسيبهم الأديب صديقنا الأستاذ محمد حسن عوّاد، ليجتمع بضيفهم الفنلندي، وكانت جلستنا جميعاً في منزلهم جلسة ممتعة أمتدّت ساعات طويلة، تحدّث فيها الأستاذ العواد مع الضيف أحاديث مختلفة، ثم قال لي العواد: هلاَّ دعوت أحداً من الصحفيين ليكتب عن الرجل وعن الإسلام في فنلندا، فقلت له: سأفعل ذلك بإذن الله، وكنت ناوياً على أن يقوم الضيف بزيارة وزارة الإعلام وبعض دور الصحف للتعرّف عليها والحصول على ما يمكن الحصول عليه من مطبوعات الإعلام التي تلقي أضواء على المملكة وعلى نهضتها، فقال لي الأستاذ العواد: سأبعث إليك الأخ الصحفي عبد الله رجب المحرّر يومئذ في جريدة "عكاظ"، وأتّصل بي الأستاذ المذكور، واتّفقت معه على زيارة جريدة "عكاظ" بعد مغرب ذلك اليوم، فقد كان الرجل على وشك السفر وذهبنا إلى دار الجريدة، يوم كانت في طريق المطار وأمام مطار جدة القديم، وجلسنا ساعة مع الأخ عبد الله رجب، وجّه أسئلة كثيرة للضيف وكتب إجاباته عليها وأخذ له مجموعة من الصور لنشرها مع محضر اللّقاء، وقد اهتّم برؤية ذلك اللقاء عندما ينشر لينقله في بعض الصحف الفنلندية إذا ما بعثناه إليه، ومرّت الأيام ولم ينشر شيء عن ذلك اللّقاء.
ووصل الرجل إلى فنلندا وكتب لي رسالتين يستحثّني على إرسال عددين من "عكاظ" إذا ما نشرت عنه ما أخذته منه في دارها، وخجلت مما جرى، ولم أجد مجالاً مبرّراً لعدم إرساله له ما طلب، لأنه في حالة لا يمكن أن تصدّق أن لقاء كهذا فيه دعاية للمسلمين وللمملكة أيضاً لا يحظى بالنشر، ولكن هذا ما جرى وما كان.
كنت بعد عامين في بيروت وجاءني صديقي المؤرّخ اللبناني المعروف يوسف إبراهيم يزبك للزيارة، وقال لي فور لقائي به: هل تعلم أنني وصلت أمس من هلسنكي وأنني أحمل لك تحيات وسلام وشكر صديقك، وسبقته أنا وقلت: الحاج حبيب الرحمن، فقال: أنت تعلم أنني ترجمت أول كتاب أصدره سائح فنلندي إلى جزيرة العرب، وكيف ذهب إلى حائل وزار أميرها ثم عاد في نهاية القرن التاسع عشر وكتب رحلته عن جزيرة العرب كلّها، وأن الكتاب هذا كان مشهوراً اقترحت أنا على سفير فنلندا في بيروت أن أترجمه له، ففرح، وطلب مني أن أقوم بذلك من طبعته الإفرنسية، فترجمته وأنا لي صلة بتلك السفارة تكاد أن تكون إستشارية، فدعيت لزيارة "هلسنكي" وكنت قد سمعت بالجالية الإسلامية فيها، فحرصت على التعرّف عليهم والكتابة عنهم، وسمعت من كبارهم أن في مدينة تمبري عالماً من علمائهم أدّى فريضة الحجّ، وله نشاط في الكتابة في الصحافة العربية وغيرها، فذهبت لزيارته في بيته ورأيت مكتبته، وفأجاني بالسؤال، وهو يعرف إن لك بيتاً في بيروت هل تعرف الشيخ عبد الله بلخير؟ فقلت له: من أعزّ أصدقائي، فذكر لي كيف زرته وتعرّفت عليه ودعوته بعد ذلك إلى الحج مع زوجته، وكان الحديث فيما بيني وبينه يتخلّله اسمك كرّات ومرّات، وحملني إليك تحياته، إلاّ أنه طلب مني في حيرة أن أسالك: ماذا فعل الله بحديثي الطويل عن الإسلام والمسلمين في جريدة "عكاظ"؟!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :526  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 166 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.