حبيب الرحمن |
قلت للسيد عثمان علي ولرفاقه الثلاثة حوله، ونحن مجتمعون في المعرض التجاري للسيد عثمان: بلغني أن في المدينة الثانية بعد هلسنكي من فنلندا عالماً منكم يحسن اللغة العربية ويجيدها وهو الأستاذ حبيب الرحمن، الذي قرأت له بعض ما يكتب في الصحف الإسلامية في البلدان البعيدة من العالم العربي، فحفظت اسمه وعرفت محل إقامته، وكانت نيّتي أن ألقاه عندما أزور هذه البلاد، فقالوا لي: إنكم تستطيعون السفر إلى المدينة التي اتّخذها مقاماً له وهي "تمبري"، ويكون سفرك بالقطار المؤدّي إليها، فقطعت التذاكر لهذه الرحلة، واصطحبت زوجتي أم "سبأ" وركبنا القطار في ضحى يوم مشرق عابق النفحات بما يفوح على جوانب القطار من رياض وبحيرات وغدران وغابات ومناظر، لا يمكن تصوّرها أو تصويرها. |
وفي نحو ساعتين كنّا قد وصلنا إلى محطة حديد تلك المدينة، وكانوا في هلسنكي قد اتّصلوا بالرجل وأخبروه عن قدومنا على أن ينتظرنا في المحطة، وخرج الركاب من أبواب القطار يحملون حقائبهم، وخرجنا نحن نحمل حقائبنا، وتلفت يميناً ويساراً علّ من يبحث عن زائر غريب مثلي في شكله ومظهره وسماته. |
ومّرت خمس دقائق لم يبق على رصيف المحطة أحد من الركاب الذين كانوا معنا في القطار، فقد انحدروا عجلين فاقتفينا أثرهم وانحدرنا في درجات عالية متعدّدة حتى وصلنا إلى الشارع العام، فإذا برجل يقف على رصيف الشارع وهو يتلفت في قلق كمن يبحث عن أحد فاقتربت منه، وقلت له: السلام عليكم فقد كان في معطف طويل ويعتمر قبّعة واسعة وهو نحيف الجسم حديديّ النظر، متجهّم الأسارير، فرفع صوته برد التحية وهو يقول لي: أنت ضيفنا وسماني باسمي، فقلت له: نعم! |
فسلّم علينا ثم حاول أن يأخذ من يدي الحقيبة فتمنّعت حتى لا أزعجه، وأوقف سيارة من سيارات الأجرة ووثب السائق ففتح الشنطة وتناول منا الحقيبة ثم أقفلها، ثم فتح لنا باب السيارة، فدخلت مع زوجتي وركب الأستاذ حبيب الرحمن بجوار السائق، وكلّمه بالفنلندية فانطلقت السيارة في ميادين جميلة، فقلت له: يا مولانا نريد أن نمرّ على أحد الفنادق لنضع فيه حقيبة ملابسنا ونحجز فيه غرفة لمنامنا وإقامتنا ثم نتوجّه معك إلى المكان الذي تريد، فقال لي بلغة عربية راقية جداً: أوَ يمكن أن تجيئوا إلى هذه المدينة ثم لا تحلّوا ضيوفاً عليّ في بيتي؟ فقلت له: نحن في ضيافتك ولكن وجود غرفة في الفندق قد يساعد في طول الإقامة. |
وكنت أريد التخلّص من الضيافة والنزول عليه في بيته، لأنني لم أكن أعلم حالته المادية ولا ما إذا كان في منزله متّسع لنزول رجل وزوجته أم لا! فقال لي مبتسماً وقد تهلّل وجهه بالسرور: نحن مسلمون وأنتم تعلمون أن في بيوت المسلمين غرفة للضيافة، تجيئون معي الآن بدلاًَ من الفندق ثم ترون بيتي وغرفة ضيافتكم، فإن استحسنتم الغرفة فهي لكم ولأمثالكم وإن رأيتم غير ذلك، فمجال الفنادق واسع ونحن في خدمتكم. |
شكرت الأستاذ حبيب الرحمن وانشرح صدري بشعور حبيب نحوه، فقد أسفر ما لقانا به في السيارة عن أخوة إسلامية عابقة الأريج دافئة الأنفاس نجدها في هذا القطب الشمالي المثلج، وكنّا قد وصلنا إلى باب منزله، فوقفت السيارة وترجّل الرجل مستعجلاً ليفتح لنا الباب، وحاولت أن أدفع الأجرة للسائق بطريقة لا يراها المضيف، فإذا به قد أخبره بأن لا يأخذ منا شيئاً. |
وانصرف السائق وارتقينا بضع درجات في بيت خشبي جميل، حاول مولانا أن يحمل الحقيبة فمانعت في ذلك بإصرار، فقرع جرس الباب فجاءت سيّدة البيت زوجته السيدة ريحانة هانم، وهي تكاد أن تطير من باب منزلها إلى الهواء عندما رأت زوجتي وهي فرحة تكرّر: السلام عليكم، السلام عليكم، السلام عليكم، فكنّا نكرّر نحن لها وعليكم السلام، وعليكم السلام، وبادرت زوجتي باحتضان السيدة ريحانة لتقبّلها، فكان عناق حار جداً وكانت دموع حارة وغزيرة من عيني ريحانة. |
ودخلنا في مثل هذه البهجة نتخطَّى مدخل البيت إلى غرفة الاستقبال النظيفة جداً والمملوءة بالزهور وبالأرائك الشرقية المريحة، وبحب عميق بدا يتضوّع في جنبات المنزل كلّه بذلك الترحيب الذي كانت السيدة ريحانة تغمرنا به ولا تعلم أتجلس أم تقوم لتهيئة الضيافة الواجبة. |
وكان زوجها حبيب الرحمن في مثل انفعالها وبهجتها، ولكن السيدة ريحانة قد غلبته بدموع متقاطرة لا تكاد تكفّ، وبجمل كانت تقولها بلغة عربية مكسّرة، ولكننا فهمناها وتقبّلناها، واغرورقت عيوننا بدموعها وهي تنشد واقفة وقد جاءتنا بالشاي: |
حب النبي حرقني |
أفدي الذي حرقني |
يا رب لا تحرمني |
|
وجاء الشاي ومعه أصناف متعدّدة من الحلويات الغامرة بالسكر وبالعسل، وجاءت الصحون والملاعق والأشواك والسكاكين، وبدأت السيدة تغرف مما ملأ الصحون المعدّة لمثل هذه الزيارة منذ جاءهم الهاتف بالأمس من إخوانهم في "هلسنكي"، بأن رجلاً وزوجته من مكّة في طريقهما لزيارتكم، وأكلنا ما شاء الله لنا أن نأكل، وكانوا يتوسّلون إلينا أن نزيد وأن نزيد حتى لم نجد مكاناً لمزيد. |
وكانت حقيبتنا قد أدخلها المضيف إلى غرفة الضيوف، وبدأنا نتحدّث. وقلت للشيخ حبيب الرحمن: أريد أن أعرف كيف وصلت إلى هذه المدينة؟! وكيف إقامتك فيها وإمامتك الصلاة لمن بها من المسلمين؟! ولماذا لم تسكن العاصمة هلسنكي واخترت مدنية "تمبري" البعيدة عنها نحو الشمال؟ وقبل كل ذلك أريد منك أن تخبرني كيف تحصّلت على هذه اللغة العربية الراقية كأنك فيها من خيرة أبنائها؟ فضحك في فرح وسرور وقال لي: كانت بداياتي في مسقط رأسي بروسيا، ولقد تلقيت العلم ومبادئ اللغة العربية على عدد من بقيّة مشائخنا الكرام، إما في مدينة "كييف" أو في بلاد "القرم" أو "لينين قرادا"، ولي من المشائخ والزملاء المنبثين والمبعثرين الآن في كل بلاد وفي كل قطر، بما فيها تركيا وتركستان، وداغستان والولايات الإسلامية القديمة في جنوب الاتحاد السوفييتي، أكثر أساتذتي قد ماتوا، وأكثر زملائي في طلب العلم وأبناء بلدتي قد تشتّتوا وتشتّت أبناؤهم وأحفادهم في أقطار كثيرة، حتى إن لزوجتي ريحانة شقيقة متزوجة مهاجرة من مهاجري بلدي طوحت به الغربة والأسفار من بلادنا في روسيا إلى افغانستان، فإلى ما يسمّى بعد التقسيم باكستان، ثم إلى الهند، ومن "بومباي" عبروا البحر إلى مكّة، فأسعدهم الله بالنجاة والمجاورة بها وهم اليوم هناك، وأخت ريحانة الآن في مكة، ولا تجمعنا إلاّ الرسائل المتبادلة بالبريد، فقد تزوّجت وأنجبت وبقيت على لغتنا الأصلية، بحيث إنها لو توفّاها الله لما استطعنا أن نكاتب أبناءها بلغتنا لعدم معرفتهم بها، وفي بيتي بضع بنات –سماهن– سيشتركن معنا في العشاء لأنهن إما موظفات وإما طالبات في المدارس. |
ولم نكد نصل إلى هذه المعلومات الأولى في جلستنا وبعد انتهاء الشاي وما معه من تلك الأطاييب التي لا يشبع المرء منها، ومع هذا فقد شبعنا منها شبعاً لا مزيد عليه، حتى أقبلت السيدة ريحانة بعده بسفرة طعام جديدة لم تكن من الحلويات، وإنما كان صحناً ضخماً مملوءاً بأحسن نوع من أنواع الرز البخاري ذي الأفاوية والبهارات والجزر والزبيب، ووضعته ويكاد أن يكون شعلة من دخان فذعرت مما رأيت، وقلت للمضيف: ما هذا يا مولانا؟ قال: هذا الغداء، قلت له: ولكننا تغدّينا، قال لي: لا، لا، هذاك اسمه شاي، قلت له: والحلويات التي معه، قال: تلك اسمها حلويات الشاي! أما هذا فطعام الغداء، قلت له: لا مكان له الآن فلو قدّمته لكان فيه الكافية، قال لي: اسمع يا أخي، الشاي عندنا يكون للضيف عندما يدخل إلى المنزل، ويكون في عاداتنا بغير سكر كما رأيت، وإنما نحليه بالحلويات المختلفة حتى تتمّ حلاوته، والضيافة لا تسمّى ضيافة إلاّ بالغداء وهي ما تراه الآن، وكانت الصحون الملحقة بالغداء وفيها ما يسمّى بـ "المنتو" و "اليغمش" على أصناف جميلة جداً كان بعضها معروفاً لي في مكة، عندما كنت صغيراً فانقرض مع الأيام وبقي منه الآن ما يسمى "بالمنتو" إلا أنه "نقتف" المنتو، يجمعهما الاسم ويختلفان في الطعم، ثم قال لي الأستاذ حبيب الرحمن: نحن في بلادنا هنا نأكل كثيراً لأننا على مشارف قمم القطب الشمالي، فهي بلاد قاسية البرد كثيرة الثلوج وشديدة الصقيع، ولا علاج لطول حياتنا إلاّ بالمآكل الدسمة المتعاقبة مرات ومرات في كل يوم وليلة، فيا الله بسم الله الرحمن الرحيم تفضّلوا، ولا أعلم كيف وسع الله في بطوننا ما كان مكتظاً فيها من الحلويات، لنبدأ تناول هذا الرز البخاري العابق بروائحه اللذيذ في طعمه، الدسم في مذاقه. |
وأكلنا وكانت السيدة ريحانه لا تهدأ بين الاشتراك معنا في تناول الطعام وبين التردّد على المطبخ والعودة إلينا محملة في كل مرة بشيء جديد. وهي تكرّر البيت الذي تكاد أن لا تعرف غيره من اللغة العربية: |
حب النبي حرقني |
أفدي الذي حرقني |
يا رب لا تحرمني |
|
|