شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حجازي الشريف
فقال لها: اذهبي بظنك إلى الجنوب، فقالت: إذن من تركيا، فقال لها: انحدري أيضاً إلى الجنوب والشرق، فضحكت وقالت: هل يمكن أن يكونوا من "شامي شريف"، تقصد الشام الشريف، فقال لها إلى الجنوب أيضاً، قالت له: مصر؟ قال لها: لا، وقد فهمت الحديث فقلت له: لا تتعبها! فقال لها: (من الحجاز)! فغرت فَاهَا وأساريرها تلمع بمثل لمع البرق موجّهة إليه السؤال:
(حجازي شريف)؟!!! قال لها: نعم من مكّة! فأعادت الكلمة أيضاً: مكة المكرمة! فقال لها: نعم.
لا أستطيع أن أصف إشراقة وجهها حينئذ مع شيء من الهيبة المباغتة والسرور الذي شعّت به ملامحها عندما رنّ جرس الباب، فقطع الحديث وُثُوبها لفتح الباب، تتغشاها دهشة وفرحة غمرت عليها جميع مشاعرها، وسمعناها تقول عند الباب لزوجها: "محرم أفندي"! ثم تنطلق تخبره بأن عندنا ضيوفاً فقال لها: من الضيوف؟ فقالت له: محمد هوماس ومعه ضيوف من بلاد بعيدة، وكان قد وقف في مدخل القاعة وكنّا قد وقفنا لاستقباله فألقى نظرة على محمد وكلّمه باليوغسلافية مرحباً، ثم جلس على أحد الكراسي في المدخل والتفت يسأل محمد: من هؤلاء؟! فأشارت زوجته إلى محمد: لا تخبره! حتى تدعه يخمّن كما خمّنت أنا من قبل، ثم تولت هي نفسها سؤال زوجها من أين هؤلاء؟! وطبعاً لم نتكلم نحن حتى لا يظهر له من كلامنا ما يشير إلى بلد من البلدان التي سيجيء عليها كما جاءت زوجته، وبدأ كما بدأت تقريباً بالبوسة والهرسك، إذ يستبعدون أن يجيء أحد من خلفها، ثم إلى تركيا، وعندما عجز قال لها: شامي شريف! وأخيراً قالت له: حجازي شريف، مكة المكرمة!
أتذكر كيف وقف الرجل محرم أفندي، وهجم عليّ مقبلاً وملتفتاً إلى محمد هوماس يسأله: ألا يعرف التركية، قلت: أعرف الإنجليزية، فضحك وقال: أنا لا أفهم منها إلاّ كلمة "قود" –Good- أي جيّد وطيّب...
فقلت لمحمد قل له: هذا يكفي من هذه اللغة! وجلسنا حينئذ، وبدأ محمد يترجم بيننا عندما وقفت الزوجة وذهبت إلى غرفتها مستعجلة، ثم أقبلت ومعها بنتها واسمها "سنية" في نحو الثانية عشرة من عمرها، وقد لبست فستاناً لاستقبال الضيوف، ثم التفتت السيدة إلى محمد وقالت له: نبدأ جلستنا بسماع سورة الفاتحة من "سنية"، واقشعرّ بدني فرحةً بما سمعت، وتربعت في جلستي استعداداً للإصغاء لما سنسمع، ووثبت "سنية" من مقعدها بجانب أمّها عندما سمعت منها ذلك، ودخلت إلى غرفتها وفي دقيقتين خرجت علينا مرة ثانية، وقد غطّت رأسها بمنديل ضاف، وجلست في الحال متهيّئة للقرآن، ورأيت محرم أفندي قد اعتدل اعتدال من يحترم سماع القرآن، وكنّا قد فعلنا مثل ذلك، ورفعت الفتاة صوتها بقراءة الفاتحة قراءة مجوّدة بنغم قرآني على الطريقة التركية العربية، وهي لا تفقه حرفاً واحداً من حروف هذه الفاتحة، وإنما لقنتها تلقيناً وحفظتها بالنظر إلى المصحف بعد أن تمرّنت على قراءة الحروف العربية وتشابكها، وأصبحت قارئة حافظة لهذه السورة ولغيرها من السور القصيرة التي تلت لنا بعد الفاتحة منها سورة إِذَا جَآءَ نَصرُ اللهِ وَالفَتْحُ إلى آخرها، ونحن نصغي إليها في محبة وخشوع واطمئنان، ويفعل المسلمون في البلدان البعيدة مع بناتهم مثل هذا فيحفظن القرآن كما يحفظه الصبيان أيضاً في سنواتهم المبكرة يجوِّدون قراءته على نحو ما فعلت سنية.
وشجعتُ "سنية" وشجعتها زوجتي "أم سبأ" وابنتي "بلقيس"، واثنينا عليها وهنّأنا والديها على نجابتها وحفظها وحسن قراءتها، ثم قالت أمها للمترجم "محمد": هل تسمعنا ابنتهم شيئاً من القرآن، فقرأت ابنتنا بلقيس سورة "القلم" بمثل القراءة والتجويد الذي سمعناه من "سنية"، وكانت بلقيس وهي ابنة مكة قد درست القرآن وجوّدته مع زميلاتها في المدرسة "الخالدية" في ضاحية المعابدة من مكة، حيث تلقت دروسها الابتدائية يومئذ في تلك المدرسة.
وفرحت أسرة محرم أفندي بما سمعت من القرآن وجاءنا الشاي، وما قدّم معه من حلويات يوغسلافية، ومحمد هوماس يترجم بيننا وبينهم بلغة يوغوسلافية جيّدة، فقد كان كما ذكرنا في الجامعة وتزوج فتاة يوغوسلافية من مقاطعة "لوبليانة"، وأعتقد أنه قد أنهى دروسه العالية هناك وعاد بعد ذلك كما عاد زملاؤه السوريون والأردنيون إلى بلادهم ولهم تحياتي إذا ما قدر لأحد منهم أن يقرأ ما رويته عنهم.
وودعناهم بعد منتصف الليل، فخرج الرجل معنا إلى ميدان سكة الحديد، ومنه إلى الفندق الذي كنّا فيه، وكان ذلك آخر عهدي بهم أسأل الله لهم السلامة والعافية.
كان الحديث قد تشعّب وتسلسل عن زيارتي للأقلية الإسلامية في فنلندا، وما ذكرته عنهم وعن حياتهم الاجتماعية وطريقة تعليمهم لأبنائهم المحافظة على لغتهم التركية لما اتفقوا عليه في أنه إذا بلغ الطفل من أطفالهم حوالي العام، وبدأ يتطلّع لمن حوله من أمّ أو مربية أو خادمة بدأ التأثير منها عليه، وبدأ الانطباع يتجلّى فيما يلتقطه من كلمات وانطباعات، ولهذا فقد كانوا يسرحون المربيات والخادمات، ويستغنون عن خدماتهم التي تكون السيدة المسلمة الفنلندية في أشدّ الحاجة إليها، حتى ينُشّئوا أطفالهم بغير تأثير عليهم من المربيات حتى يتجاوز الأطفال مرحلة الخطر إلى مرحلة الاستقرار فيما بعد السابعة، حينئذ تعود الأمّهات إلى المربيات والخادمات، ويكون الطفل قد أتقن لغته إتقاناً فطرياً غريزياً لا مجال لتحويله عنه، ويكون تعلّمه بعد ذلك للغة الفنلندية وهي لغته ولغة مستقبله ولغة بلاده من المدرسة ومن رفاقه الأطفال؛ إذ سرعان ما يلتقط الأطفال اللغة بعضهم من بعض.
وقد قفزت بحديثي بعد روايتي لهذه الظاهرة إلى مدينة "زغرب" في شمال يوغسلافيا وقريبة من الحدود النمساوية، فذكرت الطفلة "سنية" بنت محرم أفندي من الأقلية الإسلامية هنالك، وقراءتها لنا الفاتحة وهي في نحو الثانية عشرة من عمرها…
 
طباعة

تعليق

 القراءات :525  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 159 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.