شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في هلسنكي
لِنَعُدْ بعد ذلك والكلام متشعّب، لكني مسرور بسرد بعضه فيما أتحدّث به وأرويه، جاءني السيد حيدر علي في اليوم الثاني بسيارته إلى الفندق، واصطحبني معه ومعي أم ابني سبأ إلى بيت كبير من كبراء المسلمين في "هلسنكي"، كانوا قد اتّفقوا جميعاً أن يجتمعوا بنا هناك، وأن نتناول طعام الغداء في ضيافة الجميع، ووصلنا إلى حديقة وارفة جميلة مملوءة بالأشجار العالية والصغيرة وبالزهور الملوّنة العابقة بعبيرها الفوّاح في أجمل ضواحي هلسنكي، وفي شمس مشرقة، فالفصل كان صيفاً، والشمس فيه وفي فنلندا بالذات وما جاورها من أقطار القطب الشمالي عيد من أعياد الناس.
ودخلنا إلى قاعة الاستقبال، فإذا بالكراسي المبثوثة وعليها من قد سبق من الدّاعين، وقدّمنا من جاء بنا إلى من حضر، فسلّمنا عليهم رجالاً ونساء، وكانوا واقفين، ثم أشاروا إلى كرسيين مميزين في صف متراصّ من الكراسي في صدر القاعة، وطلبوا منّا أن نجلس عليهما، فامتثلنا لما أمروا، وجلسنا مبتسمين صامتين بعد أداء تحية السلام والمصافحة عند الدخول طبعاً، فلفت نظري أن من حفّ بنا كان ينظر إلينا مع المحبة والودّ العميقين، كأننا قد تركنا شيئاً كان يجب ألاّ نتركه، وطبعاً لم يمرّ بخاطري أي شيء ظهر لي أننا قد نسيناه، فتعجبنا حتى ظهر السبب فبطل العجب، عندما دخل بعدنا أربعة أشخاص مع زوجاتهم، ووقف الناس لدخولهم، ووقفنا معهم، وبدأوا يسلّمون علينا بمثل ما سلم علينا من قبلهم بالمحبة والغبطة مشرقتين على أسارير وجوههم، ثم انتهى بهم المقام إلى حيث وجدوا الكراسي التي جلسوا عليها، فلم يكادوا يجلسون، وقبل أن يتكلّموا بأي كلمة أو يتكلّم أحد في المجلس إليهم بأي شيء، حتى رفعوا أربعتهم أكفّهم وبدأوا يقرأون الفاتحة، والناس يقرأونها معهم في سرّهم، حتى انتهوا من قراءتها مسحوا وجوهم براحات أكفّهم، وبعد ذلك بدأوا يحيون الناس ويتحدّثون لمن حولهم.
وما هو إلاّ أن وصلت جماعة أخرى مثلهم، فدخلوا كما دخلنا ودخل هؤلاء وسلّموا على من كانوا ينتظرون مارين بنا متودّدين إلينا بانحناءات من رؤوسهم تحية لنا، حتى انتهوا أيضاً إلى من انتهى إليه من كراسي من أشرنا إليهم، ولم يكادوا يجلسون عليها حتى رفعوا أكفّهم بقراءة الفاتحة ورفع من حولهم أكفهم بمثل ذلك، وكنت حينئذ قد فهمت ما خفي عليّ، ولم أعمله عند دخولي كما دخلوا، فإنني وأنا قادم من مكّة المكرمة كان المنتظر مني عندهم أن أعلم هذه العادة وأن أقرأ الفاتحة أنا، فهي بضاعتنا التي نتفاخر بها ونتباهى في الحرمين الشريفين، ولكن لم يتبيّن لي أنها عادة متّبعة بين هؤلاء إلاّ في تلك الزيارة، فكان مني ذلك الجلوس الصامت الذي أشرت إليه، وكان من الحاضرين ما لمحت على أساريرهم أنه كان يستحسن أن أقوم بشيء ممّا تعوّدوه، ولكنني لم أقم به، وشأنهم عندما يتحلّقون حول مائدة الطعام أن يرفعوا أكفهم بالشكر والحمد لله تعالى على ما هيّأ لهم من تلك المائدة، وقد فعلوه وفعلناه عندما حضر الطعام وأجلسونا في الصدارة يحفون بنا.
فأخذت بعد ذلك كلما أسعدني الحظ بزيارة بيت من بيوتهم، ودخلت على من كان ينتظرنا أن أصافحهم هاشًّا باشًّا، ثم أجلس في المكان الذي يُجلسونني عليه أو فيه، ثم أرفع كفّي بقراءة الفاتحة بصوت خفيض كما يفعلون، فيرفع الحاضرون حينئذ أكفّهم، كما ذكرت، ثم نمسح بعدها وجوهنا بأكفّنا، ثم ننطلق في الحديث الذي يطول ثم يطول، وكلّه عن الحرمين وعن الإسلام.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :890  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 156 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.