شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قال لي: بدل أسماء أولادك!
دخلت عليه مسلّماً، ثم معرّفاً باسمي أعينه بسماعه على التذكّر، فصاح مادّاً ذراعيه: يا أهلين، يا أهلين! وتبادلنا القبل وقد تشاجى بهذه الزيارة وهو طريح الفراش، فدمعت عيناه، وكان رقيق العاطفة كما يعرفه كل من عرفه، حتى إذا مرّت ثوان عليه وكان قد أشار إلى كرسي حوله فجلست عليه، فالتفت لمن حوله يعرّفهم بي، ثم اتّجه إليّ يسألني في لهفة عن أحوالي، وأين أنت الآن؟ قلت له: أستريح وأستجم، وأقرأ، وقد علمت من "الحياة" اليوم أنك هنا، فأسرعت بالمجيء إليك، التفت لمن حوله وقال لهم: لقيت عبد الله في مكة، شابّاً يافعاً وشاعراً، وتمنّيت يومئذ أن يخرج من بلاده لإكمال تعليمه حتى استجاب الله أملي، فجاء إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وكان يزورني في الشام، كنت إذا هبطت إلى بيروت أزوره في كليّته الثانوية، وفي فصول الصيف أنتهز فرصة زيارتي لصديقي فؤاد رحمه الله في "برمانا" وأعرج على مدرسة عبد الله وأصحبه معي إلى بيت فؤاد.
والتفت إليّ مرة ثالثة في شوق وتلهّف وسرور يسألني: أخبرني الآن لا بدّ أن لديك أولاداً؟ قلت له: نعم، قال: كم عددهم؟ قلت: أربعة ذكور وبنت خامسة. ما أسماؤهم؟ قلت له: "يعرب" و "عمر" و"قحطان" و "بلقيس" و "سبأ".
فصاح بي صيحة متشنّجة وهو يقول لي: بدّل أسماءهم، بدّل أسماءهم، بدّل أسماءهم، فأنت تعلم أن ما أوصلني إلى ما أنا فيه مما قضيت له عمري كله، وبدّدت في سبيله ثروتي هو أسماء أولادك من يعرب وقحطان وبلقيس وسبأ، ثم قال لي: هل تريد أن تمشي نفس المشوار لتصل إلى ما وصلت أنا إليه، وأنت لا تزال في روائح الشباب؟! ثم قال لي: إن عمري الآن ثمانون عاماً وأنا أكذب على الناس فآكل منه خمس سنوات فأقول إنني في الخامسة والسبعين من عمري، وهذه شقيقتي، وأشار إلى السيدة الجالسة حول سريره تعلم صدق عمري، وقد أخبرتها أن لا تبوح به لأحد، فأنا إذن في الثمانين من عمري أكاد أن أقول مع عبد الوهاب: أنا من ضيّع في الأوهام عمره! فلا تكن مثلي، واعتدل في آمالك العربية، فلا أمل عربياً قريباً لنا ونحن نلتقي في الآمال والآمال والرجاء المنتظر.
قلت له: يا فخري بك، أنا لا أوافقك على هذه النظرة التشاؤمية فلا تزال الدنيا بخير (لا تنسوا أن هذا الحديث كان في حوالي منتصف الستينيات الميلادية قبل "الخيبة العظمى" التي لُطِّفت وسمّيت بـ "النكسة" وما هي والله نكسة ولكنها شيء لا اسم له في قواميس اللغات!).
وانفرج يردّ عليّ في مرح تعوّد عليه مع من يحبه وهو يقول لي: اسمع يا بني من جرّب المجرّب حلّت به الندامة! وما في أمل، وقال بالشامية: "منوب، منوب"، يعني بذلك أبداً، أبداً، وضحكنا، وانفرج الحديث بعد ذلك بيني وبينه على مسمع ممن كان حاضراً يسألني عن المملكة وأحوالها فأخبره بما أعلم منها، ثم ودّعته فقال لي: لا تقطع الزيارة عنّي فقد أنعشتني اليوم، ولم أخيّب أمله فقد كنت أزوره حتى جئت بعد ذلك فقيل لي: إنه قد خرج من المستشفى، ولا يعلمون إلى أين ذهب.
فذهبت إلى دار صحيفة "الحياة" ولقيت الصديق الأستاذ كامل مروّة، فقصّ عليّ خبر صديقه البارودي، بمثل ما أخبرني به قبل ذلك ببضع ساعات صديقه وصديقنا الدكتور صلاح الدين المنجد الذي كنت أزوره في مكتب له في عمارة "العزارية" في "صرة" بيروت، وحول ساحة الشهداء بها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :665  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 147 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الخامس - حياتي مع الجوع والحب والحرب: 2005]

محمد عبد الصمد فدا

[سابق عصره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج