شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في دار البارودي
تلك أيام كانت من أيام الشباب وروائح الجنّة في الشباب، وأتذكّر أنني بعد يومين قد توجّهت إلى دار زعيم الشباب وشيخهم فخري البارودي للسلام عليه في بيته في شارع النصر، فأُخبرت أنه موقوف في بيته وممنوع من مغادرته، فزاد تصميمي وعزمي على لقائه وزيارته، وعرفت مكان البيت وجئت، فإذا ببضعة عشر جنديًّا من الفرقة الجزائرية في الجيش الإفرنسي يحيطون بمدخل البيت في يقظة وتأهّب وانتباه، وهم في عمائمهم المغربية البيضاء وأردانهم الوارفة المتهدّلة على أكتافهم.
فأقبلت على الباب، فانتهرني أحد الجنود بسؤال فهمت منه: إلى أين أنت ذاهب؟ فقلت له: لزيارة فخري البارودي، فكأنما قال لي: من أنت؟ وكنت لحسن حظي في تنقلاني يومئذ أحمل في جيبي جواز سفري السعودي، فأخرجت له جواز سفري، وقلت له: أنا سعودي من مكة، وتلميذ في الجامعة الأمريكية في بيروت، وأريد زيارة الرجل الآن، فأخذ جوازي وتصفّحه، وأعطاه لضابط يحسن القراءة، فتأكّد من صورتي ومما كتب فيه أنني طالب وصدق ما ذكرت، وكأنما هزّته كلمة "مكة"، فهؤلاء النمور الأشاوس من الشمال الأفريقي يهتزّون إذا سمعوا مثل هذه الكلمة.
أفسح لي الطريق وقال لي بالإفرنسية: ادخل فدخلت الباب، وصعدت في سلالم تفضي إلى الدور الثاني من ذلك المنزل، فإذا بقاعة فسيحة للاستقبال، وفيها فخري البارودي، تبيّنته وعرفته من صوته الذي تتجاوب أصداؤه بين جدران القاعة، وهو يجادل من حوله؛ إذ كانوا متحلّقون يلعبون الورق.
وألقيت السلام على الجميع، فتوقفت أكفّهم عن الحركة بالورق، وصوّبت أنظارهم إليَّ، فقد كنت في ملابسي الإفرنجية، وكان فخري بك يعرفني من مكة طبعاً بالملابس العربية والعباءة والعقال، وسارعت أذكر اسمي، فبسط الرجل ذراعية، وهو يصيح: (يا أهلين، يا أهلين!)، فانكفأت عليه مسلّماً، فرد على تحيتي وسلامي، بما اعتاد أن يردّ به تحيات من يلقاه، وهو بضع قبلات منثورة على وجهي، ثم وثب وكان لا يزال في مجلسه على الأرض فوقف لوقوفه من حوله وقدّمني إليهم، وهو يقول لهم: هذا الشاب الصغير شاعر كبير، وسألني حالاً: كيف وصلت إلينا، ألم تجد بالباب "الحرس الحديدي"، قلت له: لقد وجدته، قال: من أدخلك علينا؟ فقلت له: أدخلتني "مكة المكرمة"، فرفع عقيرته بصوته المبحوح: الله! الله! الله! ثم قال لي: إنه لا يُسمح بزيارتي لأحد، إلاّ أفراد معدودون سمحت لهم السلطة الإفرنسية بزيارتي ليلاً للتسلية كما ترى.
ورفعوا الأوراق من الأرض، وجلسنا على الأرائك، وبدأ يسألني: متى وصلت إلى بيروت؟! كيف التحقت بها؟ ولقد حقّقت أمنيتي منذ عرفتك في مكة في أن يتاح لك طلب العلم في الخارج، فابتسمت وقلت له: لا شكّ أن ذلك ببركة دعواتك.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1000  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 144 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج