شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
خواطر من عام 1943
هذا الإسهاب جرّه ما يدور بخاطري وأنا أحرّر هذه الخواطر وأتذكّر تلك الطيوف والرؤى التي كانت تملأ حسّي في عام 1943، ونحن في الطريق إلى واشنطن، التي لم يكن بيننا وبينها يومئذ ما يكدّر رحلتنا إليها، ولا ينغّص بهجتنا بزيارتها. فلم يكن العرب يومئذ يظنّون أن وعد بلفور لم يولد في "لندن" ولكن في "واشنطن"، وما كانوا يظنون بأن ذلك الشعب الأمريكي الصديق والمحبوب يومئذ، سيبعث منه ذلك الانحياز التام والمسلح نحو كل من عادى العرب أو خاصمهم أو ظلمهم، ثم لا يرتفع صوت مخلص لبلاده يوقظ النائمين والغافلين، بأن مصلحتهم مع العرب أعظم وأكبر من مصالحهم مع سواهم، وأن معاداة الشعوب ليس فيها مصلحة ولا فائدة، وأن العرب أولى بالتعاون معهم والتأييد لهم في حق واضح، إذا جهله أيّ شعب فإن الشعب الأمريكي هو آخر من يتجاهله ويحاربه ويخاصمه، لأنه قد مرّ بنفس الصراع للحرية الذي نخوض اليوم غماره، ولنا على كل حال أمل في ذلك العشب الأمريكي العملاق أن يصغي إلى تلك الأصوات الخافتة التي يمنع أصداءها من الذيوع، ذلك الصخب الجبار المرعد والمبرق ضدّ العرب وفي غير مصلحة الأمريكان أنفسهم. أترى سيغضب منّا أصدقاؤنا إذا تأوّهنا وسمع أنيننا من على الشاطىء الغربي من بحر الظلمات؟ لا أظن.
على أننا لا نملك إلاّ التأوّه والأنين، وهما خاليان حتى من الإيمان.
وها نحن الآن على مشارف العاصمة "واشنطن" ونحن في عام 1943م، قادمين إليها من مكة المكرمة. ولا بلاغ إلاّ بالله...
وكان الضيف المهاب والنبيل "فيصل بن عبد العزيز" تشعّ أساريره بما عرف عنه من رقّته وتهذيبه ورفعته، متبلّج الأسارير في هدوء متكامل آخذ، وعندما كانت الدهشة المرحة تتفشّى ملامح الرئيس فيهتزّ على كرسيه مرحباً، إذ يرى لأول مرة ضيفين عربيين في ملابسهما العربية الوارفة وتحت عقالين يشعان بأسلاك الذهب وكتل الحرير، كان الملك فيصل في رزانة ونبل تملأ رؤاهما مظاهر محياه، فلقد تعوّد على مثل ذلك منذ تسلم المهمات الرسمية التي اضطلع بها في عون ومساعدة أبيه عبد العزيز عشرات السنين. فقد كان على معرفة تامّة بالحياة الغربية والشرقية، وبعظماء الرجال منذ تخطّيه سنوات الفتوّة الأولى حول العشرين من حياته، عندما كان يستقبل في وزارة الخارجية بمكة منذ بدء العهد السعودي في سنواته الأولى في حياة المملكة الوزراء والممثلين والمعتمدين والرسل والأمراء من حكومات العالم، التي بدأت علاقة المملكة بها، وبدأت علاقاتها بالاعتراف بالملك عبد العزيز وبزيارته والتعرّف عليه، وكان كل هذا يتمّ بواسطة "فيصل" وزير الخارجية. ولهذا فلم تأخذه الدهشة في لقائه بالرئيس روزفلت في البيت الأبيض، فقد سبق له أن اجتمع وزار وأصبح ضيفاً على عدد من الملوك والأباطرة والزعماء، وحلّ في قصورهم ونزل في عواصمهم، فكان ضيف الملك الإمبراطور جورج الخامس في قصر باكنجهام عند نهاية الحرب العالمية الأولى قبل أن يتجلّى الشعر في عارضيه، وكان ضيف الملكة "ولهل مينا" ملكة هولندا، وما أصبح يدعى اليوم بأندونيسيا، وكان ضيفاً على جمهورية فرنسا في قصر الأليزيه بباريس، وضيفاً على ملك بلجيكا في قصره بعاصمته بروكسل، ثم في قصر "الكرملين" معقل القياصرة الروس، والذي أصبح بعد ذلك في موسكو مقرّاً لأباطرة الثورة البلشفية الحمراء، حيث استقبل أباطرته الأُوَل، وبينهم لينين، الأميرَ فيصل ضيفاً مكرّماً ومرحباً به في عاصمتهم وفي سنوات ثورتهم الأولى، تمّ ذلك بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، التي جرت تلك الزيارات كلّها في خلالها ولا يزال لهب نيرانها مشتعلاً في ميادين القتال في جبهاته الشرقية والغربية، حيث طاف بها وتفقد أرجاءها ووقف على أطلال كل معركة منها، يمشي على رجليه بين خنادقها، ويتفقد ما تبقى على ساحاتها، وذلك في كل من بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وروسيا، يخفّ به كبار قادتها العسكريين والسياسيين، ويتناول ضيافتهم في قصور تلك الدول وبين رؤسائها وملوكها، وكان كل ذلك في مطلع شبابه المبكر وانسلاخ فتوّته.
لهذا لم تأخذه روعة الحفاوة في البيت الأبيض العريق بجلاله وبساطته وهيبته، ولا حرارة الزيارة التي غمر بها من الرئيس ومن وزرائه وقادة الحرب الثانية التي تمت الزيارة في اكتوبر عام 1943م، وهي تتلظّى في مشارق الكرة الأرضية ومغاربها، وهي تبشّر بالنصر لأمريكا وحلفائها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :484  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 117 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج