شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بصيرة الملك فيصل رحمه الله
أما جلالة الملك فيصل رحمه الله، فمع أن تلك الزيارة لأمريكا كانت أوّل ما شاهد ورأى في العالم الجديد، فإنه كان على بصيرة تامّة بما سمع ورأى، وذلك أنه يقرأ كثيراً منذ مطلع فتوّته، ويتولّى الشؤون الخارجية للمملكة منذ نحو خمسين عاماً تقريباً، قبل الزيارة عرف بها السياسة والسياسيين الشرقيين والغربيين، ومع أن زيارته وزيارة أخيه الملك خالد، ونحن معهما في ذلك العام، كان أول عهد للشعب الأمريكي أن يشاهد أمراءً أو حكّاماً من البلاد العربية يزورون بلاده ويختلطون به ويتعرّفون عليه، فيعرفهم ويستمع إليهم ويشاهد ملابسهم العربية ويرى صورهم تملأ الصحافة في كل مراحل تنقّلاتهم في بلاده، ويرى أخبارهم مصوّرة ومكتوبة في كل مكان، فيعجب بهم ويكبر مقامهم، وتحتشد الجموع للسلام عليهم أو لمشاهدتهم في المدن الكبيرة والقرى وفي الجامعات والأندية والحفلات، فيرى ما لا عهد له به محفوفاً بمحبة صادق ملأت مشاعره.
والكلام عما أعرف من هذا وعن شخصيته الملكية، خصوصاً الملك فيصل، سأجعله مسك ختام ما يقدر لي أن أنشره. إن جلالة الملك فيصل قد كان من أوائل من تجوّل في ميادين القتال والحرب بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، فلقد زار إنجلترا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ثم روسيا وتركيا وبعد ذلك العراق في عودته إلى الرياض، وكان تجوّله يومئذ في تلك البلدان واجتماعه بزعماء الحرب في ذلك العهد خبرة اكتسبها مع مطلع شبابه، ودروساً تاريخية أثارت معارفه وأشرقت بها دراساته، فتكوّن من تلك المحصلة شخصية فيصل العظيم والسياسي البارع، زيادة على اجتماعاته خلال ستين عاماً وزيراً للخارجية ونائباً عن الملك عبد العزيز ثم ولياً للعهد ثم عاهلاً للمملكة بالكبار، لم يشتهر ملك أو رئيس سياسي أو زعيم في العالم إلاّ وعرفه واجتمع به وتحدّث إليه، لهذا سبقته إلى الولايات المتحدة، يوم زارها للمرة الأولى، سمعتُه وشهرتُه في المعلومات الدولية والمعارف المتداولة في كل مكان.
وهو اليوم – ونحن في شهر أكتوبر "تشرين الثاني" من عام 1943 – ضيف على الرئيس روزفلت، ومعه أخوه في ذلك الوفد العربي في تاريخ الولايات المتحدة في تلك الأيام... ولهذا كانت الحفاوة به كبيرة والاستقبال ملكياً والترحيب الشعبي حاراً وعميقاً وودّياً. وساعد على كل هذا انفتاح الحكومة الأمريكية على ما حولها من العالم، وبداية تملّصها من عزلتها التي ضربتها حول نفسها وحول جاراتها الأمريكيات الجنوبيات، في ما كان معروفاً قبل ذلك بمبدأ مونرو الذي فرضته أمريكا على القارتين الأمريكيتين، بأن تكونا في شبه حياد إيجابي يمنع أوروبا وغيرها من التدخّل في شؤونها والمساس بحقوقها. حتى جاءت الحرب العالمية الأولى وأصبحت نظرتها إلى ما كان يجري حولها قد تغيرت، وأصبحت المصالح الاقتصادية والسياسية والدفاعية تلزمها بالخروج من شرنقة ذلك المبدأ الحيادي، فلعبت السياسة لعبتها للخروج من العزلة بافتعال أحداث عسكرية ألهبت لها حماس الشعب الأمريكي، فأخرجته عن صوابه و "سلفيته"، دخلت على إثره الحرب الأولى مباشرة وغير مباشرة، وتقبّلها ساسة أوروبا من حلفائها لشدّة حاجتهم إليها وإلى بضاعتها ووفرة غناها وقوّة بأسها وهكذا كان، وكان رئيسها "ولسون" يومئذ يحاول أن يدعو العالم إلى سلام فيه شيء من حقوق الشعوب، ولكن حلفاءه الذين انتصروا به واعتمدوا عليه قد غافلوه واتّفقوا على أن يضربوا بمبادئة الأربعة عشر عرض الحائط، وصدعوا بما قرّروا وتقاسموا مخلّفات الشعوب التي حاربوها لهذه الغاية، وليس يعتبرها متقاسمو البلدان العربية، التي أخرجوا منها الأتراك، ليحلّوا هم فيها ولتحلّ حليفتهم الحميمة إسرائيل فيها. ولم يخرجوا الأتراك منها لتحرّر منها ومن غيرهم كما أشاعوا وأذاعوا وملأوا أسماع الأمة العربية بتلك الوعود الكاذبة، التي صدّقها العرب ومشوا خلف "لورانس وشركاه" يهتفون ويرتجزون ويخطبون، حتى أفاقوا في عام 1917م، على الثورة الشيوعية التي فضحت دول الغرب التي شاركتهم في التضليل والبهتان في عهد روسيا القيصرية، فنشرت "وعد بلفور" على الصحافة العالمية، فكان في نشره نهاية التضليل والمخادعة. وتسلّمت أمريكا التي جرت مسودة ذلك الوعد المشؤوم على أرضها وبتوجيه أدمغة قادتها المتحالفين مع الصهيونية العالمية، فإذا بالعرب الأحرار المتحرّرين تحت نسر الاستعمار الإفرنسي في سوريا ولبنان والمغرب كلّه، والإيطالي في ليبيا، والإنجليزي فيما أحاط بالجزيرة العربية وفي أعظم أقطار العرب "مصر" و "العراق" و "فلسطين"، وبدلاً من الحكم العثماني الاستعماري الرجعي، حلّ محلّه الحكم الصهيوني التقدمي الاشتراكي المتطوّر.
وهكذا كانت النهاية ثم البداية ولا يعلم إلاّ الله ونحن اليوم في حروب طاحنة بين إخواننا وجيراننا كيف ستكون الخاتمة والنهاية؟؟!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :506  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 116 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.