مانهاتن = 10 دولارات! |
وما يعرفه المطلعون أن هنري هدسون أبحر في عام 1609، في ذلك النهر الذي تقوم اليوم على مصبه مدينة نيويورك وكان في خدمة الهولنديين. فبدأت بذلك مدينة نيويورك تظهر، واشترى رفاقه من خلفه من الهولنديين من الهنود الحمر البسطاء جزيرة (مانهاتن) بمبلغ لا يزيد على عشرة دولارات. وكانت هذه الصفقة عام 1623م، جاء الإنجليز فأرغموا هؤلاء الهولنديين على بيع الجزيرة تلك والجلاء عنها بقوّة أسطولهم، كعادتهم في كل بقعة من الأرض يفدون إليها عبر قرنين متواليين قبل اليوم. |
وبهذه الغارة الأوروبية المسلحة الشعواء على تلك القارة وعلى سكانها من الهنود الحمر، وهم باديتها وفلاّحوها ورعاتها ومواطنوها الأصليون وأهلها، قامت الخطوات التأسيسية الأولى لما تسمّى إلى اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية أو العالم الجديد، وهو اليوم في قمة أمجاده، يمسك المجد من زوايا الكون الأربع، يدمّر كل شيء يعترضه أو ينازعه أو ينافسه أو لا يسير في ركابه وفي مجراه واتجاهه. ولقد ورث هذا بعد أن ساهم وساعد وعمل على تصفية الإمبراطوريات التي سبقته في دنيا الاستعمار والاستثمار والسيطرة والملك، منذ الإمبراطوريات الحديثة بالأمس: العثمانية والبرتغالية والإسبانية والإنجليزية والجرمانية وبينها الروسية القيصرية ثم الهولندية. وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ. وقد نُدخل في تلك الإمبراطوريات التي قوضتها أمريكا وحلّت محلها الإمبراطورية الصينية واليابانية بشكل أو بآخر. |
ولا نطيل في الحديث عن هذا العالم الجديد الجبار، فقد تطوّر وتصارع وتحارب واضطرب. ومضت السنون وهو في نضال وكفاح، انضمّت إليه ولايات أُخر، في أطرافه شيء منها بالحرب، وشيء بالضرب، وشيء بالشراء أو الرهن أو الكراء وحتى المقايضة، حتى بدأت الولايات المتحدة بكل هذه الوسائل حرب التحرير من الاستعمار البريطاني، وكان الصراع دامياً ومسلحاً ومخيفاً، حتى نشبت معركة (ساراتوب) في ولاية نيويورك عام 1777م، حين هُزم البريطانيون وبدأ الاستعمار البريطاني يتقلّص ويتلاشى، حتى عقدت المعاهدة النهائية بين أمريكا وبريطانيا في عام 1784م، وبها تحرّر الأمريكان الشماليون من الاستعمار والمستعمرين. |
ووضع القانون السياسي للولايات المتحدة وهو (الدستور)، وكان هذا في عام 1788م، وهو الذي وضع أساس الرئاسة والشروط التي تشترط فيمن يرشح نفسه لها، وكيفية ما يسمّى (الكونجرس)، وما يشترط في المرشحين لعضويته، وحدّدت صلاحيات السلطات التشريعية والتنفيذية وتعديلاتها، وأصبح كل مواطن أمريكي فخوراً بنضاله وما وصلت إليه بلاده، ثم أشرب في نفس كل أمريكي اليوم أن لا يقبل مَنْ يزاحمه على مثل ما تحصّل عليه من الحرية والاستقلال والقوة والأخذ والردع، وهذه سنّة الحياة. |
وأمريكا اليوم وبالأمس قد ورثت جميع أساليب استعمار واستثمار شقيقاتها وزميلاتها من دول أوروبا اللاتي سبقتها إلى السيطرة وحكم الشعوب، وشذبت تلك الأساليب وقوتها، ثم بسطتها اليوم بالقوة تارة وبالترهيب والترغيب تارات، واخترعت لها الأسماء الطنانة الرنانة تجتذب بها الشعوب، وجعلتها (إنجيلاً) يدعو المؤمنين إلى الفردوس الموجود لا الموعود، واستبدّت بكل شيء في سبيل ذلك (وإنما العاجز من لا يستبد). |
وفي تاريخ الإمبراطوريات العالمية العظمى معجزات وعجائب وقفزات محلّقة في سبيل المجد والعزّة والسيطرة والحكم، ولكن تاريخ الشعب الأمريكي بأسره يتميّز بسمات بارزة، كأنها الطابع الأمريكي الذي لا يشاركه فيها سواه، ولقد تجمّعت لهذه الأمور أسباب ومسبّبات، تفرّدت بها وامتزجت بدماء تلك الجموع الهائلة، التي تدفقت على شواطئها في أعوام الهجرة المحمومة والزحف الصاخب، الذي قامت به تلك الجماعات من أوروبا على وجه الخصوص، عندما تمّت معرفتها وعرفت طرقاتها المؤدية إليها، ثم عرفت الثروات الزاخرة التي تحتويها تلك البلاد الجديدة وهي بكر في كل جانب من جوانب حياتها ووجودها، بينما كانت القارات الخمس الأخرى قد عقدت خبراتها واستثمرت أفكارها وتلاطمت فيها أمم وشعوب من كل جانب من جوانب الدنيا المعروفة يومئذ. ولهذا ظهرت أمريكا على الدنيا بأسرها في زخم جبار متطوّر، تدرّج في عنفوانه عبر قرنين متلاحقين امتلأ دماءً وكدّاً وعرقاً وكفاحاً وصراعاً مع المحتلين والمستعمرين الأعداء، وهي خلال تلك الحقب تتبلور وتتجمّع وتتفاعل بمن صبت أمواجهم وتياراتهم من المهاجرين في أوديتها وشواطئها وأدغالها وصحاريها، هادرة كالطوفان المتدفق، الذي يغمر السهول والجبال، ويعبر البراري والقفار... يعمر ويبني ويشيد، لا يقف أمامه شيء، بل لقد قضى على الملايين ممن سبقه إلى الحياة على تلك القارّة من القبائل البدائية المعروفة بالهنود الحمر، التي اكتسحها الطوفان وغمرها وأغرقها في كثير من عقود الدهور، حتى تمّت الغلبة للجنس الأبيض من أوروبا، فتوطّدت سيطرته على ذلك الفردوس الجديد، وتمّت له الغلبة عليه بجميع الوسائل المشرِّفة منها وغير المشرفة، والمعلوم المتعارف قليل والمدفون الموءود أكثر، والدنيا بأسرها تعرف هذا وذلك، فقد كان شعار الفتح والاحتلال والهجرة هو "الغاية تبرّر الوسيلة". حتى تكاملت أسباب البقاء ونشأ من ذلك الخليط من الزاحفين هذا الشعب المختلط الدماء المتباين السحنات، اختلطت به بعد ذلك موجات الشعوب الشرقية والآسيوية من الصين وملحقاتها، ومن اليابان، ثم من شعوب أمريكا الجنوبية المتعلّقة والمجاورة للولايات المتحدة الأمريكية بالأمس واليوم. وهكذا تكوّن هذا العالم الجديد على تلك القارة، وهو شاب وجديد في كل مظهر من مظاهر حياته الاجتماعية والسياسية والفكرية، كان هذا الاختلاط نعمة على تلك الأمّة، وانصهرت فيه العقائد البالية المتحجرة، وذابت فيه مظاهر العنعنات الشعوبية المتنافرة في منابع وأصول هجرتها، وامتزج فيه كل المتنافرات والمتحجرات والرواسب المهاجرة مع أهلها من عالم النزاع والصراع والحروب والكراهية، وانبثق من ذلك وعنه "الولايات المتحدة الأمريكية". |
يمتلىء كل مواطن أمريكي زهواً وفخراً إذا ما سُئل عن جنسيّته بقوله: "أنا مواطن أمريكي". |
إن ذلك التجمّع المتنافر قد وضع نصب عينيه، منذ اختار ذلك الوطن وطناً جديداً له وبديلاً له عن مساقط رؤوس الأجداد فيما وراء الحدود، وقرّر أن يبني شعباً ويؤلّف أمّة، وعرف حينئذ ما يجب على من يؤمن بتكوين شعب وإنشاء أُمّة، فخاض غمار الحياة، لم يكن خوض غمار الحياة سهلاً ولا ليناً، ولكنه كان كفاحاً وصراعاً وبناءً وإنشاءً، وفوق كل ذلك أن يكون ذلك كلّه جديداً وألاّ يضاهيه غيره ولا ينافسه سواه، فهو إذاً العالم الجديد المتجدّد البالغ في عنفوان زخمه ما وجد غيره من الشعوب والأمم يمسي وراءه ويلهث خلفه، وهو منطلق انطلاق الصاروخ في جنبات الكون بأسره، يحتلّ القمة في كل منحى من مناحي الحياة، ويمسك بالأمجاد في كل ضرب من ضروبها الصغيرة والكبيرة، تساعده في ذلك أرض غنية فيها جميع مقوّمات الحضارة والبناء والتأسيس، تستغلها أدمغة تحرّرت من كل قديم بال لا ينفع البشر بشيء في وجودهم على سطح هذا الكوكب الدوّار. |
هذه الخواطر المتلاحقة تدور في أذهان كل من نزل أرض الشعب الأمريكي بالأمس واليوم، وتملأ عليه حسّه ومشاعره، وهو يسمع ما حوله فيها ويرى ما يطالعه في كل ثانية من ليل ونهار، كل شيء جديد جديد. |
وكل مظهر من مظاهرهم متطوّر لا يستقرّ على حال، حتى يشب إلى الأحسن وإلى الأجود وإلى الممتاز، ثم إلى المعجز لغيره من الأمم والشعوب. |
هذا الجديد هو الابتكار والمزج والاختراع والتطاول إلى العالي، ثم إلى الأعلى، ثم إلى ما فوق العالي والأعلى. |
عندما خاطب الله الأمة الإسلامية، وقال في قرآنه: وَأَنَتُمُ الأَعْلَوْنَ، كان يحثّهم على مثل هذا وأعظم من هذا، وإلاّ فما معنى العلوّ إذا خوطب به من يرضى إلا أن يكون في أسفل مقاييس الحضارة والعزّة والكرامة والتفوّق...؟! |
نرى هذا منذ نحو نصف قرن، ونحن نتعرف على العالم الجديد في أمريكا، فكيف بنا اليوم بعد أن أصبح ذلك الشعب فيما وراء الأكوان، ولم يعد عبور الوفد السعودي يومئذ في عام 1943م ما يستحق أن يتحصّل على توقيعاته المعجبة بقطعه، المحيط الأطلسي، وأنه أصبح بذلك من روّاد الفضاء في العالم، وهو ما كان الناس يشعرون به في تلك الأيام؟؟! |
|