شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
يا عمي: أُمراء سعوديون في بلادنا!
وخرج حسن الشامي مثل السهم من معرضه لا يعلم ما الذي يفعل، يريد أن يشتري ما يكرم الوفد به، وطلب منه الأمير فيصل أن يستريح، لأنه إنما جاء للسلام عليه والتعرّف به، ولكنه لم يسمع وخرج إلى السوق، وقد سأل بالبرتغالية أحد الضباط من هؤلاء؟ فلما أخبره الضباط بأنهم أمراء سعوديون في بلادنا!. وأقبل علينا عشرات ممّن سمعوا وهم من الجالية العربية في دهشة لا يمكن وصفها في ترحيب عميق، بل إن بعضهم قد تباهى لرؤية العباءة والعقال، فهجم بذراعيه يحتضن الأميرين ودموعه تسيل على خدّيه.
ولاطف الأمير فيصل الجميع ملاطفة ملك بها قلوبهم، وأصرّ كل عربي إلاّ أن ندخل دكانه. ولبّى الأمير فيصل كل طلب منهم، فلم نكد نخرج من المعرض الكبير إلاّ وقد تجمهر الصبية والنساء والفتيات وأصحاب الدكاكين، وانضمّوا في الموكب والأمير فيصل يدخل بنا من دكان إلى دكان ملبياً طلبات أصحاب الدكاكين العرب الذين سارع بعضهم، فجاءوا بالقهوة على عجل، فشربنا القهوة التركية أو الشامية بعد أيام من شربها، وقضينا نحو ساعتين في هذا التجوال كنّا فيه مغمورين بما غمرنا به أفراد تلك الجالية العربية، بل إن بعضهم قد قدّم للأمير فيصل بعض أصحاب الحوانيت البرازيليين من جيرانه الذين رجوه أن يدخل معرضهم فلبّى طلبهم، فغمرت الفرحة الجميع ونحن منهم.
وعدنا بعد ذلك إلى قواعدنا سالمين فرحين مستبشرين، بأن بداية هذه الرحلة وهي رحلة العمر للجميع كانت على مثل هذه البساطة والمحبة العفوية والأريحية.
وكان برنامج الرحلة أن نغادر ناتال متّجهين إلى الشمال الغربي من القارّة الأمريكية الجنوبية، إلى مدينة "جورج تاون" عاصمة المستعمرة البريطانية "غيانا"، حيث قضينا بها ليلتنا، وقمنا منها في صباح اليوم التالي نحو مدينة "ميامي" عاصمة ولاية "فلوريدا".
كان الأمريكيون في تلك السنين يعتبرون جزيرة "كوبا" إحدى جزر الفردوس في البحر الكاريبي الذي سنمر بطائرتنا في أجوائه، وكانوا يقولون لنا: إننا سنمرّ بكم على حقول البترول في فنزويلا في الطريق إلى كوبا، في الطريق إلى "ميامي"، وإن المناظر ستكون جميلة، وأنه ما دامت عندكم "الظهران" وحقولها البترولية، فنظرة منكم في سماء حقول فنزويلا تعطيكم فكرة عما يجري في هذا الطرف من العالم، بمثل ما يجري في ذلك الطرف من العالم، وهو بلادكم على الخليج العربي، ولهذا ستكون الطائرة منخفضة جدّاً، حيث تشاهدون كل ذلك وستدور بكم الطائرة فوق جزيرة "كوبا" لكي تروا ذلك الفردوس الجميل، وكان هذا هو رأيهم في تلك السنين قبل أن يظهر الزعيم "كاسترو" صديقهم اللدود في ذلك الفردوس، فغيّروا وجهة نظرهم إلى ذلك الفردوس.
وتمّ كل ذلك في رحلة اليوم التالي حتى وصلنا إلى مدينة "ميامي". وذكرياتنا عن ميامي وإقامتنا فيها كذكرياتنا عن كل قرية أو مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية، مما تسنّى لنا السماع به أو الإقامة فيه أو التجوّل عليه، والحديث عنه طويل طويل عسى أن نعود إليه في مكان آخر.
كان الاستقبال في "ميامي" أوّل استقبال رسمي للوفد في البلاد التي دعاه رئيسها لزيارتها، وكانت فرحتنا فرحة لا نظير لها لما سمعنا ورأينا في تلك البلاد، كان موكب الأميرين أخّاذاً، وكان الحرس المحيطون به في مثل استقبال الملوك، ووجدنا مندوبي شركة "أرامكو" هناك من أوّل المرحبين والمستقبلين، أخصّ منهم صديقي "قيري أوين"، من كبار موظفي الشركة العربية الأمريكية، والذي قضى نهاية عمله في شركة أرامكو مندوباً مقيماً في مدينة جدة، حتى تقاعد وعاد إلى بلاده "سان فرانسيسكو"، وتوفّاه الله هناك منذ بضع عشرة سنة.
وبدأت في "ميامي" الحفلات والزيارات بين كبار موظفي الولاية وبين الوفد، وكانت أخبار هذه الزيارة وصورها تغطي الصحف المحلية في ولاية "فلوريدا"، وتتخطاها إلى "نيويورك" و "واشنطن"، وقد لاحظت أن المظاهر الاجتماعية والترحيبية في تلك الأيام أن يقبل الناس على كل من قطع المحيط جوًّا، يطلبون منه توقيعه على ورقة دولار أو خمسة أو عشرة أو أكثر، ومن هذه الظاهرة كان الزحام على أعضاء الوفد كبيراً، وكنا نشرع أقلامنا للتوقيع لمن يطلب منّا ذلك، إذ يرون في عبور المحيط يومئذ بطولة لا تتسنّى لكثير من الناس، وعندما تمرّ هذه الخاطرة بذهني الآن أهزّ رأسي وأتذكّر كيف كانت الدنيا منذ نصف قرن، لم تكن في المملكة العربية السعودية طائرة مدنية واحدة، وكيف لم نستطع الوصول إلى أمريكا بسبب الحرب طبعاً إلاّ بعد أن قمنا بتلك الجولة الطويلة، التي استغرقت أسبوعاً كاملاً: قطعنا فيه "أفريقيا" إلى شمال أمريكا الجنوبية، فإلى جنوب أمريكا الشمالية متجهين إلى واشنطن، وكيف أصبحت الحال الآن تقوم في صباح كل يوم طائرة سعودية جبارة قاطعة ما بين جدة أو الظهران وما بين نيويورك في نصف يوم بدون توقف، ولا يطلب من ركابها أن يوقعوا على الدولارات؛ إذ أن هذه العملية قد أصبحت "موضة قديمة"، حتى أنه لا يتذكرها ولا يصدّقها أحد اليوم.
أما ما وصل إليه بطل الأمة الإسلامية والعربية أمير الفضاء وأميرنا (سلطان بن سلمان) فلو أخبرنا يومئذ بإمكانية وصوله إلى ما وراء الأكوان، ينام فيها ويأكل ويشرب ثم يعود إلى بيته في الرياض بعد ذلك، هذا الخاطر لا يمكن أن يمرّ في ذهن أيّ إنسان في تلك الأيام، فالحمد لله ربّ العالمين، وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا. ولنا عودة للسفر من ميامي إلى نيويورك ثم إلى البيت الأبيض في واشنطن نحلّ ضيوفاً فيه على الرئيس العظيم روزفلت.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :451  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 112 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.