العفر يحافظون على دمائهم |
وقبائل العفر في بلادهم يحافظون أشدّ المحافظة على دمائهم وعلى أنسابهم وعلى فروعهم، فلا يزوّجون بناتهم (في الغالب) إلى غير جماعاتهم، ولما استحرّ القتل في رجالهم في صراعهم مع الاستعمار الحبشي، منذ مطلع هذا القرن، استقدموا الرجال من فروعهم البعيدة عنهم فزوّجوهم ببناتهم، وهم بهذا يزيدون أعدادهم ويحافظون على انتمائهم ويصونون أعراضهم وجماهيرهم، وللأرض في بلادهم العفر نفس القداسة لدى أهلها، فلا يبيعون من أرضهم شيئاً لغيرهم. ولقد حلّ ببلادهم الملك (ليج الياسو) المشار إليه في ذكرياتنا السابقة هارباً من سجنه في أديس أبابا بعد أن خلعته الكنيسة. |
والإمبراطور هيلاسيلاسي قبيل تتويجه أقام في بلاد الدناكل هذه نحو أربعة أعوام، وبرغم ما قيل عن إسلامه وعن حبّه للمسلمين وحمايتهم لم يبعه العفر شيئاً من أرضهم، ولم يزوّجوه منهم، بل تزوّج بعض المسلمات من غيرهم، جاءته بعدد من البنين المنتسبين إليه اليوم... |
هذه مقدمة للرسالة التي أشرت إلى وصولها إليّ من أحد العفر وها هي ذي بنصّها، تقول: |
"موقع السلطنة العفرية الجغرافي": |
إن السلطنة العفرية هي سلطنة عريقة في شمال شرق الحبشة، تحدّها من الشمال (أريتريا)، ومن الجنوب (الصومال الغربي) المحتلّ، ومن الشرق (جمهورية جيبوتي)، ومن الغرب (الحبشة وبعض المناطق الإسلامية المحتلّة)، وتبلغ مساحة السلطنة مائتين وسبعين ألف كيلو متر مربّع، أي ما يوازي خُمس مساحة الحبشة، ويبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة جميعهم مسلمون، وهذه المنطقة تعرف بالاصطلاح الجغرافي "بالمثلث العفري". |
"التضاريس": |
تتألّف معظم أراضي السلطنة العفرية من السهول والوديان، وهي في الغالب في مستوى البحر مع وجود بعض الهضبات والجبال في أماكن متفرّقة من السلطنة، وتتنوّع درجات الحرارة في أرجاء السلطنة لوجود الغابات الكثيفة والأنهار الكبيرة التي تساعد على تلطيف الأجواء فيها، ومن أشهر أنهارها نهر هواش. |
"الناحية الاقتصادية": |
لكن أهمية السلطنة العفرية في موقعها الاستراتيجي وخصوبة أراضيها، ووفرة المياه وكميات الطمي التي يجلبها نهر الهواش من مرتفعات الحبشة، وقد شهدت المنطقة العفرية في الفترة التي سبقت الانقلاب العسكري الذي أطاح بالإمبراطور هيلاسيلاسي نهضة زراعية شاملة، فقد قام (السلطان علي مراح حنفري) بإدخال وسائل الزراعة الحديثة، وجلب الخبراء والمهندسين للإشراف على مزارع القطن والفواكه والخضروات وجميع أنواع الحبوب التي كانت تروى من نهر هواش، الذي يمرّ عبر أكثر من ستمائة كيلومتراً من أراضي العفر على طول مجاريه وفروعه... |
بجانب هذا، فإن السلطنة تشتهر كذلك بثروتها الحيوانية وينابيعها الكثيرة ومعادنها التي لم تستثمر بعد... |
وإن هذه الخيرات التي حباها الله بها كانت دائماً من الأسباب والدوافع التي أدّت إلى قيام الحروب المتكرّرة بين السلطنة العفرية وبين ملوك الحبشة الطامعين. |
"الناحية السياسية": |
ظلّ الشعب العفري ينعم بسيادته وحريّته الكاملة منذ قديم الزمان تحت ظل قيادته الوطنية، صامداً أمام أطماع التوسعيين من جيرانه والغازين القادمين من خارج المنطقة، محافظاً على وحدة أرضه وحريّتها واستقلالها. |
ولهذا، فإنه في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، كان الأوروبيون يتسابقون لاستعمار القارّة الإفريقية وإخضاعها لهم وتقاسمها فيما بينهم، فأصبحت لا تجد فيها موضع قدم إلاّ خاضعاً للاستعمار الأوروبي، إلاّ أن الاستعمار الأوروبي، خاصة إيطاليا وفرنسا، استثنى من استعماره مملكة الحبشة المسيحية وحدها، وهي التي كان ينحصر وجودها في الهضبة الوسطى لمرتفعات الحبشة؛ إذ بدلاً من أن يحتلّها الاستعمار الأوروبي ويتقاسمها، كما فعل للقارّة الإفريقية كلّها، فإنه قام بدعم هذه المملكة الحبشية وتسليحها وتقويتها في عهد الإمبراطور منليك الثاني، ثم دفعها إلى احتلال الممالك والسلطنات المحيطة بها، وهي تزيد عن تسع سلطنات إسلامية، ومنذ ذلك الحين تحوّلت مملكة الحبشة إلى إمبراطورية، إلاّ أن (السلطنة العفرية) التي ينحدر شعبها من أصول عربية أصيلة والتي تدين بالدين الإسلامي الحنيف، لم تخضع يوماً لهذه الإمبراطورية، ولم تضمّ إليها، لأنها قاومت كل غزو تعرّضت له بشدة وضراوة، فاحتفظت باستقلالها الكامل حتى عام 1930م. |
إن الوثائق الرسمية التاريخية الدالّة على صحة هذه القصة لا تحصى ولا تعدّ، وإن كتب التاريخ المليئة بمعاهدات الصداقة وحسن الجوار التي تشهد عليها إيطاليا بين السلطان محمد حنفري (سلطان أوكسا) وبين منليك الثاني ملك الحبشة، هي أكبر دليل على استقلال كيان العفر وتميزّهم عن الأحباش بالتقاليد واللغة والمعتقدات. وعقد معاهدة الدفاع المشترك التي كانت تربط هذه السلطنة بحكومة إيطاليا دليل آخر على استقلال الشعب العفري عن الحبشة وعدم ارتباطه بها أو بغيرها من الجيران. وهناك دليل أكبر من ذلك كلّه ليس على استقلال العفر وشعبها العفري فحسب، بل على قوّة هذه السلطنة وهيبتها قبل 1930م، وهذا الدليل هو حماية الإمبراطور الياسو المخلوع عندما لجأ إلى السلطان العفري وإلى شعبه، إذ مكث أربعة أعوام في حماية السلطان معزّزاً مكرّماً دون أن تنال منه الإمبراطورية الأثيوبية بسوء، رغم المحاولات والاحتجاجات من الإمبراطورة (زورديتو) وولي عهدها (تفري مكنن)، الذي عرف فيما بعد بهيلاسيلاسي واتّهامهما السلطان العفري بنقض معاهدة الصداقة وحسن الجوار، وقد رفض السلطان تسليم الياسو للحبشة باعتباره يتصرّف بما يمليه عليه الوضع السياسي للسلطنة وهو الاستقلال التام عن كل المؤثرات، فضلاً عن استقلاله السياسي، ومن أجل ذلك جهّزت الحبشة حملة عسكرية على رأسها والي مقاطعة (والو) مع قائدين آخرين من (شوا) لغزو السلطنة العفرية، ولكنها باءت بالفشل وعادت خاسرة، ومن ثم أقرّت الصلح مع السلطان يايو محمد وجرى إرسال الإمبراطور المخلوع (الياسو) إلى حاكم مقاطعة (تجراي) بناء على رغبة الياسو نفسه بغير ضغط من الحبشة... |
|