شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مكتبة آل عبيد بالحميدية
وفي تلك الأيام ذهبت في إحدى عطل العيدين عام 1936 إلى دمشق، كعادتنا لا يحلو لنا العيد ونحن في بيروت إلاّ إذا شددنا الرحال لعاصمة الخلافة الأمويّة، وأدّينا صلاة العيد في (الجامع الأموي) فيها، كنت أتجوّل على رجلي أيام العيد كلها من شارع إلى شارع فيها، ألتمس المكتبات التي قد تكون مفتوحة أيام العيد، كنت أتردّد على المكتبة الخاصة بالسادة آل عبيد في سوق الحميدية، حيث تعرفت على عميدها وصاحبها، واشتريت منه ما تيسّر لطالب محدود النفقة من الكتب، وكان يرحّب بي ويكرمني، وأجد في مكتبته أفلاذ كبد دمشق من علمائها ومثقفيها ووجهائها، وما سمعت بأحد منهم إلاّ ورأيته يتردّد على تلك المكتبة ويجلس إلى صاحبها. ثم أذكر أنني كنت، والكلام على الحرب الحبشية، أتجوّل في محلة وميدان (السنجقدار) حول مدخل سوق الحميدية، فأستمع إلى صوت مجلجل مدوٍ لأغانٍ حماسيّة صاخبة تنبعث من دكان متوسط يبيع عشرات من الأسطوانات المنوّعة من (الشمع)، إذ لم تظهر الأسطوانات والأشرطة الموسيقية والغنائية التي جدت بعد ذلك لا قبله.
الأغاني التي تتعالى من دكان ذلك البياع كانت تجمع الجمهور المارّ عليها وحولها، لأنه قد ركب أول مكبّر كهربائي تتعالى به موسيقى الأسطوانات ونشيدها، فتملأ أجواء الساحة كلّها، حتى لتسمع من أقاصي شارع النصر ومداخل سوق الحميدية، وما أحاط بهما وأشرف عليهما من المنازل المجاورة.
كانت تلك الأغاني للمغني السوري الشهير يومئذ (سلامة الأغواني)، وكلها عن حرب الحبشة والتهليل لها والتنصير لها، وهي تدوي بصوته الأجشّ المتماوج المضطرب في طربه وجرسه وحماسه وموسيقاه، وكنّا نقف أمام ذلك الدكان وكلّنا قلوب واجفة لما نسمع، وتقف النسوة المارّات أيضاً على الرصيف المقابل للدكان، وبينه وبين الشارع العام، الذي تصخب عرباته ومشاته وأصوات المنادين على بضائعهم المحمولة على عربات أو مكوّمة على الرصيف، مسافة طويلة، كل ذلك حماسة منّا للحبشة ورجاء بنصرها؛ لأن شعارات الأغاني والأهازيج من أسلحتنا التقليدية في كل معركة نخسرها.
من أغاني (سلامة الأغواني) هذه واحدة تحيّي أبطال الأحباش في معركة (عدوة) التي جرت في الحرب الحبشية الأولى من القرن الماضي، وفي أسطوانة أخرى تحية لهيلاسلاسي، وفي أخرى تحية لعدد من قوّاد قبائل الحبشة بأسمائهم، أتذكّر منهم الآن (الراس كاسا). وهكذا كانت عواطفنا يومئذ مع جارتنا الحبشة وضدّ موسوليني الهاجم عليها والمحارب لها. ولقد ذهبت كل آمالنا كالعادة مع الريح ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
ولا أزال أتذكّر ظروف الحرب الإيطالية الحبشية التي اندلعت في منتصف أعوام الثلاثينيات الميلادية، وما أحاط باندلاعها من زلزلة سياسية واقتصادية في مناطق حوض البحر الأبيض والشرق الأوسط والبحر الأحمر، وكان الزعيم الفاشي موسوليني يومئذ في ذروة صولته وعنفوان ثورته الفاشية التي قلب بها أوضاع بلاده وزجّها في أقوى صراع أوروبي بينه وبين فرنسا والنمسا ثم مع بريطانيا، وكان في ذلك الصراع حليفاً ونصيراً لدكتاتور ألمانيا الزعيم النازي أدولف هتلر، الذي وقف مع حملته على الحبشة وغزوها وضمّها إلى مستعمرته (أريتريا)، وربطها مع الصومال الإيطالي بالتاج الإيطالي، كجزء من الإمبراطورية التي سمّاها الرومانية إحياءً لمجد روما القديم ومستعمراتها التي غَبَرت عليها مئات السنين. وكانت قناة السويس ممرًّا ومعبراً لتلك الحملات المسلّحة التي تتدفّق من إيطاليا وليبيا عبرها إلى ميناء مصوع على البحر الأحمر، في صخب إذاعات وصحف وخطب موسوليني، فتلهب المنطقة كلّها بلظى تلك الأعاصير والزوابع، وكانت المعارك قد تخطّت حدود أرتيريا متوغّلة في جبال ومقاطعات وأودية الحبشة في طريقها إلى (قندار) و (عدوة) والعاصمة أديس أبابا.
وكانت مصر تضطرب بما يجري حولها وعبر قناتها ومياهها، وقد حشد الإنجليز على ممرات الحملة الغازية مفارز من قواتهم البريّة والبحرية والجوية، فحمي وطيس الصراع بين الطرفين على الإعلام والصحافة والإذاعات، وذهبت صيحات عصبة الأمم في جنيف على موسوليني وعلى أنصاره أدراج الرياح، والتهبت صفحات الصحف العالمية بأسرها بأخبار هذه الحرب في الحبشة، وبأنها مقدمة لحرب عالمية ثانية لا محالة، فشغلت الدول بهذه الزلازل، كل دولة منها بمقدار نصيبها من القرب من وهج نيرانها أو بعدها عنها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :620  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 68 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.