مراسم الدفن وموكب الجنازة |
وأتذكر يوم مراسم الدفن، وكيف جرى موكب الجنازة، فقد توافدت على بغداد وفود كثيرة من كل أنحاء العراق وغيرها، وتقرر أن تحمل الجنازة عربة ملكية، ومشت صفوف المعزين خلفها، وسرنا نحن معهم وحولهم، وأتذكر أمين العاصمة "بغداد" وكان يومئذ الوزير أرشد العمري، وكيف كان يجول ويصول على موجات الجماهير التي كادت أن تكتسح المشيعين في حماسها الحزين. وأعود إلى "الهوسات" التي انطلقت في شارع الرشيد ضحى يوم الحادث، وكيف سارت في أهازيجها وولولتها وصخبها تتقدمها فرق اللطم ونسيجها حملة السيوف إنها كانت تهزج وتردد أهزوجة تكاد أن لا تتغير وهي "غازي.. غازي.. غازي" تتعالى مرتفعة في أجواء الشارع، فترد عليها النساء بالندب والولولة والنحيب، وأن شاعراً من شعراء تلك الهوسات كان يقود هذه المواكب وينشدها ما تردده خلفه ويثير بها حماسها، ومن هوساته التي لا أزال أتذكرها قوله عندما رفعته الجماهير على أكفها وكان يلبس "شماغاً" أزرق وعقالاً كبيراً: |
الله أكبر يا عرب "غازي" فقد من داره |
وارتجت أبواب السماء من صدمة السيارة |
|
فتتلقف الجماهير هذه الأهزوجة، وترفع بها عقائرها مترنحة، صاخبة، ترددها في أداء متشنج صاخب، وتسير ترددها حتى يشير إليها الشارع نفسه أو سواه إشارة أخرى، فتوقف معها للاستماع بما لديه، فينشدهم تهويسة ثانية ينطلقون بها وفي مسيرتها على نحو ما كان بعد ذلك. وانقضى اليوم كله وبغداد في حال لا يمكن أن يصدق واصفها ما كانت عليه، وقد عدنا في المساء إلى دار ضيافتنا نستمع إلى ما قرر أن يكون برنامجاً لليوم التالي، فأخبرنا الدكتور زريق أن زيارات مقترحة للوزارات والوزراء في مكاتبهم ستتم بعد ثلاثة أيام بعد أن تهدأ هذه العواصف، لنتعرف على كل وزارة ونجتمع بوزيرها، على أن نقوم في اليوم التالي بالتوجه بدعوة من أمانة العاصمة إلى المكان الذي حصلت فيه الفاجعة لنرى آثارها الباقية، كأنهم كانوا يؤكدون لجماهير من خاصة الناس ومن وفود التعزية أن يتوجهوا إلى ذلك المكان ليشاهدوا العامود الكهربائي الذي التوى وأصاب الملك وهو خلف عجلة القيادة، فشج رأسه وأفقده الحياة، ويبددون بهذه الزيارات الشائعات الشعبية التي انطلقت في كل مكان هادرة مزمجرة بأن الحادث مفتعل، وأن الاستعمار البريطاني كان وراءه، وأن الصدمة التي حصلت والملك عائد من محطة الإذاعة التي أنشأها في مقر الزهور ويشرف عليها بنفسه، ويذيع منها الأخبار والانتقادات الشنيعة لبريطانيا، وكان قضاءً وقدراً، فقد كان كعادته مسرعاً سرعة يعرفها من يعرفه، واصطدم بذلك العامود، فالتوى فوق السيارة فأصابه في رأسه، فكان في ذلك القضاء على حياته. |
ولقد وقفنا حول ذلك العامود يوم ذهبنا لنشاهده، كما دعينا إلى ذلك، ووجدنا ضابطاً يشرح لمن يجيء الحادث ويشير إلى آثار عجلات السيارة، وإلى العامود نفسه وكيف التوى وهوى على رأس الملك، الذي كان معه مرافق لم يُمس بسوء، لكنه غاب بعد أيام ولم يسمع عنه شيء بعد ذلك أو هكذا قيل. |
ولقد كتب الكتاب والمؤرخون في العراق والمعلقون في الصحف الأوروبية الشيء الكثير عما شاع وذاع عن مقتل الملك غازي، وتناوله كل منهم من الوجهة التي تكاملت فيها له صورة ما حدث وجرى. |
الطبيب الإنجليزي الذي كان طبيباً خاصاً للبلاط الملكي العراقي، كتب بعد ذلك بضع مقالات أتذكر أني قرأتها، ذكر بعض هذه الشائعات، وطبعاً دحضها وبرهن على أن الموضوع قضاء وقدر وتسرع في القيادة المعروفة عن الملك، والتي كان الناس دائماً يلاحظونها ويتحدثون مستلطفين الله من عواقبها، ولا شيء غير ذلك. |
الجماهير العراقية في الموصل كما قلنا عندما اتصل بها الخبر محاطاً بتلك الإشاعات الصاخبة تدفقت في هوسات مزمجرة وقضت على القنصل البريطاني هناك، وبقيت جميع المدن العراقية تفور بلهب الكارثة الذي ترك آثاره يومئذ في كل مكان. |
في الكلام عن التعازي والصلات بين العائلة الهاشمية في العراق والعائلة السعودية في الرياض، أتذكر يوم توفي الملك فيصل بن الحسين الأول، الذي توفي في مدينة بيرن عاصمة سويسرا، وفي جناحه الخاص بالفندق الشهير بتلك العاصمة باسم "بلفيو"، وكان قد عاد لتوه من رحلة طائرة مستعجلة، ذهب فيها إلى بغداد ليطفئ بواقي اللهب الذي أحدثته الثورة الآشورية في شمال العراق، والتي اندلعت في غياب الملك فيصل، وكان نائبه يومئذ ولي عهده وابنه الملك غازي، فجمع مجلس الوزراء وحقق في الأخبار التي جاءت عن تلك الحركة الآشورية، وتشاور معهم وأحضر المستشارين الإنجليز الذين كانوا في ذلك العهد في وزارة من الوزارات، فناقش الملك غازي تلك الاضطرابات وأسبابها ومهيجيها، وأصدر أمره للجيش العراقي بأن يقضي على الحركة قضاءً تاماً، بعد سماعه ما سمع وتوافر الأدلة على افتعالها، وأن أيدي أجنبية صريحة ظاهرة كانت وراءها، فضج الغرب بأسره في صحافته وإعلامه، وكان الملك فيصل بن الحسين يومئذ كما قلنا خارج بلاده في أوروبا، فأسرع بالمجيء إلى بغداد للوقوف على أذيال تلك الحركة والتأكد منها، فوجد أن ابنه قد قام بما يجب أن يقوم عليه. |
وعاد الملك فيصل بعد ذلك بالطائرة مرة أخرى إلى "بيرن" لإكمال استجمامه ونقاهته، فقد كان منهوك القوى ثقيل التبعة مما كان يجري هناك، وفجأة خرجت الممرضة التي دخلت عليه بالدواء وهي تصيح على من كانوا مجتمعين من رجالاته في صالون الفندق، بأن يسرعوا إلى الملك فهو فاقد الوعي، وكان هناك الدكتور "قدري" طبيبه الخاص وتحسين العسكري مرافقه الخاص، وكان هناك الأمير عادل أرسلان وعدد آخر من رجالات العراق، دخلوا على الملك في سريره فوجدوه قد قضى نحبه، وعرف العالم ذلك في البرقيات التي تبودلت ونشرت، وحزن الملك عبد العزيز حزناً خاصاً لا يعرفه إلا من عرف أقدار أمثاله من الرجال، فقد سبق له أن اجتمع به في مؤتمر على الباخرة الإنجليزية المسماة "لوبين" في مداخل مياه شط العرب خارجاً من حدود العراق وبعيدة عن المياه الكويتية والسعودية، ولهذا أصدر برقيات التعازي إلى كل من الملك غازي يوم نودي به ملكاً مكان أبيه، وإلى رجالات العراق، وإلى الأمير عبد الله بن الحسين في الأردن فهو شقيق فيصل، وإلى الأمير عبد الإله والأمير زيد بن الحسين، وأتذكر أن جريدة أم القرى، وكان يشرف عليها يومئذ الشيخ يوسف ياسين، ويشرف على تحريرها الأستاذ رشدي ملحس، والأستاذ محمد سعيد عبد المقصود، قد نشرت برقيات التعازي الحارة بين الملك عبد العزيز وبين من أشرت إليهم من ترجمة كاملة لحياة الملك فيصل بن الحسين، أمر الملك عبد العزيز أن تكون ضافية يكرم بها لمكانته وعلو قدره، ولما كان بينه وبين الملك عبد العزيز في ذلك الوقت من ود وإخاء صادق. |
وبالمناسبة فقد تأثرنا ونحن نقرأ جريدة أم القرى لما سمعنا عن الملك فيصل بن الحسين، وكان ذلك في أوائل الثلاثينيات الميلادية، وكان صديقي الأستاذ علي أحمد باكثير قد حل بمكة وأقام بها، وبدأ يشارك في بعض نشاطها الأدبي مع أصدقائه الأدباء الآخرين الذي أحاطوه بالترحيب والتأهيل، وقد أذكر بينهم أصدقاءه الأستاذ محمد حسن كتبي، والأستاذ محمد حسن فقي، والأستاذ محمد سعيد عبد المقصود، والأستاذ محمد سعيد العامودي، وكنت الصديق الآخر له بينهم. |
الأستاذ علي أحمد باكثير كنت أزوره يوم صدرت جريدة أم القرى، وفيها ذلك التأبين وتلك الترجمة الضافية والتكريم البالغ والثناء العاطر على الملك فيصل بن الحسين، وبرقيات الملك عبد العزيز بهذا الخصوص، فوجدته قد بدأ في إنشاء قصيدة رثاء أتذكر الشطر الأول من مطلعها يقول فيه: |
حائط العرب على العرب انهدم |
ولعلي أذكر أيضاً أن الأستاذ محمد حسن فقي قد كتب كلمة رثاء حزينة أخرى. |
وهكذا كان الرعيل المعاصر الأول من رجالات العرب وملوكهم وأمرائهم وزعمائهم على مثل هذا المستوى من الشمم والنخوة والإخاء والقربى. |
وكان العالم العربي في تلك الأيام "على دين ملوكه"، فكانت المحبة والصداقة والإخاء راسخة في قلوب جماهيره، يتوادون ويتراحمون ويتزاورون، ويعلي كل منهم من مقام الآخر بلا حسد ولا حقد ولا شتائم ولا مهاترات، هذا إذا لم نتعرض إلى ذكر حمل السلاح بين حكوماتهم كان ذلك (يوم كنا ولا تسل كيف كنا.. نتهادى من "الإخاء" ما نشاء) رعى الله تلك الأيام ورعى من مات فيها ومن لا يزال حياً، وغفر الله لجميع من مضى ووفق الله جميع من بقي، من جماهير الأمة العربية وقادتها، وألهمهم الرشد والرشاد. |
|