شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الزعيم الاقتصادي المصري طلعت حرب
والأسباب السرية لزيارته الخاصة لمكة المكرمة ولقائه بالملك عبد العزيز
بعد تخرجي من مدرسة الفلاح في عام 1353هـ/1933م كانت العلاقة السياسية يومئذ بين المملكة العربية السعودية والمملكة المصرية في عهدي الملك عبد العزيز آل سعود والملك فؤاد الأول ملك مصر مقطوعة، على أثر الحادث المشهور الذي سمته الصحافة المصرية يومئذ بحادث (المَحْمل). وكان الملك فؤاد منذ استتب الأمر للملك عبد العزيز في الحجاز، وأصبح الحجاز جزءاً من الكيان السعودي الكبير المسمى بالمملكة العربية السعودية، قد تردد وامتنع عن الاعتراف بالوضع الجديد في الحرمين الشريفين، فحاول الملك عبد العزيز بشتى الوسائل أن يزيل من ذهن الملك فؤاد ما يساوره من جرَّاء ذلك، إلا أنه لم يفلح.. ذلك أن الملك فؤاد كانت له أفكار في تلك الأيام خيالية، وكان مصطفى كمال أتاتورك في تركيا قد ألغى الخلافة في تركيا، فهجس في ذهن الملك فؤاد أنه جدير بأنه يعتلي هذا المنصب الصوري الذي لم تُبِق الأيام له مهابة ولا قدراً، وكان يظن أنه بامتناعه عن الاعتراف بالملك عبد العزيز تكون الساحة خالية له للقيام بحركة التفاف، عسى أنه يكون مرشحاً لهذه الخلافة، وقد عمل من أجل ذلك كثيراً سراً وعلناً.
وكان الملك عبد العزيز يعلم علماً كاملاً أن الشعب المصري بأسره يحبه ويقدره ويحترمه، وأنه متعلق تعلقاً رائعاً بالحرمين الشريفين، لا يستطيع الملك فؤاد ولا غيره أن يؤثر بتلك العاطفة الدينية والأخوية التي اشتهر بها الشعب المصري في جميع أدوار حياته.
ولهذا فقد كانت علاقة المملكة العربية السعودية بالشعب المصري في تلك الأيام، ولا تزال، علاقة متسمة بالأخوة والصداقة والترحيب والعطف، وكانت أبواب المملكة مفتوحة للحجاج الذين يلقون كل تكريم وترحيب.
وكان الملك فؤاد قد أصر على أن يصحب الحج المصري في كل عام، ما كان معتاداً أن يصحبه ممَّا يسمى بالمَحْمل المصري. والمحمل المصري هو بعثة عسكرية مسلحة تصاحب هذا المحمل الذي كان عبارة عن هودج من خشب ملبّس بالحرائر وغيره، ومحمول على جمل له تاريخ عميق، يجري إرسال تلك البعثة، أو الحملة العسكرية في الأصل، للمحافظة على سلامة حجاج الشعب المصري، لأن السلطات التركية والمحلية في الحجاز -قبل العهد السعودي- لم يكن باستطاعتها فرض الحماية والأمن والسلامة لحجاج الشعب المصري. وكانت البلدان العربية الأخرى ترسل أيضاً هيئات عسكرية مسلحة تصاحب حجاجها لنفس الغرض الذي يجيء له المحمل المصري.
ولذلك كان هناك المحمل الشامي، يجيء من دمشق ماراً على فلسطين والأردن، فيلتحق بهذه الحملة المسماة بحملة المحمل الشامي، جماهير الحجاج من تلك البلدان تلمساً للسلامة والعافية من تلك القوى من البادية الذين جرت العادة أن يتعرضوا للحجاج الوافدين في مواسم الحج، وينتهزوا الفرص لسلبهم ونهبهم والتعرض لهم، بل قد يتعدى الأمر إلى قتل من استعصى منهم عن تسليم ما لديه من مال.
كما أن هناك ما يسمى بالمحمل العراقي، والمحمل اليماني، والغرض من كل هذه المسميات أن توفر تلك البلدان قوة تصاحب حجاجها وتدافع عنهم حيث تصاحبهم إلى مكة المكرمة وتعود معهم إلى بلدانهم بإيابهم.
فلما وصل الملك عبد العزيز الحجاز بسط أمناً وسلامة لا نظير لهما في تاريخ هذه الجزيرة منذ مئات السنين، فأصبحت تلك القوة المسلحة التي تأتي على ما تعودت عليه من المدافع والأسلحة والبنادق المصاحبة لها غير ذات موضوع، بصرف النظر عن إيمان الحكومة السعودية بأن ما يجري لبعثة المحمل ومصاحبته، وما يحاط به من عادات لا يقرها الإسلام ولا الدعوة السلفية المطهرة التي يدعو إليها الملك عبد العزيز، ولذا فقد طلب من الحكومة المصرية أن لا حاجة لهذه المظاهرة العسكرية، فإنه مسؤول عن سلامة الحجاج وكفيل بها، وزعيم بأن يبسط الأمان والاطمئنان والسلامة على الجزيرة العربية، بما يوفر لهم إلغاء هذا المحمل وأداء فرائض الحج في أمن وسلام.
أوعز الملك فؤاد إلى الصحافة المصرية بأن تهاجم الحكومة السعودية مهاجمة شديدة على إبطال شعار من شعائر الحج فيما يزعمون، ولم ترد المملكة العربية السعودية على ذلك. حتى إذا جاء موسم الحج وجاءت البعثة العسكرية المصرية المسماة بالمحمل، وغض الملك عبد العزيز طرفه عن منعها، وسمح لها أن تستمر فيما كانت تستمر فيه، طلباً لصداقة مصر وترك الموضوع يحل نفسه بالزمن.
جرى في أيام التشريق بمدينة منى، أن خرج المحمل بين جماهير وآلاف الحجاج بموسيقاه وطبوله ونفيره وأسلحته، يشهر ويظهر أسلحته بين الحجاج، فكبر ذلك على زعماء ومشايخ القبائل العربية النجدية، ورأوا في هذه المظاهر إقراراً لبدعة لا يليق في عهد الملك عبد العزيز أن تستمر، خصوصاً ما يتعلق فيها بالطبل والزمر والأغاني في المشاعر الحرام من عرفة ومزدلفة ومنى ومكة المكرمة، ثم بعد ذلك في المدينة المنورة، فاصطدمت الحامية المصرية العسكرية حول المحمل، وهي في استعراض في منى أيام التشريق، ببعض قوى "الإخوان" الذين استنكروا ما رأوا وما سمعوا، وجرى بين الفريقين السعودي والمصري تلاسن ومبارزة كلامية في تحليل هذه المظاهر الإسلامية أو في تحريمها.
ثم ما لبث هذا النزاع أن انتقل إلى إطلاق النار من رجال المحمل على الإخوان، فكادت الكارثة في مدينة منى، وفي أول يوم من أيام التشريق أن تحدث منها ما لا تحمد عقباه، لولا تدخل الملك عبد العزيز بنفسه وإرساله لابنه ونائبه في الحجاز المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز الذي كان شاباً في تلك الأيام، وكان مسؤولاً عن سلامة الحج والحجاج، فتوجه في الحال على وجه قوة إلى مكان الحادث، واخترق الجماهير المتنازعة، وأمر بالكف عن إطلاق النار، وألزم القوات السعودية بالانسحاب حالاً، ورجا من الحملة المصرية العسكرية أن تكف عن إطلاق النار... وتغلب على الموقف بحكمته وحسن تدبيره، فانطفأ الحريق واللهيب، وقرر الملك عبد العزيز على إثر ذلك أن يمنع المحمل في الأعوام المقبلة، فزاد في حنق الملك فؤاد وفي إثارته، فأصر على عدم إنشاء علاقة سياسية دبلوماسية بين البلدين.
وجرت محاولات كثيرة من قبل الملك عبد العزيز لإصلاح ذات البين لم تفلح، فترك الملك عبد العزيز الأمر يجري على ما كان جارياً، وظل يوصي بحجاج الشعب المصري الوافدين على الحجاز في مواسم كل عام، وأن يبذل للحجاج المصريين كل كرم وضيافة وحرية، وأن تترك العلاقة السياسية إلى أن يحين أوانها. ومرت الأعوام فرأت الحكومة المصرية أن تتلمس وسيلة لإنشاء جوّ ودّي كانت السعودية حكومة وشعباً تترقبه وتنتظره وترحب به. فأوعز إلى الزعيم الاقتصادي المصري المشهور طلعت حرب باشا أن يزور المملكة، وأن يجتمع فيها بملكها وحكومتها، وأن يبدأ مساعي إعادة المياه إلى مجاريها بإنشاء فندق في مكة، وإنشاء خط طيران بين القاهرة وجدة، وأن يُنشىء بنكاً يسمى بنك مصر، فرعاً لبنك مصر الشهير بالقاهرة، وكانت هذه الغاية هي الظاهرة. أما المستتر منها فقد كان السعي لإعادة الصفاء والمودة بين قصر عابدين وبين المملكة، وذلك بسبب الحملات الصحفية المصرية الكثيرة التي شنتها الصحافة في القاهرة ضد سياسة الملك فؤاد ومقاطعته للتعاون مع الملك عبد العزيز، الذي كان في نظر تلك الصحافة داعياً من دعاة السلام والسلم والأخوة الإسلامية بين جميع البلدان العربية، وأخصها مصر وشعبها وحكومتها ومن انتسب إليها وتسمى باسمها.
وطلب طلعت حرب باشا من السلطات السعودية السماح له بأداء العمرة وبزيارة الأماكن المقدسة، فرحب الملك عبد العزيز بذلك، ووصل إلى جدة على طائرة خاصة لزيارة المملكة بعد ترتيب متفق عليه لهذه الزيارة.
قامت طائرة طلعت باشا من مطار "ألماظة" بالقاهرة، ولم تستطع أن تتجاوز "الطور" في سيناء، فقد كان الطيران في تلك الأيام في أول عهد الناس به وبالطائرات والطيارين. ومن الطور في الرحلة الثانية للطائرة إلى مدينة الوجه، ثم بعد ذلك على ينبع أو رابغ ثم إلى جدة، حيث هيىء لها مكان يقع أمام وزارة الخارجية السعودية اليوم على الضفة الغربية من البحيرة الواقعة هناك.
ولم يكن هذا المكان بما يمكن أن يسمى مطاراً ولكنه هكذا كان. ورحب بطلعت حرب باشا وبوفد بنك مصر المصاحب له، وجرت لهم احتفالات كثيرة، بينها احتفال في مكة أقامه وزير الدولة والمالية في تلك الأيام الشيخ عبد الله السليمان رحمه الله، وألقى عبد الله بلخير في أحد هذه الاحتفالات قصيدة ترحيبية بالوفد الاقتصادي المصري، تعرَّض فيه على غير معرفة ولا اطلاع صاحب الدعوة الشيخ السليمان، على ما تطرق من قصيدته إليه، من استنكار القطيعة والجفاء وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، منذ بضع سنين وعدم استئنافها وإعادتها على ما يرجوه الشعبان السعودي والمصري من صميم قلوبهما. وكانت القصيدة مفاجأة للضيوف وللمضيف، فقد كان مستهلها ترحيباً تقليديا من شاب متحمس لا يزال طالباً في مدرسة الفلاح وفي عمر حوالي بضع عشر سنة، وعز عليه ما كان جارياً بين البلدين وكان مطلعها يقول:
يا حَمام الحِمَى تَغَنَّ بشعري
في ربى الروض بكرة وأصيلا
وارفع الصوت حين تسجع حتى
يرد الصوت دِجْلةً والنيلا
علَّ مصراً تصغي فتسمع ماذا
في ربوع الحجاز أمسى مقيلا
وتمضي القصيدة على هذا النحو. وبعد أبيات أخر من نفس الترحيب والتأهيل هذا، جاء المقطع المفاجىء للضيف والمضيف وللسامعين.
عجباً موقف الكنانة منا
ما عرفنا لسره تعليلا
قرب الأبعدون منا وصدت
وتمادت فما عسى أن نقولا
أجدير بها الصدود وحتام
أما آن للجفا أن يزولا
قسماً بالذي برى الكون
لا يملك فرد سواه فيه فتيلا
لو مشت مصر نحو "مكة" شبراً
لمشت "مكةٌ" إلى "مصر" ميلا
وتزول الدهشة من السامعين ومن الضيف المصري الكبير عند سماع هذا المقطع، ويعلو التصفيق وطلب الإعادة، فيستمر الشاعر في هذا العتاب فيقول:
قد صبرنا وسوف نصبر حتى
يقضي الله أمره المفعولا
وإذا ما "الحبيب" أسرف في الهجر
فقل "للمحب" صبراً جميلا
وذهل الوفد وذهل المضيف بأن يتعرض شاب صغير متحمس في حفلة كهذه لهذا العتاب، الذي قد يظن إنه كان موعزاً به أو كان مقصوداً أن يسمعه الوفد المصري. والواقع كان عكس ذلك، إلا أن وقعه قد كان على الحاضرين مؤثراً لحداثة سن الشاعر، ولحماسته في إلقائه، ولمجيء هذا العتاب شعراً في مناسبته الخاصة، إذ لم يكن يعلم إلا القليلون أن الغرض من وراء إيفاد البعثة هو جس النبض لإعادة العلاقات الدبلوماسية بعد أداء مهمتها الاقتصادية.
وقام الزعيم المصري طلعت حرب باشا يصافح الشاعر ويثني عليه، فكأنما ترجم ما في صدره، وشكر الوزير السعودي الشيخ عبد الله السليمان بدوره الشاعر على هذه الفرصة التي اهتبلها، وألهب فيها ما كان يجول في نفوس الطرفين من محبة وصداقة، تربط الشعبين برباطها التقليدي عبر العصور.
وقام طلعت حرب باشا قبل سفره من الحجاز في تلك الرحلة باستدعاء الشاعر، وأخذ منه القصيدة ودعاه إلى تناول الغداء عند الوفد المصري في دار الضيافة السعودية في مكة.
مرت الأيام بعد هذا اللقاء، وشاء الله أن أنهي دراستي بالفلاح وألتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت بعد ذلك، وجاء طلعت حرب إلى بيروت ومعه النسخة الأولى من أول فيلم أخرجته شركة بنك مصر للسينما، وهو فيلم "وداد" للسيدة أم كلثوم لعرضه في دور السينما في بيروت وسوريا، وبعث إلى الشاعر في الجامعة يدعوه لتناول الغداء معه في فندق السان جورج، وقد كان يتتبع أخباره حتى عرف أنه قد التحق طالباً بالجامعة الأمريكية في بيروت. وذهب الشاعر فرحب به الزعيم المصري الكبير ترحيباً فيه الكثير من العطف والحنان والمحبة والفرحة، بأنه قد أصبح تلميذاً في أكبر جامعة في الشرق الأوسط، حتى إذا انتهى الغداء قال له: إنه مدعو إلى مقصورته الخاصة بدار سينما "الأمير" التي ستبدأ عرض فيلم "وداد" بعد ظهر غد، وأنك ستكون معي في "بلكونتي" الخاصة مع ضيوفي الخاصين ومع زملائك السعوديين، وكانوا يومئذ أفراداً.
وفرح الشاعر بهذه اللفتة الكريمة وبأنه دعي إلى فيلم لأم كلثوم، وبأن الداعي هو صاحب المؤسسة التي أخرجت هذا الفيلم، وأتبعته بعدد من الأفلام العربية والإسلامية الأخر.
- وقال له طلعت حرب باشا مبتسماً: أتعلم يا ابني أن قصيدتك التي حييتنا بها في مكة منذ بضع سنوات، كانت بين أوراق تقريري الذي كتبته سراً في رحلتي تلك بإيعاز من الملك فؤاد، لجس نبض الحكومة السعودية لإنشاء علاقة دبلوماسية وإعادة كسوة الكعبة؟
إن قصيدتك كانت بين أوراق ذلك التقرير الذي قلت فيه للملك فؤاد ولحكومته بأنه حتى الشباب الصغار في المدارس يستنكرون القطيعة والجفاء والفرقة بين بلدين شقيقين متآخين هما مصر والسعودية.
كانت غبطة الشاعر بما سمع لا توصف، وما يظن في يوم من الأيام أن يسمع ما سمع، لأنه كان يصدر فيما قال عن حس عربي إسلامي طاهر لا علاقة له بالسياسة. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن العلاقة بعد ذلك قد تطور التمهيد لإعادتها من كبار رجالات البلدين حتى تمت، وانتهت وأزيلت المشاكل والخلافات والحزازات بين الملكين وأعيدت الكسوة المصرية للكعبة على ما كانت عليه مما هو معروف ومستمر بعد ذلك. والعلاقة بين البلدين في الواقع عبر التاريخ بأسره ثابتة منذ الآف السنين، مددها الإسلام بالمصاهرة بين النبي ومصر، ثم بعد ذلك بالفتح المبين ودخول الإسلام، ثم بعد ذلك بحمل مصر للواء الإسلامي والعربي منذ الموجات التترية والصليبية المتوالية التي كانت تكر على بلاد العالم العربي في الشام وفي مصر، حتى استقرت الأمور ولله الحمد. وكان لمصر وللمملكة السعودية الأولى أثرهما في حماية الشرق الإسلامي من الغزاة والمعتدين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1204  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 25 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.