شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
آه وأوّاه من الحاجب
كثيراً ما يلاقي الإنسان صعوبة في هذا العصر في زيارة صديق له عندما يكتب لهذا الصديق أن يرتقي في سلم الدولة والمجتمع سعادة "البيه" مشغول أو غير موجود أو عنده ضيوف، أو أعطى أمراً بعدم الزيارة. يقول له البواب أو السكرتير أو السكرتيرة. بالطبع يمكن للمرء في هذه الحالة أن يهاتف صاحبه ليرتّب للزيارة، وهو أمر لم يتيسّر في العهود الغابرة. كان عندها يصبح المرء كلياً تحت رحمة البواب أو الحاجب.
عانى الكثيرون من الشعراء والأدباء، من هذه المحنة فنفسوا عن شكواهم من ذلك بالشعر الذي بعثوا به لصديقهم. أصبح سوء أدب الحاجب من مظاهر الحياة المترفة، وكذا غدت الشكوى منه. وهو ما فعله أحمد بن يوسف عندما عبر عن تذمّره من ذلك إلى صديقه موسى بن يحيى بعد أن منعه حاجبه من الدخول إليه، فبعث إليه بهذه الأبيات:
أتيتك مشتاقاً وما لي حاجة
سواه وشكري في اللقاء موفرُ
فلم أر إلا آذناً متلوناً
يقدم رجلاً مرة ويؤخرُ
ومن دون باب يلوح خلاله
صفائح ساج والحديد المسمرُ
فأبت بما لو يستقل ببعضه
أبان لخرّ الشاهق المتوعرُ
ولست بآت أو أرى منك صولة
يذلّ لها وإلى الحجاب ويقصرُ
تأثر شاعر آخر من معاملة الحاجب لدى الحسن بن وهب، فاشتكى إليه بثلاثة أبيات يحثّه فيها على تأديب حاجبه ووضع حد لسوء أدبه وجفوة تعاملة مع الزائرين، فقال له:
قد كنت أحسب أن طرفك ملني
ورميت منك بجفوة وعذاب
فإذا هواك على الذي قد كان لي
واذا بَلَّيتُنا من البوابِ
فاعلم -جعلت فداك-غير معلم
إن الأديب مؤدِّب الحُجابِ
يورد الثعالبي في يتيمة الدهر أبياتاً من هذا القبيل كتبها الحسن الأسدي وبعث بها إلى أبي الحسين الإخشيدي يشكو فيها من الحاجب الذي دأب على منعه من زيارته مرة تلو الأخرى، بأغلظ الألفاظ التي
كان يطلقها كعواء الكلب في وجع الزائر، مما يستوجب كما -قال الشاعر- طرده واستبعاده من بابه حرصاً على كرامة الضيوف. يقول الأسدي:
يا علم المكرمات والسؤدد
إليك أشكو بوابك الأسود
يبعدني كلما دنوت وما
حق كر يم الوداد أن يبعد
كلب يهر الضيوف إن طرقوا
فناءك الرحب كالح أعقد
أبعده وأنف الخبيث عنك كما
ينفي القذى عنه خالص العسجد
أو لا فلن تستطيع تنظيم ما
عنك من المكرمات قد برد
وما انتفاع الورى ببحر ندى
تذاد عنه العطاش لا تورد
إذا كان شعراء الأمس قد عانوا من الحاجب، فشعراء اليوم فاقوهم في معاناتهم مما هو أسوأ من الحاجب، ألا وهي الآلة، إنها العدوّ الأمثل للشعراء، الشعراء لا يحسنون استعمال الآلات، والآلات لا تحسن معاملة الأشعار. لقد سمعت عن شعراء تعاطوا شتى المهن، من الطب والمحاماة الى السياسة وتجارة السلاح، ولكنني لم أسمع حتى الآن عن حداد أو سمكري ينظم الشعر. وسيبقى هذا الباب موصداً في وجه مصمّمي الكمبيوترات ونوافذها الرهيبة التي استطاعت أن تستوعب حتى قواعد النحو والصرف، ولكنها بقيت عاطلة أمام ديوان العرب.
مثلما تصدّت وتمنّعت الآلة وتحجّبت وتوارت أمام الشاعر، وقف الشاعر مذهولاً أمامها، يصبو إلى وصالها فترده، يمد يده اليها فتصفر في وجهه، يداعب أذنها فتدق بإنذارها، يلطمها على خدها فتقول "خطأ، أعد العملية". يكلّمها بالحسنى فتكتب على شاشتها "كلمات غير واردة. حاول مرة أخرى". يحاول مرة أخرى، فنقول: "خطأ! خطأ! خطأ! متأسفة! متأسفة! متأسفة! حاول مرّة أخرى".
وفي صدارة هذه القبيلة من القيان المدلّلات تأتي تلك الآلة اللعينة "الآلة المجيبة Answering Machine". تدير التلفون فتجبيك الآلة المجيبة: "الرجاء ترك رسالتك بعد الإشارة". لم تكفنا هموم التلفون فجاءتنا الآن هموم الآلة المجيبة للتلفون. وقد وقع في دوّامة هذه الآلة صديقنا الدكتور غازي القصيبيى، فنفث همومه بهذه الأبيات:
أيُّ الرسائل تستطيع وصولاً؟
ولديك بوّابٌ... ينامُ قليلاً؟!
أقعى على التلفون... كلباً ضارياً
لا شاعراً يخشى... ولا مسؤولا
يحمي الجميلة من ثقيل باردٍ
من ذا رأى حُسْناً يحب ثقيلا؟
ويضنّ بالوقت الثمين... يضيّعه
متطفِّل... بزَّ الأنامِ فُضولاً
أو معجب يهذي... ويحسب أنه
هو وحده... من يعشق العطبولا
يا أنت! هل غول جهازِك؟ أنه
بلع الرسائل... ما أشدّ الغولا!
قلنا له: "الأمر أصبح عاجلاً"
فأجابنا: "هي لا تحب عجولا"
قلنا له: "شيء خطير طارىء"
فاجابنا: "عذر السنين الأولى"!
لُعِنَ الذي اخترع الجهاز... وسلَّه
سيفاً على عُنق العِباد... صقيلا
أنا راحل "جودْ باي!" تلك رسالتي
أو فافصلي بوّابكِ المخبولا!
فأين سلطان الحاجب عفا الله عنه من سلطان "الأنسرنغ مشين"؟ ولكن الأديب السعودي عبد العزيز محمد الذكير رأى غير ذلك فى هذه المعدات الشيطانية. قرأ أبيات القصيبي فبعث إليّ بفاكس مستعجل يحمل فيه هذه القصيدة الإخوانية التالية، وقد ضمها كثيراً من الاقتباسات وختمها بشطر من القصيدة النبطية للشاعر السعودي محمد بن لعيون، "قال المعنى يا ملا واطول". وفيها يقول: "قلبي بحب الجادل العطبول".
يقول عبد العزيز الذكير:
لو يعلم "التكنيك" لهفة شاعر
روّى الصباح بشعره تقبيلا
لحنى وطأطأ رأسه متألّماً
لعذاب نفس قُتّلت تقتيلا
لو كان يعرف شاعراً ومعلماً
أو كان يفهم "قدم التبجيلا"
يا شاعراً ومعلماً و"مدبلساً"
"كاد المعلم أن يكون رسولا"
يا غازياً في الشعر عفّر آلة
"لمن اتخذت الصارم المفتولا"
همّ المليحة يا صديق تمنّع
صار الهوى بتمنّع مقبولا
و"الأنسرنغُ" يروم إيصال الجوى
"وكأنه آس يجسُ عليلا"
كانت "حفيدة فرنسيس" شمعة
ضاء المقطمَ نورُها والنيلا
و"البيجرُ" الهزاز كم من غادة
فيه تطارد قيسها المخبولا
و "الأنسرنغُ" وغيرها من عمرنا
جاءت لتنشر مسرحاً ومقيلا
فالطف بها يا شاعري وارسم لها
قلباً "يحب الجادل العطبولا"
وحدث للشاعر السعودي مقبل عبد العزيز العبسي أن قرأ أيضاً ما قاله القصيبي عن معاناته في مخاطبة "الأنسرنغ ماشين" وغزله لها، فأثارت في نفس الأخ مقبل قريحة الشعر، فبعث إلينا بهذه الأبيات بذات الوزن والقافية مهداة مع تحياته لأبي سهيل:
ماذا تريد من الغوازي يا فتى
الشعر لا يغري لهن عقولا
كلا...! ولا يحلو لهن مهذب
أتظن وجه الغانيات خجولا؟
لا... لن يكون جمال فداك مغرياً
والبعض يهدي درّة وخيولا
ولربما كان الأذى من شاعر
قد جرّ في أرض (الرفاع) ذيولا
أوحى لهن بغرمة محبوكة
فرفضن منك رسالة ورسولا
يهوى الأذى... لكن بروح فكاهة
تهدي لكفّ الشائعات طبولا
 
طباعة

تعليق

 القراءات :625  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 31 من 76
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.